الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 344الرجوع إلى "الثقافة"

خواطر حران

Share

نشر تحت هذا العنوان في العدد ٣٤٢ من مجلة  الثقافة القراء الصادر يوم الثلاثاء ٨ من شعبان سنة ١٣٦٤ ١٧ من يوليو سنة ١٩١٥ خواطر لكاتب من أوسع الكتاب ثقافة وأفقاً وأرفعهم قدراً وخلقاً وأحبهم إلي نفسى هو الأستاذ الجليل محمد فريد أبو حديد ، سأل فيها الناس مسائل

قال : هل نتقدم الأمم حقيقة إذا تعلم جماهير أهلها تعلماً عاماً ضئيلاً أم هي تتقدم إذا تعلم خاصة أذكيائها  تعلماً سليما عميقاً ؟ وقال : هل من الخير لما أن تنفق  الملايين على تعليم الملايين القراءة والكتابة أم نفقها على تعليم مئات الألوف تعليماً صحيحاً يجعلهم في مصاف المتعلمين حقاً في الأمم الآخرى

ولهذين السؤالين معني واحد جامع ، ولهذا المعنى شقان : الشق الأول التعليم الشعبي العام الضئيل وهو التعليم الأولى والشق الثاني التعليم الخاص العالي وهو التعليم الجامعي

وقد خطر للحران الكريم خاطر وهو أن التعليم الجامعى أجدي علي الأمة وأولي بالتقديم من تعميم التعليم الأولى إذ قال : إن الأمم الديمقراطية الحديثة لم تصل إلي تعميم التعليم إلا بعد أن صارت فيها نواة صالحة من العلماء المبرزين والمفكرين الممتازين وأصحاب الثقافة العالية في مختلف الفنون ، بل لقد كانت هذه النواة هي العامل الاكبر في تعميم التعليم

وهذا الخاطر العابر السريع الذي لم يوزن بميزان العقل والمنطق ككل الخواطر ولم يصر رأياً ممحصاً وعقيدة راسخة يدين بها ويدافع عنها كما قال حضرته صحيح كل الصحة موافق لسنة النشوء والارتقاء والمواقع كل الموافقة ، لأن خاصة الأذكياء ذوي القرائح الصافية والنظرات

الثاقبة الذين ظهروا في بعض الأمم منذ نضج العقل الإنساني أخذوا منذ فتحت عيونهم على هذا الكون يفكرون فيه وفيما فيه وفي أنفسهم ويستنبطون مسائل العلم ويضبطونها وقد وضعوا بعضها في الامم القديمة العريقة في الحضارة كمصر والهند واليونان من قبل أن تنتشر الكتابة بل من قبل أن تخترع ، وكان ظهور العلم باعثاً على اختراعها لقيده وتدوينه ولأن الإختراع من ثمرات العلم

ولا شك أن من أخص خصائص العلم الذيوع  والإنتشار لما له من السلطان القوي على العقول ومن القوة الفائقة على رفع شأن الأفراد والجماعات وأنه لذلك أصبح تراثا عاما ودولة بين الأمم فتنقل بين الأقاليم وانتشر في الأمم القديمة والمتوسطة قبل أن تفكر في شيء اسمه تعميم القراءة والكتابة أو تعميم التعليم الأولى . بل لقد فنيت هذه الأمم بعد أن ضربت بسهام صائبات في العلم وبلغت شأواً عظيما في الحضارة ولم تفكر في تعميم التعليم الأولى . وقد كانت الأمم الديمقراطية الحديثة التي بلغت الذروة العليا في العلم والحضارة إلي عهد قريب كما قال حضرته وكذلك كثير من الأمم الآخذة من العلم والحضارة بنصيب كبير كمصر تعيش بالتعليم الجامعي لا بتعميم التعليم الأولى ؛ فالتعليم الجامعي سابق بطبيعته وبحاجة الناس إليه التعليم الأولى وأحق بالتقديم والعناية منه . وهكذا كان شأنه في الأمم القديمة والمتوسطة والحديثة إلى عهد قريب وإلى الآن

ولا شك أن هذا الفريق القليل المثقف ثقافة جامعية خير ألف مرة من جمهور الشعب المثقف ثقافة أولية ، وأنه هو الذي يقود الشعب ويدير شؤونه ويعمل على جلب الخير له ودفع الشر عنه وعلى صيانته من عدوان المعتدين . والأمم القوية التي ألفت السيادة لا تخشى من الأمم الضعيفة إلا بأس هذا الفريق الممتاز وإنما لا تزال تذكر حين تكونت لجنة الجامعة المصرية القديمة مند أقل من أربعين سنة أن عميد الاحتلال البريطاني حينئذ قابل هذه النهضة

بدعوة عامة قوية إلي اكتتاب عام لإنشاء كتاتيب  ليصرف البلاد بهذا التعليم الأولى عن التعليم الجامعي لأنه الأداة الفعالة لرقى البلاد وتحريرها

لا شك في ذلك البتة أيها الحران الكريم . ولكن لا شك كذلك في أن هذه الطبقة الممتازة المثقفة ثقافة جامعية عالية وجيدت في مصر منذ الف سنة من يوم أن أنشئ الجامع الأزهر ذو الماضي المجيد وأن هذه الطبقة الممتازة قد بلغت الآن مبلغ نظيراتها من الطبقات الممتازة في الأمم الراقية ثقافة وتفكيراً وأدباً، وبلغت من الكثرة مبلغاً حمل مع أشد الأسف كثيراً من أولي الأمر في عهود ماضية أن يفكروا في الوسائل التي يحولون بها بين هذه الطبقة وبين ازديادها المطرد ، وأن في جامعتي فؤاد وفاروق والجامعة الأزهرية والمدارس العالية والخصوصية والبعثات العلمية إلي البلاد الأجنبية مميناً فياضاً لهذه الطبقة الممتازة لا يخشى نضويه وسيزداد على الإيام من تلقاء نفسه فيضاناً وذبوعاً

لم يبق إذاً موضع للخوف البتة من أن اشتغالنا بتعميم التعليم الأولي وبمكافحة الأمية والجهالة والضلالة بين المواطنين الذين تجاوزوا سن التعليم الاولي يشغلنا عن التعليم الجامعي العالى . فهذا التعليم قد وضعت أسسه وثبتت دعائمه وجنيت ثمراته وضمنت سلامته ونماؤه وبقاؤه . وما هلينا  الآن إلا أن توجه ما نملك من مال وجهد ووقت لتعميم التعليم الأولى ومكافحة الأمية والجهالة والضلالة بين الكبار والصغار علي سواء ، لما تقدم ولأمور كثيرة الحر أن الكرمي  من أعلم الناس بها . وفي مقدمة هذه الأمور !

١ - ما ظهر للأمم الراقية الحديثة ومن أجله عممت التعليم ، وهو سوء آثار ارستقراطية التعليم وحسن آثار ديمقراطيته والرغبة الصادقة في إتاحة الفرص لجميع أبناء الوطن الفقراء والأغنياء لإبراز مواهبهم ولتوزيع هذه المواهب توزيعاً مجدياً نافعاً على التعليم العلمي والأدبى والفني

العالي والمتوسط ، ولو لم يكن لتعميم التعليم الأولي من سبب غير هذا السبب لكفي ، وعلى أن هناك أسباباً أخري خطيرة منها

٢ - أن تعميم التعليم الأولي من أكبر البواعث على ازدياد الاذكياء المتعلمين الصالحين للاستمرار في التعلم حتى مرحلته الجامعية النهائية وازدياد الإقبال عليها وأن تعميم التعليم الاولي من شأنه أن يزيد القدرة على إتقان العمل وزيادة مقاديره ، وبذلك تزداد الثروة الشعبية التي لابد منها للانفاق علي التعليم الجامعي

٣ - أن الحضارة الحديثة ككل الحضارات من ابتكار الطبقة الممتازة ، ولابد لهذه الطبقة من أن تستعين ببقية الشعب على بناء هذه الحضارة ، ولا سبيل للانتفاع بهود الشعب في بناء الحضارة إلا إذا كان يعرف ولو أوليات ما بنيت عليه من العلوم والفنون . والعدالة تقضي مع ذلك بأن يتساوي الناس جميعاًفي الانتفاع بهذه الحضارة التي تعاونوا علي بنائها ، ولا سبيل للانتفاع بها علي سواء أ على قرب من السواء بدون تعميم التعليم الأولى على الأقل

٤ - أن أفراد هذه الطبقة الممتازة في كل أمة هم  الذين يتولون شئون الدولة كلها ، ومنهم من قد يستغل سلطانه لنفسه ويعبث بحقوق الناس ، فلا بد لهؤلاء الناس من أن يراقبوا هذه الطبقة ، وهذه الرقاية لا يمكن أن تتحقق على الوجه الأكمل والشعب غارق في برك الأمية والجهالة والضلالة . وحسبنا ما نقاسيه الآن من جهالة الناخبين وظلالتهم وسوء تقديرهم للنيابة وللانتخاب وغير ذلك مما نشكو منه مر الشكوي . وإن مما يؤلم أشد الإيلام أن نلغي نيابة بعض النواب والمفروض أنهم خير من في البلاد ، لا لشئ إلا للأمية

5 - وأن تعميم التعليم الأولي بقرب المسافة بين الطبقة الممتازة وبين عامة الشعب ولو بعض التقريب ،

وبذلك يستقيم التوازن الذي لابد منه لضمان الحياة الناجحة السعيدة . أما إذا قصرنا عنايتنا كلها على التعليم الجامعي وأخرنا تعميم التعليم الأولى ومكافحة الأمية والجهالة والضلالة ، وبقى الشعب المصري على ما هو عليه وتمادت  الطبقة الممتازة في تقدمها مجاراة لتقدم نظيراتها في الامم الراقية ، فان التوازن يختل وتغرق السفينة ، فان لم تفرق عجزنا ، عن مجاراة الأمم الراقية في الحضارة لأنها تنهض بحناحين ، الطبقة الخاصة المثقفة ثقافة عالية ، والطبقة العامة المثقفة ثقافة ملائمة تزداد هي الأخرى كلما ازدادت ثقافة الطبقة الخاصة . أما نحن فاننا نحاول أن نهض بجناح واحد وهذا مستحيل

لذلك كله ولغيره من الأسباب التي لم تحضرني حين كتابة هذه الكلمة أصبح التعليم ضرورة من ضرورات الحياة كالأكل والشرب ، وأوجبت الدساتير الحديثة على الدول الراقية تعليم الأفراد ، وعلى الأفراد التعلم . ولذلك أيضا أخذت الدول الديمقراطية الحديثة ، وهي في محنتها  الحربية الحاضرة وقبل أن تنتصر هذا الانتصار تفكير جادة مخلصة في أن تفتح أبواب معاهد العلم شتاء وصيفا نهاراً وليلا لكل المواطنين على اختلاف أسنانهم وطبقاتهم وثقافاتهم ليستمروا في طلب العلم من المهد إلى اللحد

وهناك أمر آخر خطير كل الخطورة يضطرنا اضطراراً إلي المسارعة في تعميم التعليم الأولى ومكافحة الأئمية  والضلالة والجهالة ممن تجاوزوا سن التعليم الأولى من المواطنين ، وذلك أننا أقحمنا إقحاما رغم أنوفنا في هذه الأمم الراقية القوية بصناعاتها وبعلومها الصناعية بعد إزالة الحواجز المكانية والزمانية بين الأمم بوسائل الاتصال الحديثة في هذا العصر ، فكيف نخالطهم ونمازحهم وتحتفظ مع هذا الاختلاط مقوماتنا وبمجدنا وكرامتنا ، بل وبحياتنا، إذا لم نجارهم في أصل الحضارة وعمادها ، وهو العلم الذي جاريناهم في درجاته العليا النظرية وقصرنا عنهم فيه تقصيرا معيبا

ضاراً في درجاته العملية والسفلي ، وهي تصميم التعليم الأولى ؟ لا شك عندي بعد ذلك في أننا لا يمكن أن ترقي ونتحضر ونحتفظ باستقلالنا إلا إذا عممنا التعليم الأولى وكافحنا الأمية والجهالة والضلالة

أما السؤال الذي خطر له وخجل منه - وليس في المصارحة بالخواطر رغبة في الخير ما يخجل لولا ما نعرف في الكاتب الجليل من التواضع والأدب الجم - وهو : أيهما  افضل المدارس التي تعلم القراءة والكتابة والحساب ، ويبقى بعدها الصبيان بلا عمل أم المؤسسات التي تدربهم على الصناعات الزراعية وغير الزراعية الملائمة للبيئات المختلفة وعلى تحسين الزراعة حتى إذا ارتفع بها مستوي المعيشة نظرها بعد ذلك في تعليم القراءة والكتابة والحساب ! لقد عقب على هذا الخاطر مباشرة بقوله : " ألا تكون هذه المؤسسات نفسها بمثابة مدارس يتعلم فيها الناس دروس الحياة ؟ ألا يكون من الممكن أن نلحق بهذه المؤسسات فصولاً لدراسة ما يلزم العمال من كتابة وقراءة وتوجهه في الصناعات ؟ " .

وبهذا التعقيب وهو خاطر سريع من خواطره التي لم  تمحص ولم تصر آراء ناضجة قد حصل الأشكال ورسم الطريق لتعميم التعليم الأول ، إذ جعله عمليا علميا ، لا علميا فحسب ، وهذا هو الواجب لعدة أمور في مقدمتها:

أن الصناعة في ذاتها خير الوسائل لتربية الأمة تربية جيدة جسدية وعقلية ونفسية ، لان التدريب الصناعي اليدوي من شأنه يقوى الأجسام ويقيها الأمراض ، والصناعة تقوم على العلوم والفنون . ففي التدريب عليها تعليم عملي للعلم والفن يقوي العقول ويزيدها ثقافة ، والصناعة تدرب الصناع على مكارم الأخلاق عمليا ، وهي الصبر والحلد والتعاون والدقة ، وتربى الذوق السليم وغير ذلك فإذا اقترن التدريب على الصناعة بتعليم ما يلائمها من العلوم والفنون الصناعية كان في ذلك كل الخير .

وأن في انتشار الصناعة القضاء المبرم على الجرثومة الأولى الخبيثة الفتاكة بالأجسام والنفوس والعقول ، وهي الفقر ، وأن تعميم التعليم النظري وحده فيه قضاء على الملكات والمواهب ، وأن خير وسيلة لإيقاظ هذه الملكات  والمواهب هو أن يصحب التعليم النظري التدريب العملي

وبهذا التعقيب يكون حضرة الأستاذ الجليل صاحب الخواطر وكاتب هذا المقال قد وافق على تعميم التعليم الأولي على أن يكون علميا وعمليا . أما كيف تكون المدرسة الأولية ، وكيف تكون علاقتها بمراحل التعليم الأخرى فهذا بحث آخر . وللحران الكريم الشكر والتحية .

اشترك في نشرتنا البريدية