عاد العالم من جديد يستعد للحرب ، ويتأهب للقتال . وانقسم العالم إلى معسكرين : تتزعم أحدهما أمريكا ، وتتزعم الآخر روسيا ، وتبذل كل زعيمة جهدها لتضم ما تستطيع من الدول الصغرى إليها ، وتساعدها بالمال والعتاد ، ورسمت كل أمة تقريبا خطتها إذا قامت الحرب القادمة ، وعلمت كل زعيمة من سيكون معها ، ومن سيكون عليها ؛ فما شأن الشرق وما موقفه وما يجب أن يكون عليه ؟ أسئلة تتردد وتتردد ، وأرى أنها لم تبحث البحث الكافي ، ولم يضع قادة الشرق خطتهم النهائية فى الإجابة عنها .
وقد سمعنا بعض القادة أمثال لال نهرو وأغا خان ، يرددون فكرة الحياد .
ومعنى الحياد أنه إذا قامت حرب بين روسيا وأمريكا لم ينحز الشرق إلى أحد المعسكرين وبقى بعيدا عن القتال . وهى فكرة بديعة لماعة لو أمكن تحقيقها ؛ فلو وقع قتال بين أمريكا واتباعها ، وبين روسيا وأتباعها ، وظل الشرق بعيدا عن هذا القتال ، لاستفاد فائدة كبرى ، إذ يستطيع فى هذه الفترة أن ينظم شئونه وبنمى موارده الاقتصادية ويحسن شئونه الاجتماعية ، ويتجنب ما تقتضيه الحرب من خراب في الأنفس والأموال ؛ فالحرب القادمة ستضعف
الغالب والمغلوب ، وتفلسهما وتعمهما بالخراب المالى والنفسى والاقتصادى والاجتماعى ؛ فإذا سلم الشرق من ذلك كله استطاء أن يكمل نهضته ويكمل استقلاله ويخر ج من هذه الأزمات سليما معافى ، وينتهز هذه الفرصة فيسترد ما فاته ويسرع في السير إلى الأمام ، حتى إذا انتهت الحرب كان فى مستوى لا يقل كثيرا عن مستوى الغرب ، ويكون فى حالة خير من حالته ، ويبنى مع البانين ويسترد اعتباره ومكانته ، ويكون قوة في العالم يعتد بها . ثم هو في تقريره هذا الحياد سليم التفكير قوى المنطق ، لأنه لا فائدة له من هذه الحرب ؛ لا يريد فتحا ولا غزوا ، ولا يريد غنيمة ولا كسبا . وكل من العسكرين يريد السيطرة على العالم والشرق لا يريد سيطرة . وكل يريد إذذلال خصمه والتنكيل به ، وأن تكون كلمته العليا وكلمة خصمه السفلى ، والشرق لا يريد شيئا من ذلك . وهو إذا دخل الحرب كان ذيلا لا رأسا ، وكان خادما ذليلا لا سيدا كريما . ففيم حربه ؟ .
ولكن يأتي السؤال الآخر وهو : هل هذا في الإمكان ؟ هل تتركه الحوادث يقرر مصيره ويختار سياسته ويرسم خطته ؟ أو أن الحوادث ستضطره إلى السير في جهة معينة
ولو لم يرضها ، فترغمه على أن ينضم إلى أحد المعسكرين كرها ؟ .
لو نظرنا إلى الحرب الماضية وجدنا الحالتين قد حدثتا فعلا ؛ فهولندة مثلا شاءت السلام فأرغمت على القتال واكتسحت بلادها رغم أنفها ، وسويسرة مثلا شاءت السلام فأحترمت إرادتها وخرجت من الحرب سليمة مستفيدة من وبلات المحاربين وخرابهم ويؤسهم وفقرهم ، وعلا شأنها ماليا وأدبيا ، فلم كانت هذه التفرقة ؟ .
يظهر أن الحياد ممكن لسبب من سببين . أولهما : أن يكون لدى المحايد من قوة السلاح والعتاد والجيوش البرية والبحرية والجوية ما يضطر كلا المعسكرين أن يحترم هذا الحياد ليأمن جانبه وليتجنب إثارة عدو جديد ذى قوة ومنعة . والثانى : أن يرى المعسكران المتحاربان جميعا أنهما يستفيدان من حياد المحايد أكثر مما يستفيدان من قتاله . ولعل السبب الثانى هو الذي أنقذ سويسرة من الحرب الأخيرة ، وجعل الفريقين المتحاربين يحافظان بل حيادها ؛
فلننظر فى ضوء هذا إلى الشرق ، هل له من القوة الحربية ما يجعل المعسكرين يخشيان بأسه فيقران بحياده ؟ لا أظن أن ذلك موجود ؛ فقواته الحربية لا تستطيع أن تقف طويلا أمام القوات الروسية أو الأمريكية إذا أراد كل منهما أن يستولي عليه . نعم إن له من القوة ما يستطيع بها أن يؤخر الزحف أياما ، ولكن النتيجة معروفة بينة
وأما السبب الثانى فلست أرى أن للفريقين المتحاربين من الفائدة ما يجعلهما يحتفظان بحياده ، بل بالعكس فإن ما فيه من آبار البترول وهو المادة الأولى للحروب وما فيه من خامات ترجح كفة من استولى عليها ما يغلب الظن بأن كلا المعسكرين سوف لا يحترم هذا الحياد ، وأنهما سيتسابقان فى الاستيلاء عليه ، ثم يكون ميدانا فسيحا قاسيا لحركات المد والجزر .
بقى احتمال ثالث ، وهو أن يعقد الشرق محالفات مع المعسكرين أعنى بين روسيا وأمريكا أساسها احترام الحياد
وعدم التعدى ، ولكن يأتي سؤال آخر ، وهو : هل لهذه المعاهدات قيمة فى هذه الأبام ؟ وهل إذا ظهر فى المستقبل لأحد المعسكرين أن مصلحته فى خرق المعاهدة ، وقف عند المعاهدة واحترمها ، أو انتهكها وضرب بها عرض الحائط .
ثم هل كل دول الشرق حرة في تصرفها ، تملك زمام أمرها ، وتدرس مسائلها من غير أى اعتبار ، وتقرر ما ينفعها وما يضرها من غير تدخل ؟ أو أن بعض دول الشرق مغلوبة على أمرها ملزمة بمعاهدات أو نحوها أن تنضم إلى أحد المعسكرين في الحرب ، وحينئذ لا يمكن أن يكون الشرق كله كتلة واحدة ولا يمكن أن تكون له خطة مرسومة واحدة ، فتضيع فكرة تكتل الشرق كله في الحياد ، وهذا التكتل هو الذى يجعل لحياده قيمة ، وبدونه لا قيمة له .
هذه كلها مسائل يحق للسياسيين أن يطيلوا التفكير فيها ، وللباحثين أن يبحثوها ، وينيروا الرأى العام بنتائجهم فيها ، فذلك أنفع من كثير مما يكتب.
