الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 600الرجوع إلى "الثقافة"

خواطر ليلة من رمضان

Share

جلست فى هذه الليلة من رمضان عقب الإفطار فى خلوة بعيدا عن الضوء والضوضاء لأمتع نفسى حينا بالأشعة الخافتة المتلألئة من عوالم السماء . وما هى إلا لحظات حتى احتوانى الكون الفسيح ، وجد عن حسى صخب الحياة ، ووجدت كأننى أسمو إلى عالم آخر عرفته فى وقت من أوقات حياتى ، ثم رددت إليه بعد فترة انقطاع واحتجاب .

ناجيت الهلال فى أول الليلة وهو يفتح ذراعيه للزهرة التى انتحت عنه ناحية ، لا هو يتقدم إليها ولا هى تقترب منه ، كأنهما يصوران فى الكون رمزا خالدا لمعنى قدسى . وناجيت النجوم مجتمعة فى أبراجها موزعة فى فضائها لا تتقدم إحداها شعرة عن موضعها ولا تتأخر - هكذا يمسكها الرحمن من أقدم الأزل إلى أبعد الأبد . وما زلت أقلب بصرى وعقلى فيما حولى حتى انبلج من الشرق خيط من النور ينتفس فى الظلام كالأمل الطالع فى القلب المؤمن أو القلب النبيل .

هذا هو الليل الذى كنت أملأ منه قلبى فى شبابى ، وهذه هى العوالم التى كنت أقلب فيها بصرى وعقلى خاشعا أسألها عن سرها القديم الذى أوحى إلى آلاف القرون . وأعادت إلى هذه الجلسة صنفا من الوجد كان يغمر نفسى كلما خلوت تحت السماء فى صحبة درارى العلا .

وخطرت على قلبى خطرة من نبأ قرأته فى إحدى صحف الصباح ، إذ قيل إن أمريكيا فتح مكتبا فى نيويورك ليحجز مقاعد فى الطائرات لمن أراد السفر إلى الكواكب ، وحدد لذلك موعدا فى شهر مارس من عام ١٩٧٥ . وسألت نفسى ماذا يكون لو استطاع ذلك الأمريكى أن يحقق وعده

الجرىء ! ثم سألت النجوم لم تبالغ فى كتمان سرها عن هذا العالم المأفون حتى يجرؤ أمريكى على مثل هذا التدنيس ؟ ثم سألتها : ماذا يكون مصير هذه الحياة إذا استطاع الإنسان أن يهتك كل الأستار ، وأن يقتحم كل الحجب ، وألا يبقى فى الكون معقلا للجلال ؟.

قد سخر الإنسان من كل مقدس ، وخلع صورة غرائزه على كل مظهر ، ومد يده بالتحطيم إلى كل خفى ، وكل لطيف دقيق الهندسة ، فكان مثله فى ذلك كمثل الطفل يعبث بالآلة الدقيقة ؛ فما يزال بها حتى يفككها ويزيل عنها سر إبداعها ، ثم يتأمل قطعها المبعثرة وقد زال عنها رونقها فلا يجد فى نفسه إلا الخيبة والحسرة ، فإذا هو حاول أن يعيد إنشاءها ويردها إلى سابق صورتها ظهر عجزه وضعفه ، فإن الخلق والتكوين أسمى من مقدرته وأبعد عن سلطانه .

ترى ماذا يكون مآل الإنسانية إذا مضى الإنسان فى عبثه الشفيع ؛ فجرد الحياة مما أودع الله فيها من جلال ومن جمال ، وترك الكون هيكلا بشعا محطما ، وهو يزعم أنه يبحث ويحلل ويكشف الأسرار ؟ .

ماذا جنى الإنسان على الحب عندما زعم أنه يحلله وبشرحه فلم يزد على أن أطلق عليه اسما جديدا شائها ضيع كرامته وأنزله من محرابه للطهر ؟ ماذا جنى فرويد وأضرابه على عاطفة البنوة والأمومة ، بل ماذا جنوا على عاطفة الصداقة عندما أمعنوا فى التحليل والتشريح ، فزعموا أنهم بلغوا ما وراء الأستار وكشفوا عن حقائق النفس البشرية ، مع أنهم لم يزيدوا على أن دنسوا القدس بأن أطلقوا عليه

الأسماء التى تعود الناس أن يطلقوها على المدنس .     وقد كانت الإنسانية تقف مشدوهة أمام جلال الكون من سماء عالية ونجوم لامعة وهلال يتكامل يوما بعد يوم حتى يصير بدرا ثم ينحدر متناقصا حتى يحجبه المحاق بعد ذورته الشهرية ، وكانت الشمس فى مسيرها اليومى مملؤء خشوعا والمطر إذ ينهمر فى العاصفة والرعد إذ يجلجل والبرق إذ يخطف ،كان كل ذلك يقع من نفسه موقعا يجعله يدرك نسبته إلى قوى الكون ويقر بجبروتها .

وكانت مناظر الغابة والجبل العالى والثلوج البيضاء التى تتوج رأسه والبحر الهادئ حبا والهائج أحيانا . كان كل ذلك يملؤه روعة وإجلالا ويوقع فى نفسه من معانى الجلال والجمال ما يملأ حياته فنا . وكانت الإنسانية تعثر فى حياتها وتتطلع دائما إلى بعض معالم من المثل العليا ، فكانت تعد تلك المثل نهائية مطلقة لا تبيح مناقشتها ولا الخروج عليها . كانت ترى الصداقة حقا نهائيا مطلقا ، وكانت تعلى قدر الوفاء والكرم والشجاعة والرحمة والإيثار وما إليها من الفضائل وتعدها جميعا من الحقائق البشرية التى لا تحتمل الجدال ولا المراجعة . غير أن العالم الحديث لم يتردد فى الهجوم على هذه المعاقل الحصينة ، وزعم أنه يحلل وبشرح لكى يفهم ويقيم مدنيته على العلم ، فما زال بها حتى أدخل إليها الشك وأزال هيبتها وسلطانها الروحى . فإذا هو اليوم ولا عاصم له من مثال عادل ولا من حق ثابت مطلق ولا من حدود واضحة بين ما هو حلال وما هو حرام فى حياة الإنسان .

ويبدو لى أن العالم الحديث قد خرج بهذا الاتجاه عن سنة الإنسانية الطبيعية ، وأنه لا بد عائد إلى السنة الطبيعية ولو بعد حين عندما تصدمه الوقائع صدمات تعيد إليه وعيه واتزانه .

فالشعور بالحلال والتأثر بقدسية جمال الكون ووجود الحدود والمثل العليا طبيعى وضرورى لكل حياة اجتماعية . وما دام الإنسان يحيا فى مجتمعات فإن الحدود والمثل العليا وتقدير الجمال لازمة لحفظ كيانه وغيرها تحل الفوضى محل النظام ويسود الخصام والاعتداء ، وتعود الحياة إلى قوانين الغابة - فوضى يحكمها العنف ويكون فيها الحق للقوى وتنعدم فيها هذه العناصر العليا التى ميزت الحياة الإنسانية على مر الدهور ورفعتها فوق مرتبة الحيوان . بل إن هذه المشاعر الجليلة والحدود المطلقة وهذه المثل العليا هى التى مكنت للانسان أن يصبح سيد الأرض ويتسامى إلى مرتبة أعلى من مرتبة الحيوانية .

وأقل تأمل فى هذا المعنى يظهر جليا أن الخشوع للجلال والجمال وتقديس الحدود والمثل العليا معان طبيعية يتجه الإنسان إليها من تلقاء نفسه بحكم حياته الاجتماعية .

فالأطفال إذا أرادوا تنظيم لعبة من ألعابهم الاجتماعية أحسوا جلالها وجمالها ، وعرفوا الضرورة التى تدعوهم إلى الاتفاق على أصولها ، ويرون فى الخروج على هذه الأصول إفسادا لجمالها وروعتها وتضيعا لجهودهم فيها ، فيؤثرون إبطال اللعبة على المضى فيها إذا حاول بعضهم إنكار حدودها وأصولها أو الخروج عليها .

فالعالم الحديث يشبه مجموعة من الأطفال يمارسون لعبة لها رونقها ولها أصولها وحدودها ، ثم بدا لبعضهم أن يناقش تلك الأصول ويجادل فى تلك الحدود ، فلم تلبث اللعبة أن فسدت وفقدت جاذبيتها وحل محلها عراك وخصام وفوضى .

ومن العجيب أن الإنسان الحديث بعد أن اقتحم كل الحدود التى خلفتها العصور الطويلة وأحس أنه قد أفسد على نفسه حياته وسعادته عاد إلى عقله يناقش ويجادل مرة ثانية ليبحث عن طريق للخلاص مما هو فيه من الشقاء ، طامعا أن يهتدى إلى وسيلة جديدة تعيد إلى حياته النظام والهدوء . فأخذ يفكر فى توثيق الروابط الدولية ، وجعل يقيم اليونسكو وغير اليونسكو ليقر بين الناس السلام ، وبذل فى ذلك جهودا كبيرة وتضحيات جسيمة ، مع أنه لن يبلغ من وراء كل هذه الجهود والتضحيات إلا الخيبة المرة . ذلك لأنه قد حطم المعالم الجليلة التى تعود أن يخشع لها ويطلب هدايتها ، واقتحم المعاقل التى كانت تعصمه ، وهي تلك الحدود الطبيعية والمثل العليا التى كان يتطلع إلى بلوغها ، ويحاول الأفراد أن يتقيدوا بها ويستوحوها فى حياتهم الخاصة والعامة .

ولو استطاع ساسة العالم وقادة الحوادث الكبرى فيه أن يفتحوا عيونهم وقلوبهم لجلال السماء فى ليلة مثل هذه الليلة من رمضان ، ولو استطاع أرباب الاقتصاد وعمالقة الصناعة أن يخلوا إلى أنفسهم ساعة فى تأمل جلال هذا الكون ، وأباحوا لأنفسهم أو أباحت لهم أنفسهم أن يحسوا شيئا من ذلك الجلال ، ويخشعوا له - لو حدث هذا لوجدوا المخلص من فوضى هذه الحياة الحديثة التى تهدد الإنسانية بالفناء . إن المخلص يسير ، ولا يكلف الإنسان إلا أن يرد نفسه إلى تقديس الجمال والجلال فى الكون . وأن يعيد إلى قلبه الإيمان الطبيعى بالحدود والمثل العليا التى كانت من قبل هى أمل الإنسانية فى حياتها الخاصة والعامة .

اشترك في نشرتنا البريدية