قدم زياد البصرة واليا لمعاوية بن أبي سفيان ، والفسق فيها فاش ، ظاهر ، فخطب خطبته البتراء المشهورة ، فهل تستطيع وقد تباعدت الأحقاب بيننا وبينه ، أن ترجع إلي خطبته ، فنستخرج منها الأصول التي بني عليها سياسته ، مستقلين بالرأي ، دون ان يكون لهوى النفس ، أو لعصبية التاريخ ، شئ من السلطان علينا ؟ هل نستطيع أن نعرف زيادا في خطبته البتراء ؟ فلنقرأ هذه الخطبة مرة ثانية .
لا شك في أن الذين سمعوا خطبة زياد كانوا من طبقات شتي ، فمنهم أهل البيوتات والانساب والآداب ، ومنهم العامة . فبأي طراز من الكلام لقي زياد هذه
الجماهير المختلفة ؟ فاسمع فاتحة خطبته : " أما بعد ، فان الجهالة الجهلاء ، والضلالة العمياء ، والفي الموفي بأهله على النار ، ما فيه سفهاؤكم ، ويشتمل عليه حلماؤكم ، من الأمور العظام ينبت فيها الصغير ، ولا يتحاشي عنها الكبير ) " .
جهالة جهلاء ، وضلالة عمياء ، وفي موف بأهله على النار ، هذه مقدمة الكلام الذي لقي به زياد اهل البصرة ، سفهاءها وحلماءها ، صغارها وكبارها . ولا ريب في أن مثل هذا الكلام ليس من شأنه أن يكون له وقع حسن في نفوس الذين سمعوه ، فليس من الهين أن ينسب الوالي أهل البصرة إلى الجهالة والضلالة والتي ، وان يرضوا عنه . فكيف حاول زياد ان يصدر عن هذا المورد المكر الذي ورده ؟ لقد قذف بما قذف به في مقدمة الخطبة ، ولم يندفع في هذا النمط من القول ، فبعد ان عاب أهل البصرة بما عابهم به، بعد أن ظهرت الشدة على كلامه ، أحب أن يظهر اللين عليه ، فقال :
" كأنكم لم تقرءوا كتاب الله ، ولم تسمعوا ما أعد الله من الثواب الكريم لأهل طاعته ، والعذاب الاليم لأهل معصيته في الزمن السرمدي الذي لا يزول فلم يجد زياد أبلغ من كتاب الله للاستعانة به علي سفهاء البصرة وحلمائها ، فبعد ان آلمهم بما آلمهم به تحصن بكتاب الله ، وهو الحصن الحصين في مثل هذه الحال ، فذكر أهل الجهالة والضلالة والغي بكريم ثواب الله وبأليم عذابه ، وفاته شئ واحد ، فانه ذكر آية في الأمر بالمعروف والنهي عن الفحشاء والمنكر ، وكأن زيادا قد علم بأن الاستعانة بكتاب الله تمهد له السبيل إلي النفوس ، فتبسط في هذا الضرب من الوعظ فقال :
" أتكونون كمن طرفت عينيه الدنيا ، وسدت مسامعه الشهوات ، واختار الفانية علي الباقية ، ولا تذكرون أنكم أحدثتم في الاسلام الحدث الذي
لم تسبقوا إليه ، من ترككم الضعيف يقهر ويؤخذ ماله " فاستعمل زياد طفيفا من الحكمة في تنبيه أهل البصرة على اعمالهم ، مثل إيثارهم الدنيا ، وسد الشهوات لمسامعهم ، فكان كلامه عاما ليس فيه شئ من التخصيص ، فلم يفاجئ الناس مفاجأة بذكر الأمور التي خالفوا فيها كتاب الله ، ولكنه لم يرد أن يختم عبارته دون ذكر واحد من هذه الأمور ، وهو ترك الضعيف يقهر ويؤخذ ماله ، وفي هذا الكلام شيء من إغراء العداوة بين الضعفاء والأقواء ، ولا شك في أن في جملة من سمع خطبته كثيرا من هؤلاء الضعفاء
فلما تمكن بعض التمكن من قلوب الناس ، سواء كان هذا التمكن بالتذكير بكتاب الله ، أم باللجوء إلى يسير من الوعظ ، أم بالإغراء بين الضعفاء والأقواء ، خلا له الجو ، فاستطاع أن يكاشف أهل البصرة ، سفهاءها وحلماءها بأنواع جهالتهم وضلالاتهم وغيرهم ، فقال :
" ما هذه المواخير المنصوبة ، والضعيفة المسلوبة في النهار المبصر ، والعدد غير قليل ، ألم تكن منكم نهاة تمنع الغواة عن دلج الليل وغارة النهار ؟ قريتم القرابة ، وباعدتم الدين ، تعتذرون بغير العذر ، وتغضون على المختلس ، كل امرئ منكم يذب عن سفيهه ، صنيع من لا يخاف عاقبة ، ولا يرجو معادا ، ما أنتم بالحلماء ، ولقد اتبعتم السفهاء ، فلم يزل بكم ما ترون من قيامكم دونهم حتى انتهكوا حرم الإسلام ، ثم أطرقوا وراءكم كنوسا في مكانس الريب .
هذه حالة البصرة لما قدمها زياد عاملا لمعاوية : مواخير منصوبة ، ضعيفة مسلوبة ، غواة في الليل والنهار ، إفضاء على المختلس ، ذب عن السفيه . ولعمري إنها لامور مخالفة لكتاب الله ، مخالفة لقانون الاجتماع ، أمور لا يصح لعامل مثل زياد أن يسكت عنها ، لأن في
السكوت عنها ضياعا للمسلمين ، وضياعا لزياد نفسه ، وضياعا لسياسة معاوية امير المؤمنين . فماذا اعد زياد لأهل البصرة ، وحالتهم على ما علمت ؟ فهاك خطته :
" حرام على الطعام والشراب حتى أسويها بالأرض هدما وإحرافا ، إني رأيت آخر هذا الأمر لا يصلح إلا بما صلح به أوله : لين في غير ضعف ، وشدة في غير عنف . وإني أقسم بالله لآخذن الولي بالمولى ، والمقيم بالظاعن ، والمقبل بالمدبر ، والمطيع بالعاصي ، والصحيح منكم في نفسه بالسقيم ، حتى يلقي الرجل منكم اخاء فيقول : اخ سعد ، فقد هلك سعيد ! او تستقيم قنائكم "
الآن تكشف زياد لأهل البصرة ، فظهرت سياسته في حقيقة صورتها : لين في غير ضعف ، وشدة في غير عنف . ولكن الشدة كانت أغلب على كلامه من اللين ، ولئن لم تظهر هذه الشدة في عزمه علي هدم مكانس الريب وإحراقها ، فانها قد ظهرت في اخذه الولي بالمولي ، والمقيم بالظاعن ، والمقبل بالمدبر ، والمطيع بالعاصي ، والصحيح بالسقيم . ولولا هذه الشدة ما استقامت قناة اهل البصرة ، لولا هذا العنف ما استطاع زياد ان يضبط من أهل البصرة ما ضبط والفسق فيها على ما علمنا .
ولكن زيادا خاف أن لا يصدقه الناس في الذي عزم عليه ، فقد خاف ان يرموه بالكذب في يمينه ؟ فاضطر إلي تأييد هذه اليمين بقوله :
" إن كذبة المنبر بلقاء مشهورة ؛ فإذا تعلقتمعلي بكذبة فقد حلت لكم معصيتي ، فاذا سمعتموها مني فاغتمزوها في ، واعلموا أن عندي أمثالها " .
أما وقد اطمأن زياد إلي أن كلامه قد وقع في آذان الناس وفي قلوبهم ، ولم يخف بعد هذه الطمأنينة شيئا من تكذيب الناس إياه ، فليبادر إلي إيضاح سياسته في إصلاح حالة البصرة ، وليتوسع في تبيين العقوبات التي أعدها في مثل هذا الاصلاح .
" من نقب منكم عليه فأنا ضامن لما ذهب منه ، فإياي ودلج الليل ، فاني لا أوتي بمدلج إلا سفكت دمه ، وقد اجلتكم في ذلك بمقدار ما يأتي الخبر الكوفة ويرجع إليكم ، وإياي ودعوي الجاهلية ؛ فاني لا أجد أحدا دعا بها إلا قطعت لسانه ، وقد أحدثتم أحداثا لم تكن ، وقد احدثنا لكل ذنب عقوبة ، من فرق قوما فرقناه ، ومن أحرق قوما أحرقناه ، ومن نقب بيتا نقبنا عن قلبه ، ومن نبش قبرأ دفناه حيا فيه ، فكفوا عني أيديكم والسنتكم أكفف عنكم يدي ولساني ، ولا تظهر من أحد منكم ريبة بخلاف ما عليه عامتكم إلاضربت عنقه " .
يتبين لنا أن العقوبات التي وضحها زياد في هذا الكلام أخف من العقوبات التي ذكرها من قبل ، فالفرق ظاهر بين أخذ الولي بالمولى مثلا ، وبين تفريق من يفرق قوما ، فقد نزل زياد عن شدته بعض الشئ ، فأمن الناس على أموالهم وأرواحهم ، وأحدث لكل ذنب عقوبة ، فقد كانت البصرة حين مقدم زياد في حالة لا يصلح معها اجتماع ولا ينمو فيها مال ، ولا يكثر فيها عمران . وأي بلد أسوأ حالا من البلد الذي يفشو فيه التفريق والإحراق ، والنقب والنبش ، وأشباه هذا كله ؟ فبعد أن ادخل زياد على أهل البصرة الطمأنينة إلي أموالهم وارواحهم ، وبعد أن خوف سفهاءها بهذه العقوبات التي أحدثها ، لجأ إلى اللين في كلامه حتى يستميل القلوب إليه فقال :
" وقد كانت بيني وبين اقوام إحن ، فجعلت ذلك دير اذني ، وتحت قدمي ، فمن كان منكم محسنا فليزدد إحسانا ، ومن كان منكم مسيئا فلينزع عن إساءته . إني لو علمت ان احدكم قد قتله السل من يقضي ، لم أكشف له قناعا ، ولم أهتك له سترا حتى يبدي صفحته لي ، فاذا فعل ذلك لم اناظره ، فاستأنفوا أموركم ، وأعينوا على انفسكم ، فرب مبتئس بقدومنا سيسر ، ومسرور بقد ومنا سيبتئس " .
إنا نجد زيادا في هذا المقام قد طاوي أحقاده ، وظهر في اخلاق الوالي المنصف ، فلا يحاسب الناس على بواطنهم ، فقد اخذ يتشبه في هذه السياسة بعمر رضي الله عنه ، وعلم بأن مثل هذه السياسة تزيد في تمييل الناس إليه ، بعد الشدة التي ظهرت اثارها على كلامه ، فتوسع في هذا المذهب فقال :
" أيها الناس ! إنا أصبحنا لكم ساسة ، وعنكم ذادة ، فسوسكم بسلطان الله الذي أعطانا ، وتذود عنكم بفي الله الذي خولنا ، فلنا عليكم السمع والطاعة فيما أحببنا ، ولكم علينا العدل فيما ولينا ، فاستوجبوا عدلنا وفيئنا بمناصحتكم لنا ، واعلموا انى مهما قصرت عنه ، فلن اقصر عن ثلاث : لست محتجبا عن طالب حاجة منكم ، ولو أتاني طارقا بليل ، ولا حابسا عطاء ولا رزقا عن إبانه ، ولا مجمرا لكم بعثا ، فادعوا الله بالصلاح لأئمتكم ، فإنهم ساستكم المؤدبون لكم ، وكهفكم الذي إليه تأوون ، ومتى يصلحوا تصلحوا ، ولا تشربوا قلوبكم بغضهم فيشتد لذلك غيظكم ، ويطول له حزنكم ، ولا تدركوا له حاجتكم ، مع انه لو استجيب لكم فيه لكان شرا لكم ، أسأل الله أن يعين كلا على كل ، وإذا رأيتموني أنفذ فيكم الأمر فأنفذوه على إذلاله . "
هذا كلام أشبه شئ بكلام عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، فقد انسحب زياد على أذبال عمر في هذه السياسة ، فجعل بين الراعي وبين الرعية هذه الصلة المتينة ، صلة المناصحة ؛ فإذا فقدت المناصحة بين الحكومة وبين الأمة تمكن من الأمة كره الحكومة ، وتمكنت من الحكومة النقمة على الشعب ؛ ومتى اشتدت الكراهية من ناحية الأمة ، والنقمة من ناحية الحكومة ، ضاعت الأمة والحكومة في وقت واحد ؛ وهذا ما فطن إليه زياد في أواخر خطبته ، فأحب أن يصور الولاة للأمة في صورة الكهف الذي ترجع إليه في شدائدها ، فإذا صلح
الوالي صلحت الأمة ، وإذا فسد فسدت ، وهذا هو المثلي الأعلى في الحكم .
إلا أن زيادا خاف أن يكون اللين آخر ما يعلق بأذهان أهل البصرة من خطبته ، وخاف ان ينسوا الشدة التي غلبت على بعض كلامه ، والعقوبات التي احدثها لذنوبهم . والخلاصة خاف ان ينسوا زيادا ، فهدر هذا الهدير ، فقال :
" وايم الله ! إن لي فيكم لصرعي كثيرة ، فليحذر كل امرئ منكم أن يكون من صرعاي " .
وهكذا فقد بدأ خطبته بالشدة ، وختمها بالشدة ، أما اللين فكان يتخلل كلامه .
أما وقد فرغنا من قراءة خطبة زياد في البصرة ؛ فهل استطعنا أن نعرفه في خطبته ، أظن أنا لا حاجة بنا بعد أن دققنا في كلامه هذا التدقيق إلي معرفة رأي الناس في سياسته ، فقد كان تصرفه في خطبته عنوان تصرفه في سياسته العامة . ولئن كان مكتوبا في مجلسه
الشدة في غير عنف ، واللين في غير ضعف ، فتكون هذه الحكمة أبرز شئ في سياسة زياد ، فان لجوءه في كلامه إلي الرفق مرة وإلى الغلظة مرة ، ثم نقله بين الوعد والوعيد ، دليل على حذقه أساليب السياسة ، ومهارته في مداخلها ومخارجها ، ووقوفه على طبائع الناس . ولولا هذه البراعة في السياسة وعلم النفس ما كتب له هذا النصيب من التوفيق ، فقد قدم العراق وهي جمرة تشتمل ، فرأينا العدة التي أعدها لإطفاء هذه الجمرة . فلنرجع الآن إلي خطبة زياد في البصرة ، ولنملأ خواطرنا منها ، فلعل فهمنا لأسرارها ولمحاسنها يكون أتم وأكمل وإذا قرانا خطب رجالات سياستنا ، وكلام ادبائنا في القديم على هذا الوجه ، فلعلنا نختصر المسافة بين افهامنا وبين إدراك عبقريتهم .
) دمشق (
