الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 453الرجوع إلى "الثقافة"

خدمة المنازل

Share

( كثرت الشكوى في هذه الأيام من قلة الخدم وقلة صلاحيتهم للاعمال ، وللاستاذ كاتب هذا المقال مقترحات سديدة في هذا الشأن إذا امكن تحقيقها كان في ذلك اصلاح تحس اثره كل أسرة في مصر .

كانت خدمة المنازل تافهة يسيرة حينما كانت الحياة المنزلية في أول نشأتها قليلة المظاهر يسيرة التكاليف ، فلما أخذت هذه الحياة تتقدم وتتعقد بتقدم الحضارة وتعقدها ، صارت خدمة المنازل في طريق الدقة والمشقة ، حتى بلغت الحياة المنزلية والحضارة ما بلغنا الآن من الرقي والعسر، فبلغت خدمة المنازل أدق مراحلها وأشقها ، بكثرة الأمكنة وضيقها ، وكثرة الأثاث والأواني والأدوات والملابس، وتنوعها ، وألوان الاطعمة ، ومما ألفه الناس ودرجوا عليه ، من الافتتان في إعداد الاطعمة ، وفي وسائل الحياة ، وتربية الأطفال ومما يزيد هذه الخدمة دقة ومشقة أمر له

في حياة الأسرة وفي ميزانها المالي اكبر الأثر ، وهو انتقاء المشتريات اليومية التى يتكون منها غذاؤها كالخضر واللحم والفاكهة من الأصناف الجيدة ، وبالأثمان المعتدلة واشتراؤها من الأسواق

لقد اصبحت هذه الخدمة فنوناً شتى ، لها قواعد واصول وأساليب كثيرة منوعة ، ليس في الإمكان ان يحيط بها إنسان واحد علماً وخبرة ، ولا أن يقوم بها كلها وحده ؛ فربة البيت وإن أحاطت بهذه الفنون علما وخبرة وأوتيت اعظم قوة نسوية جسدية ، أعجز من ان تقوم وحدها بهذه الخدمة ، إنها وإن اتسع لها علمها وجهدها لا يتسع لها وقتها .

إن اشتراء هذه المشتربات اليومية وإعدادها للغداء يستنفذ نصف النهار الأول ، وإلى ان تنتهي الأسرة من الغداء على الطريقة الحديثة يضيع من نصف النهار الثاني أكثر من ساعتين ، ويضيع مع هذا وذاك الجهد كله ويضطر الجسم إلي الراحة ، فماذا يبقى بعد ذلك من الجهد والوقت لمطالب المنزل الأخرى ، كتنظيف حجره وترتيبها وغسل أرضه وتنظيف نوافذه ومصاريعها ، وتهوية الفراش وتنظيف الأواني والأدوات والملابس وكيها ورفوها وقضاء مطالب اعضاء الأسرة العاجلة وهي كثيرة متتابعة ؛ فإذا كانت ربة البيت مع ذلك مطفلا أو حاملا أو مطفلا وحاملا معاً ازدادت الخدمة دقة ومشققة على قدر عدد الأطفال

إذاً لابد لربة الدار من معين أو أكثر من الخدم الذكور او الإناث أو منهما معاً ، على قدر مطالب الأسرة ومقدرتها المالية ، ولابد لهؤلاء الخدم من التغلغل في احشاء السكن وفي أضيقها وازدحامها بالاثاث وبالمخدومين موجبة لهذا التغلغل.

فمن هو هذا المعين الذي نصطفية ليقتحم المسكن كله ويطلع على خفاياه ويختلط بمن فيه كلهم ذكورا وإناثا كباراً

وصغارا ، في يقظتهم ونومهم وسرهم وجهرهم وتبذلهم وتجملهم وتآلفهم وتنافرهم وحلوهم ومرهم ، ويطلع على ظواهرهم وبواطنهم ، ويؤتمن على الأعراض والانفس والاموال وكلها مبتذلة ليس منها شئ مستور

كان هذا العين المطلوب ميسوراً في الزمن الماضي القريب حين كانت الحياة هادئة رخية خصبة خالية من مفاسد هذا الزمان ، وكانت البيوت فسيحة عامرة بأهلها دائما ليلا ونهارا ، فهي بيوتهم وانديتهم وملتقي الأهل والإخوان والجيران ، فكان ذلك والحجاب والعفاف والصلاح تكسو المنازل وآلها هيبة وجلالا ووقارا وصيانة ، وكان المخدومون يطعمون الخدم مما يأكلون ، ويخلعون عليهم ما يلبسون ، ويزوجون ذكورهم من إناثهم فيسدون بذلك كله جميع حاجاتهم ، وكان هؤلاء الخدم مع ذلك ملك أيمانهم ، يشترونهم بأموالهم بيضا وسودا إناثا وذكورا كبارا وصغارا ، ويسمونهم عبيدا وجواري وغلمانا ومماليك ، ولم يكن لهؤلاء الخدم من الناس إلا سادتهم ولا من البيوت إلا بيوت السادة ، وكانوا لما هم فيه من نعمة سابقة وغربة ورق قنوعين امناء مخلصين ؛ ولكن هذا كله قد انقضى أجله إلى غير رجعة

أما الآن وقد أصبحت الحياة جدبة قاسية مرة ، وتقلصت المساكن وضاقت وغصت بالاثاث وبالناس ، وهجرها أهلها إلى الملاهي ، واستأثر المخدمون باطيب الأطعمة ، وكفوا ايديهم عن كسوة الخدم ، فقد تغير ما كان من قبل معهودا . فامتدت أيدي الخدم إلى كل ما تصل إليه من مال المخدومين فتسرقه ، وليس شئ من هذا المال لا تصل إليه ايديهم . ومن كان منهم حسن النية سليم الفطرة أفسده زملاؤه وأصدقاؤه .

وإن من اللصوص من يتذرع بالخدمة في المنازل للسرقة ؛ فقد استخدمت اسرة مرة شابا بهرها بجودة طبخة ورخص

مشترياته ووفرة نشاطه وحسن أدبه وجميل طاعته ؛ غير أنه ما لبث ان سرق منها مصوغات وملابس قدرت بخمسمائة جنيه من حجرة كان ينظفها ، وكانت ربة البيت معه فيها تراقبه ، بحيلة بارعة يسيرة وفي أقل من دقيقتين ؛ ثم ظهر انه لص خطير ذو سوابق ، وانه يأخذ رخص الخدم وبضع عليها صورته بمهارة وبتسمى بأسمائهم ، وجد رجال الأمن في البحث عنه ونشروا خبره وصورته في امهات الصحف اليومية ، ولم يظفروا به للآن ، وقد مضى على هذا الحادث نحو ثلاث سنوات ؛ وما من اسرة لم تكتو بنار الخدم .

لقد تفاقم شر الخدم واصبحت سيادة الخادمات مضرب الآمثال ومادة خصبة للفكاهات في الصحف الأسبوعية ؟ وما تلك العبودية إلا ثمرة الاستعباد المر الذي عاش فيه المخدمون قبلا دهر طويلا ؟ فقد طبعهم استعبادهم الخدم طابع الاتكال عليهم في كل الشئون والكسل والكبرياء والاستحياء مما لا يستحي منه وحب التظاهر ، فسلطت هذه الخلال الخدم عليهم. وليس أشام على الآحاد والأسر والجماعات من هذه الخلال . إنه المؤثر أن نبيت على العلوي تتلوي من الجوع ونتعطل بذلك عن الحركة الجسدية والعقلية ونشعر بالذل والعجز على ان يخرج واحد من الاسرة يشتري لها ما تأكله.

وبعد فما الوسائل الناجحة لحل هذه المشكلة المعقدة ؟ لحل هذه المشكلة المعقدة ثلاث وسائل : الأولى من قبل المخدومين ، والثانية من قبل الحكومة ، والثالثة من قبل الخدم

فأما التي من قبل المخدومين فيجب أن يرتبوا حياتهم ويوطنوا أنفسهم على الاستغناء عن الخدم ، وأن يسارعوا إلى الاستعداد لذلك ، فاذا عجزوا عن الاستغناء التام عنهم فلا أقل من أن تقل الحاجة إليهم ، فلا يتولاهم الفزع الاكبر

والأرتباك المهلك حين يكون في المسكن خادم واحد ويتركهم هذا الخادم فجأة.

إن خدم المنازل في سبيل الانقراض ، فقد روت الصحف ان عامل في أوربا باعوا قصورهم وسكنوا الشقق لأسباب منها قلة الخدم ، وهما قريب حين يرفع مستوى المعيشة في مصر وتزدهر الصناعة لن نجد الخادم الذي ينقطع لخدمة منزل واحد ، وقد نجد خدماً يطوفون بالبيوت ويؤدي كل منهم خدمة واحدة في عدة منازل.

ولا سبيل إلي الاستغناء عن الخدم أو تقليل الحاجة إليهم إلا أن يطرح المخدومون الاتكال والكسل والكبرياء والاستحياء مما لا يستحى منه ، وأن يعتمد كل عضو في الأسرة على نفسه ، فيعلق ملابسه إذا خلعها مرتبة متقاربة ، ويرتب فراشه إذا نهض من نومه ، وإذا احتاج إلى شئ قضاه بنفسه ، وإذا استعمل شيئا من أدوات المنزل رده إلى مكانه ، ولا ينتظر من يناوله ملابسه ولا من يسقيه وهو على المائدة ، ولا يغادر المائدة وفي بدء مثلا بلح أو يرتقال ويتنقل به في أنحاء المسكن طارحا القشر والنوي والبذور في كل مكان ، فيخلق بذلك الحاجة إلي الخادمة بدون حاجة ويشقي ربة الدار، بل عليه إذا فرغ من الاكل أن يغسل ما استعمله فيه من أوان وأدوات؛ فقد روت الصحف أن الضيوف في أوربا إذا فرغوا من الأكل غسلوا ما استعملوه من أوان وأدوات ، وان الجنرال أيزنهاور قال للصحفين إن زوجته عودته أن يغسل الأطباق مرة كل أسبوع ، وايزنهاور غني عن التعريف ؛ فإذا كان في البيت خدم كانت خدمة كل عضو من الأسرة فيه نفسه من باب : إذا عجز الخدم فأعينوهم ، وإذا لم يكن فيه خدم استراحت الأسرة من الفوضي والأرتباك والأقذار .

ويجب أن يخرج رب البيت أو ربته لاشتراء مطالب المنزل اليومية والشهرية ، ولقد بدأ بعض السيدات الحديثات

المثقفات اللاتي أكتوين بنار الخدم يخرجن إلي الأسواق كل صباح ، ويبتعن ما يحتجن إليه من اصناف جيدة بأسعار عارلة ، غير مباليات بنقد المتطفلات من جاراتهن وصواحبهن.

ويجب ألا نحكم أذواقنا وأذواق صناعنا - ونحن أمة مرهفة الذوق - في طرق معيشتنا ، بل يجب أن نحكم العلم والمصلحة ، فنفهم أن الطعام للتغذية لا للذة ، وأن خير الأطعمة ما أكل نبتا كالخس والجرجير ، ودونها ما أكل من الخضر واللحم مسلوقاً بدون توابل وبقليل من السمن أو الزيد أو الزيت أو بدونها . وهذا الطعام الصحي إذا ألفناه صار لذيذا شهيا ، وهو لا يكلف من يعده أكثر من نصف ساعة قبل الغداء ونصف آخر قبل العشاء ، ونفهم أن الغرض من الأئات كفالة حاجات الأسرة وراحتها ، وأن كفالتهما لاتتم إلا بأن يكون الأثاث متينا جدا وعلى قدر الحاجة ، فيكون من السهل تنظيفه وترتيبه ونقله من مكان لآخر لتنظيف ما تحته . أما تجميل المنزل وهو أمر واجب فيكون بحسن اختيار الأثاث وألوانه وبراعة تنسيقه وبإضافة أشياء قليلة ليست قابلة للتلف السريع كالمفارش والستائر ، ويجب أن يراعى في صنع قطع الأاثاث التي تحفظ فيها الملابس والأواني وغيرها متانة المصاريع والأقفال ، فإن تسعين في المائة منا ليس لملابسهم ومصوغاتهم أقفال ، وهي معروضة للسرقة عرضا ، والمال المعروض هذا العرض يعلم السرقة ويغري بها . ونفهم أن المساكن خلقت لوقاية السكان من طوارئ الجو واعتداء الحيوان والإنسان ، فيجب أن تكون جميع أبوابها بأقفال ومفاتيح متينة ، وأن تحافظ عليها وعلى استعمالها ، غير أننا اعتدنا أن نتسلم مفاتيح المسكن الجديد لنضيعها جميعا وتدفع ثمنها للمالك إذا أخلينا المسكن

وأما الذي من قبل الحكومة فهو أن تنظر إلي الباعة الجائلين نظر من يرى انهم طائفة عاملة شريفة ، توفر على

الجمهور كثيرا من الجهود والأوقات والأموال ومتاعب الخدم وتسكعهم في الطرقات ، فتشجع هؤلاء الباعة بدل أن تخذهم ، وتعينهم بالمال بدل أن تغرمهم الغرامات بالمخالفات ، وتمدهم بالإرشاد التجاري والصحي حتي تصير مركباتهم متاجر متنقله تحمل كل مطالب المنازل ، على أن يختص كل فريق منهم بنوع من انواع هذه المطالب ، وعلى ان يكون مع كل بائع زميل أو صبي يعرض المبيعات على السكان في مساكنهم وأن تلزم أصحاب الصروح المفردة إنشاء مصاعد للباعة والخدم ، فان في ذلك عدلا ومساواة وأكبر عون للسكان لو كانوا يعلمون . وأن تفرض الحكومة رقابة شديدة على تجار الأشياء القديمة من جميع الأنواع . يقال إن في حي من أحياء القاهرة مصبغة تحمل إليها الملابس المسروقة لصبغها وتغيير معالمها ، فإن كان المسئولون بجهلونها كان ذلك قبيحا ، وإن كانوا يعرفونها ، ويغضون عنها كان ذلك أقبح ، وقد تكون البطاقات الشخصية وإلزام كل مشتر ان يتحقق من شخص البائع وأن يأخذ البيانات التي في بطاقته من الوسائل الجيدة لدقة الرقابة

وأما الذي من قبل الخدم فيجب أن تتولاه مصلحة أميرية ، أو نقابة رسمية يديرها ممتازون من رجال الوطن ويعاونهم ممتازون من الخدم ، وان تسن قانونا وتضع لائحة داخلية لتنظيم علاقة الخدم بالنقابة ومكاتب التخديم وبالمخدومين ، وتنشئ لهم معاهد للعناية بتربية أجسامهم وعقولهم ونفوسهم وصيانتها ، على ان يكون في مقدمة ذلك تعليمهم القراءة والكتابة والثقافة الشعبية العامة ومعاني التنظيف والتعقيم وآداب المعاشرة ، ويكون حضورها إجباريا ، وان يكون في عيادات الحكومة ومستشفياتها متسع لا يضيق بواحد منهم في ليل أو نهار ، والا يقبل عضوا في النقابة من الذكور والإناث ويرخص له بالخدمة من قلت

سنه عن سن معينة ، وان يكون صحيح الجسم سليم الأعضاء ، وان تقدر ساعات العمل والراحة وما يجب ان يكون لكل خادم في بيت المخدوم من مكان وفراش وغطاء وأجر .

ولا بد أن يكون لكل منهم إضبارة  (دوسيه) في النقابة وصحيفة من سجل في مكتب التخديم ، والا يقدم خادم لأسرة إلا بديان  (استمارة ) من مكتب التخديم هي صورة من صفحته في السجل ، فيها كل ما يتعلق به من سن صحيحة ومكان ميلاد واقارب وصفات جسدية وخلفية وعقلية واراء مخدوميه فيه . وغير ذلك من وجوه التنظيم والضبط .

اشترك في نشرتنا البريدية