(1) لاحظت أن اللغة تؤدي معانيها في دقة وإحكام في مواد العلوم ، كالرياضة ، والطبيعة ، والكيمياء ، ومصطلحاتها مضبوطة قل أن يعتريها غموض أو إبهام وقريب من ذلك التاريخ ، فاللغة قادرة علي أداء معانيه وحمل رسالته أداء حسناً ، وإن لم تبلغ في ذلك مبلغ العلم ، فإذا نحن جاوزنا ذلك إلي الفلسفة والأدب رأينا اللغة مسكينة عاجزة عن أداء المعاني في وضوح وضبط وإحكام حتى المصطلحات ، من الصعب تعريفها وضبطها ، فما أصعب أن تعرف " الوجود ، و " الحقيقة " و " ما وراء الطبيعة " وما إلي ذلك ، وما أصعب ما تعرف " الشعر " " و الأدب " و " الخيال " ونحوها ، وكذلك في فروع الفلسفة والأدب ، فمن الصعب تعريف " الجمال والجميل " ، و الفضيلة والرذيلة " و " الزمان والمكان " و " العدل والحرية " ؛ ومن العسير تعريف " القصة والرواية والمثل " ؛ وما أكثر ما يقع الناس في الجدل والحجاج ، لأن كلاً يتكلم وفي ذهنه معني للشئ غير ما عند الآخر ، ولو اتفقوا على التحديد لاتفقوا على النتائج ولا أنسي حادثة رويت لي وهو أنه من زمان أرادت
حكومة العراق التعاقد مع الحكومة المصرية بالمراسلة والخطابات ، فكان الاتفاق مستحيلاً لأن كلتا الحكومتين كان لها معنى خاص فى مصطلحاتها لا تفهمه الأخرى ، ولم يتم الاتفاق حتى تمت المشافهة والاتفاق على معاني المصطلحات ، وسمعت محاضرة لفاضل عراقى في التربية ، فثار جدل حول الموضوع تبين أن سببه الاختلاف في المصطلحات ، فهم يطلقون اسم " المدارس الداخلية " على غير ما نطلق ، ويسمون " الفصل " ما نسميه نحن بالسنة ، ويسمون الترفيعات ما نسميه نحن بالترقيات ، ويسمون " مدارس الحضانة " ما نسمية نحن برياض الأطفال ، وهكذا .
(2) من أسباب وقوع الناس في الخطأ اللغوي عدم دقتهم في الاستنتاج ؛ فهناك عقول تستنتج من الجملة أكثر مما يلزم ، وهناك عقول تستنتج منها أقل مما يلزم ، وكلاهما خطأ - إذا قلت : إن "الغول مرعب " فاستنتجت منه أني أقول : إن الغول موجود ، فقد أخطأت ، واستنتجت أكثر مما يلزم ؛ لأن الخيال قد يرعب ، والوهم قد يرعب ، ولو لم يكن الشئ موجوداً ، وإذا حدثتك عن فرس بأنه أشهب ، فاستنتجت أني أقول إنه موجود ، كان استنتاجك صحيحاً ، ومن الناس من لا يفرق بين القضيتين - وليس الأمر مقصوراً علي الجمل بل دلالة الألفاظ على المعاني تختلف جد الاختلاف بين
الأشخاص بحسب مدنيتهم وثقافتهم وعقليتهم ، فإذا قلت " كرسي " لم يكن معناه عند الفلاح القروي كمعناه عند المدني المتحضر ، وكذلك الشأن في كلمة " بيت " و "دولاب", و "سرير" وإذا قلت : " علم الحساب " فمفهومها عند الصانع المتعلم تعلما بسيطا ليس كالمعني الذي يفهمه العالم بالرياضيات ، وهكذا ، وهذا ما يجعل الناس إذا اختلفت مدنياتهم وعقلياتهم وثقافتهم لا يتفاهمون تفاهماً صحيحاً . ومن أسباب ذلك عدم دلالة الألفاظ على معان واحدة في الرءوس المختلفة ، ولا تصدق أن معاجم اللغة تستطيع أن تشرح دلالة الألفاظ شرحاً تاماً صحيحاً ، فلكل كلمة هالة غير معناها الأصلي يعجز المعجم عن شرحها ، فدنيا الأطفال التي تعين على شرح الألفاظ غير دنيا الرجال ، ودنيا الفلاح غير دنيا المتمدن ، ودنيا الجاهل غير دنيا العالم ، وكل يفسر الألفاظ حسب دنياه .
(3) يتصل بهذا أن كل لفظ من ألفاظ اللغة يوحي بأشياء تختلف بإختلاف الإشخاص حسب بيئتهم وتجاربهم في الحياة وغير ذلك ، فكلمة أبيض توحي إلي الفلاح باللبن ، وقد توحي إلي الطفل بالسكر ، وقد توحي إلي سكان البلاد الباردة بالثلج ، وكلمة " وزير " توحي إلي الشرقيين بمعان غير ما توحي به عند الغربيين ، وكلمة " العيد" توحي إلي الأطفال بمعني الثياب الجديدة والأراجيح ، وعند أطفال آخرين بالهدايا تهدي إليهم ، وعند الرجال بالزيارات والتهنيئات الخ ! وكلمة " البرلمان "و " نظام الحكم " توحي بمعان مختلفة في الأفراد المختلفة والأمم المختلفة ، وهذا سبب آخر من أسباب الاختلاف بين الناس في الإفهام والفهم ، فوحى الألفاظ عند الناس يختلف اختلافا كبيرا .
بل قد يكون اللفظ يوحي بمعني عند الناس في عصر لارتباطه بحادثة أو نادرة ، فإذا نسيت الحادث انقطع وحي
اللفظ ، فمنذ حين كانت كلمة " تعديل الأساس " و "ردم البرك " ، و " الحكم الصالح " تستثير منا الضحك لإيحائها بمعان خاصة في ظروف خاصة ، فلما زال الإيحاء زال التأثير - ولذلك أعتقد أنا فقدنا كثيراً من كتب الجاحظ وقطع الأدب الاجتماعي ، لأن بعض ألفاظها وجملها كانت توحي بمعان معروفة ، فلما تقادم الزمن جهلت فبطل سحرها - إن شئت فاقرأ رسالة التربيع والتدوير للجاحظ ، وهي تدور حول السخرية من "أحمد بن عبد الوهاب " تشعر بغموض في بعض الجمل والإشارات وسبب غموضها أنها كانت إشارات إلي أشياء مفهومة في زمنها ، ثم انقطع وحيها فغمض معناها .
(4) ما وظيفة اللغة ؟ يخطئ من يظن أن اللغة تؤدي غرضاً واحداً ، وهو نقل المعنى من ذهن إلي ذهن ؛ فلها أغراض أخري كثيرة قد يصعب حصرها ، وقد يبعد إدراكها ، فمن أعجب أغراضها أحياناً أنها تستعمل لتخدير الأعصاب ، كتعزيمات السحرة مثل ألفاظ " شمهورش " ، و " جلجلوت " ، ونحو ذلك ، فهي لا تؤدي معني ، ولكن تخدر الأعصاب بغرابتها وتأليف حروفها ، ولذلك لا يصح أن نحاول كثيراً فهم سجع الكهان فهما تاما ، فهي لم يقصد منها الإفهام التام بقدر ما قصد منها التخدير ، والمعاني المحلولة ، وأحياناً يقصد بالألفاظ مجرد ما توحيه من نغمات موسيقية لها أثرها النفسي كأثر الموسيقي - ولذلك لم تكن تخلو الأدعية الدينية إذا تليت في المعابد بلغة أجنبية من أثر قد يكون بالغا ، لأن الأنفاظ توحي بمعان سحرية موسيقية ، وإن لم تفهم معانيها الأصلية ، وهذه لغة الإنسان الأول كانت صيحات متشابهة اللفظ ، ولكنها أحيانا تدل على الخوف وأحيانا على الغضب ، وأحيانا على طلب النجدة ، وأحيانا على التحذير من خطر وإنما تختلف دلالتها باختلاف موسيقاها
وكذلك كان الشعر في أول أمره ، غامض المعنى ، دالا بالموسيقي - فليس نقل المعني من ذهن إلي ذهن هو الغرض الوحيد ، إلا في الكتب التعليمية في العلوم ، والحوادث المحلية في الجرائد ، وجدول الضرب ، وقانون اللوغاريتم ، ونحو ذلك ، مما ليس فيه اتصال ما بين المؤلف وعواطف القارئ .
(5) للغة أساليب مختلفة في أداء المعنى الواحد ؛ فهناك دلالة تصريحية ، وهناك دلالة تضمينية ، فإذا أراد أحد أن يقترض منك ، فقلت له : " لا أقرضك " فهذه دلالة تصريحية ، وإذا قلت له : " ليس عندي نقود " أو " إني مدين " أو " قد كنت فكرت أن أطلب منك ما تطلب مني " فهذه كلها تدل على عدم الإقراض بطريق التضمين - واللغة ترتقي من طريق الدلالة التضمينية أكثر مما ترتقي من طريق الدلالة التصريحية ، وكلما ارتقي ذوق الفرد أو الأمة شعر أن ما يناسبه هو التلميح لا التصريح ، والدلالة الضمنية لا الدلالة التصريحية - وهذا من أهم الفروق بين لغة العلم ولغة الأدب ، فلغة العلم أقرب ما تكون إلي الدلالة التصريحية ، ولغة الأدب تسودها الدلالة التضمينية - لغة المعادلات الجبرية وشرح النظريات الهندسية ، وقوانين الطبيعة والكيميا لغة تصريحية ، ولغة الشعر لغة تضمينية ، والمجازات والاستعارات والتشبيهات والكنايات كلها دلالات تضمينية .
وقد دل البحث النفسي علي أن استمالة النفس من طريق الدلالات التضمينية أقوي وأفعل من الدلالة التصريحية ، ولذلك كانت الدلالة التضمينية لغة الخطباء والأدباء والشعراء والوعاظ ورجال السياسة ورجال الدين ، فالقصص ذات المغزي ، والعبرة بأخبار الأولين ، والأساطير الرمزية كأساطير اليونان ، وتحريك الوطنية بالشواهد والأمثال ، وتحميس الأمة للمشروعات الاقتصادية
والاجتماعية ، ونداء المصلحين ؛ كل هذه تعتمد على الدلالة التضمينية أكثر مما تعتمد على الدلالة التصريحية لهذا السبب النفسي ، وهو أن النفس أكثر استمالة من هذا الطريق ، والسبب في هذا علي ما يظهر أن الأوامر والنواهي العريانة تشعر الأمور والمنهي بالضعة ، ولذلك كان أقسي أنواع الزجر الأمر الصريح ، " كامش " واخرج ، واذهب " ، مصحوبة بالنقمة التي تدل على تعالى الآمر ، أما في الدلالة التضمينية فقد سمح المتكلم للمخاطب باستعمال عقله في الاستنتاج وفهم الأمر من طريق خفي ، فإذا هو استنتح الأمر فكأنما هو الآمر لنفسه ، وهو إذا أمر نفسه لم تكن هناك غضاضة عليه ، وهذا يوضح لنا ما للعلاقة القوية بين اللغة والتفكير والخيال والإرادة .
ونكتفي اليوم بهذا القدر من الخطرات اللغوية ، وسنتبعها بمثلها إن شاء الله .

