فى موقف الأوتوبيس :
أقبل الناس من دور أعمالهم إلى حيث تبدأ السيارة العامة التى تحملهم إلى منازلهم . وتباطأت عن الحضور زمنا ازدادت فيه جموعهم . ثم لاحت عن بعد فاشرأبت أعناق وبرزت أكتاف وسواعد ، ثم وافت حيث تقف فلم يمهلها جمهور المنتظرين حتى تفرغ حملها ، بل سارعوا إليها يتدافعون بالصدور والمناكب ، وغفل كل عن جاره وتخطى المتخلف من كان أمامه ، وشغل كل بنفسه فلم يبال في سبيل الوصول إلى مدخل السيارة أن يدفع شيخا أو يصدم سيدة أو يدوس طفلا ، واكتظ بابها الصغير بجموع المتزاحمين من الصاعدين والهابطين ، وأشتد تضاغط هؤلاء وهؤلاء على غير ترتيب أو نظام ، ومضى زمن غير يسير قبل أن يبلغ كل منهم مأمنه ، بعد أن أبلى فى معركة الصعود أو الهبوط بلاء شديدا ، تصبب فيه عرقه ورضت عظامه وتهدلت ملابسه . وانجلت الموقعة عن ركوب أكثر المنتظرين ، ولم يبق خارج السيارة غيرى أنا وصاحبى وشيخ ضعيف وسيدة معها طفلان .
والتفت إلى صاحبى - وكنت قد حملته على ألا يخوض غمار الزحام مع الخائضين - وقال لى : " هذا دأبك أبدا . تفر من الزحام وترضى بالتخلف . وهل ما رأيت إلا صورة مصغرة من معارك الحياة التى لا يفوز فيها إلا الأسرع الأسبق ؟ "
قلت : صدقت . هى صورة من حياتنا العامة المعتلة التى تجرى أمورها بلا ضابط ولا نظام ، والتى تبدد فيها الجهود من غير اقتضاء ، والتى يفوز فيها الأنانيون الذين لا يبالون فى سبيل بلوغ غاياتهم أن يتخطوا رقاب الناس ،
وأن يتقدموا من هو أحق منهم بالسبق من غير تورع أو حياء .
رحم الله يا صديقى عهدا كان العرف فيه فى هذه البلاد أن يجمع الفرد عنان أنانيته فى كل مجتمع عام ، وأن يجامل مسايره ويؤثره بالتقدم إذا انتهى بهم المسير إلى مضيق لا يتسع لأ كثر من واحد ، وأن يتلطف فى سفره ، فيعرض على الوافدين عليه أطيب الأماكن قبل أن يتمكن من مقعده ، وأن يحتمل المشاق فى سبيل إراحة الضعيف وإ كرام الغريب . أين هذا العهد مما نحن فيه حيث تتبدى فى كل اجتماع أنانية سافرة ، لا ترعى مجاملة ولا تحس فيها لباقة ، ولا تلمح فيها أثرا من المروءة .
قد تقول إنها طبيعة الزمن الذى يغلب دواعى العمل والسرعة على اعتبارات المروءة والانسانية . وليت شعرى فيم العجلة إن صح أن فى هذا التزاحم كسبا للوقت ؟ وما أعظم ما يخسره المجتمع إذا قيس إلى ما يكسبه أفراده بهذا التقاطع والاندفاع وراء نزعاتهم الفردية .
أرأيتك لو أن هذا الجمع المتكاثر نظم نفسه صفا صفا ، ووقف كل حسب ترتيب حضوره ، ولزم مكانه فى هدوء لا يعدو على من قبله ، ولا يحيف عليه من أتى بعده ، وانتظروا جميعا حتى يهبط النازلون ثم صعدوا بلا جلبة حسب موافقهم الأسبق فالذى يليه ! أكنت ترى هذا التدافع والتضاغط ، وتعطل حركة الدخول والخروج زمنا غير يسير ؟ وهل كان يتخلف بعد ذلك إلا الأخيرون من المنتظرين ، وهم الذين يجب عدلا بحكم تأخرهم فى الحضور أن يتخلفوا وينتظروا العربة الثانية ؟ وهل كنت تجد مع هذا النظام شكوى من ضعيف أو عاجز ، أو ترى روح المقت والكراهية التى تبدو من بعض الناس لبعض بسبب هذه الأنانية السافرة التى يتخطى فيها القوى رقاب
الضعيف ، ويسبق الخشن الجاف المهذب الرقيق الطبع ؟ ثم عد بنا إلى شئوننا العامة جميعا ، وتخيل معى ماذا
يكون الحال لو أننا طبقنا هذه القاعدة عليها جميعا ، وخاصة على الأمور التى يكثر حولها التزاحم والتنافس . ماذا يكون الحال لو التزمنا الترتيب الدورى فى مقابلاتنا ومعاملاتنا والتعيين والترقية فى وظائفنا وقبول الطلبة فى مدارسنا وما إلى ذلك ! ألا تحس معى أن مثل هذا النظام من شأنه أن يشيع روح الطمأنينة والثقة بين الناس ، ومن شأنه أن يريح فريقا كبيرا منهم من تلمس وسائل كريهة لتنكب طريق العدالة فى سبيل الحصول على رغباتهم ، ويزيل كثيرا من أسباب الجفاء التى تقوم بين الناس بسبب تنافس غير شريف ؟
ليتنا يا صديقى نطبق فى حياتنا الاجتماعية ما طبقناه بنجاح فى شراء تذا كر السكة الحديدية من نوافد محطاتها
الايحاء والدعاية :
قيل إن أستاذا من أساتذة الطب فى إحدى الكليات بأمريكا أجرى على تلاميذ فصله ، وعددهم ثلاثون ، التجربة الآتية :
قال لهم إنه سيجيئهم فى الغد بثلاثين قارورة من الماء ، وضع فى خمس عشرة منها قليلا من سم خاص لن يكون وراءه كبير أذى لصحتهم ، وكل ما يحدثه فى شاربه نوع معين من الحمى يزول أثرها بعد ثلاثة أيام ؛ فقبل الطلبة أن تجرى عليهم التجربة . وأخذ الأستاذ بشرح لهم أعراض تلك الحمى وما يصحبها من آلالم فى مواضع معينة من الجسم ، وكيف تسير درجة الحرارة خلال أيامها الثلاثة من ارتفاع وهبوط . وفى غد ذلك اليوم شربوا جميعا كؤوسهم الثلاثين ، وكان أن نقلوا جميعا بعد ذلك إلى المستشفى ، حيث ظهرت عليهم جميعا
الأعراض التى شرحها الأستاذ ، وأحسوا كلهم الآلام فى المواضع التى بينها ، وسارت درجة الحرارة على الوجه الذى ذكره . ولم يكن بالكؤوس الثلاثين شىء سوى الماء القراح !
وقديما روت الكتب لنا قصة الملك الذى كان يشكو السمن المفرط ، وتلمس لدى المتطببين ما يخفف عنه بعض حمله من الدهن ، وأعيتهم الوسيلة لذلك ، حتى اهتدى بعضهم إلى حيلة ذهنية فعلت ما لم تفعله العقاقير ، فأوهم الملك أنه نظر فى النجوم فوجد أن الملك يموت فى وقت معين حدده له ؛ وكان ما أصاب الملك من الغم بهذا البلاء القريب الوقوع كافيا لأن يورثه الهزال ، ثم صارحه بعد ذلك بأنه إنما احتال بالايحاء على ما أعجزه بالطب ، وأنه ما كان له ولا لمخلوق سواء أن يعلم ما غيبه الله .
وعجيب هذا الايحاء وانفعال الناس له وجودهم عن ربط النتائج التى يصلون إليها بالمقدمات الناقصة التى يستسلمون لها ! ولكن هى الطبيعة البشرية بها مسارب ضعيفة يستطيع الماهر أن يدخل منها إلى أعماق النفوس ويؤثر ما لا يؤثره المنطق الواضح والإقناع الصحيح .
وأساليب الدعاية التى يعمد إليها المتحاربون فى هذه الأيام تستخدم هذا السلاح بمهارة فيما يسمونه بحرب الأعصاب ، فهى تتخير الظروف الملائمة وتنتفع من بعض الحوادث فى شن غارات نفسية تحطم الأعصاب الضعيفة وتوحى لها بالانهزام وعدم جدوى المقاومة .
وهذا الامتحان القاسى لا يجتازه من الأمم إلا ذوات العزم والصبر . وصدق المارشال فوش فى كلمته المأثورة : " إن الأمم لا يهزمها عدوها حتى تهزم هى نفسها " .
فيجان :
وعلى ذكر كلمة المارشال فوش يسوقنا إلى الحديث إلى ابنه الروحى " فيجان " وموقفه فى هذه الحرب ، وما آل إليه حاله أخيرا ، فقد سمعنا أنه عزل من مركزه فى المغرب الأقصى ، وقيل إنه اعتقل .
وقد كان فيجان رئيس أركان حرب المارشال فوش ، وكان له نصيب عظيم فى الانتصارات التى أحرزها المارشال سنة ١٩١٨ . وأعارته الحكومة الفرنسية لحكومة بولاندا فى حربها مع روسيا ، فكان مدير موقعة وارسو الظافرة ؛ وقد أوصى قوش بأنه كلما حزب فرنسا أمر من الأمور فعليها أن تعتمد على فيجان .
ولما بدا عجز الجنرال جاميلان وجموده أمام الغزاة فى نتوء سيدان ، كان من الطبيعى أن نتجه فرنسا إلى فيجان وتستدعيه لإنقاذ فرنسا . ولكنه أثبت أنه لم يكن خيرا من سابقه كفاية ومهارة ، وأنه زاد عليه تشبعا بروح الهزيمة .
وليس من شك أن فيجان كان فى سنة ١٩١٨ رجلا كفئا لعمله الذى كانت يقوم به كرئيس أركان حرب المارشال فوش ؛ ولكن المزايا التى تبرز صاحبها فى عمل رئيس أركان الحرب ليست وحدها بالمزايا التى تؤهله لتولى القيادة العامة فى الحرب . والحرب فى سنة ١٩١٨ تعد ألعوبة بالقياس إلى الحرب سنة ١٩٤٠ وقد كان فيجان أستاذا فى الحرب على الأساليب القديمة ، ولكنه لم يدرك الأساليب الحديثة تمام الادراك . وقد يكون فيجان خيرا من جاملان من حيث اقتناعه بضرورة المرونة فى الحركات الحربية ، ولكنه إذا قيس إلى " كيتل " قائد الألمان لم يكن شيئا . لقد أدخل الألمان فنا حربيا حديثا أو إن شئت فقل إنهم ساروا بما اكتسبوه من خبرة فى سنة ١٩١٨ إلى غاياتها . فأدركوا حق الادراك قيمة الدبابة
والطيارة فى الحرب ؛ ولكن رجال الحرب الفرنسيين لم يستطيعوا أن يدركوا قيمة الحرب الميكانيكية ولا أن يعدوا أنفسهم لما تتطلبه .
أما روح الهزيمة التى كانت تملأ نفس فيجان فتتجلى فى تعليقه على دعوة ريتو له من سوريا لانفاذ فرنسا ، فقد قال : " لقد استدعيت بعد الأوان بشهرين " ومن قبل ذكر فى مذكرة له عن الميدان بعد زيارته أنه لا ينظر للأمور نظرة تفاؤل ، وأنه يحس عجز فرنسا عن مقاومة الفاتح . وليس لنا إلا أن نستعيد تصريح فوش الذى يقول فيه إن المعارك إنما تكسب أو تخسر فى العقول والأرواح ، وأن كسب الحرب لا يتحقق إلا باستشعار ثقة بالنصر وإيمان بالتغلب على العدو .
ومع أن التاريخ سيسجل لفيجان وطنيته وبلاءه فى الحرب العظمى الماضية ، فمما لا شك فيه أنه سيعد من الرجال المسئولين عن هزيمة فرنسا فى هذه الحرب .
