- ٦ - رأينا المؤيد عالماً من أكبر علماء عصره، ومؤلفاً يبث آراءه وتعاليمه فى بطون الكتب، ومجادلا له خطره يخشاه مناظروه ويرهبه أكبر مفكرى عصره وهو أبو العلاء المعري. والآن نتحدث عن أثر المؤيد فيمن جاء بعده بعد أن عرفنا مقدار تأثيره فى معاصريه، فقد كان للمؤيد تلاميذ استمعوا إليه وأخذوا عنه، منهم الشاعر الفارس المشهور (ناصرى خسرو)
الذى وفد إلى مصر بدعوة من المؤيد، ووصف مصر فى كتابه المشهور (سفر نامه) . فقد تحدث هذا الشاعر عن المؤيد ومجالسه فى كثير من قصائده. فمن ذلك ما ترجمته:
(إن الله قد فتح عليك باب الحكمة بما تفتح عنه خاطر الأستاذ المؤيد كل من يراه يوم مجلسه يرى عقلاً مفكراً أن الأستاذ جعل يعطى يوماً مشرقاً ببراهين منيرة كالشمس إنى نظرت من زاوية عقله فرأيت الفلك دائراً تحتى فقد أطلعنى على العالمين (الظاهر والباطن) وجعلهما حاضرين وفى مكان واحد من وجودى.
إنى رأيت فى مكان واحد مالكا ورضوان، واستقر فى صدرى الفردوس والنيران وقال لى إننى تلميذه، وأشار عندئذ إلى رضوان) إلى غير ذلك من أشعار ناصرى خسرو الفارسية التى تحدث فيها عن أستاذه المؤيد والتى يطول بنا الحديث لو تتبعنا أثرها.
من ناحية أخرى يعد المؤيد أستاذ الدعوة الفاطمية فى اليمن مع أنه لم يرحل إلى هذه البلاد، بل نقل تلاميذه إلى هذه البلاد آراءه وتعاليمه، وأثبت علماء اليمن هذه الآراء والتعاليم فيما تركوه لنا من كتب، بل أستطيع أن أقول إن علماء الدعوة فى اليمن هم أكثر
الناس حديثاً عن المؤيد، واقتباساً من كلامه واستناداً لحججه، وأشدهم اعتقاداً بأن الحق ما قاله المؤيد دون غيره من الدعاة، ويكفى أن نستدل على ذلك بقول إبراهيم بن الحسين الحامدى المتوفى سنة ٥٥٧هـ فى كتابه كنز الولد: وسيدنا المؤيد أقرب الحدود إلينا، وهو لا يأتى إلا بصحيح ما جاء به الحدود وإلغاء ما كان به شبهة أو فساد، لأن الآخر ينسخ ما جاء به الأول بإيضاح الرموز؛ والمؤيد حجة رابع الأشهاد ذو القوة فى العلم والتأييد والحكمة والتسديد المنصوص عليه باسم الحججية، كما قال مولاه المستنصر عنه:
يا حجة مشهورة فى الورى ... وطود علم أعجز المرتقى
شيعتنا قد عدموا رشدهم ... فى الغرب يا صاح وفى المشرق
فانشر لهم ما شئت من علمنا ... وكن لهم كالوالد المشفق
إن كنت فى دعوتنا آخرا ... فقد تجاوزت مدى السبق
مثلك لا يوجد فيمن مضى ... من سائر الناس ولا من بقى
فهذه شهادة من لا ترد شهادته، وأمر من لا يرد أمره، وتفويضه له فى نشر ما أحب أن ينشره من العلم بلا حصر ولا قصر، لعلمه بما عنده من الحق)
أما الذى نقل آراء المؤيد إلى اليمن فهو تلميذه لمك بن مالك قاضى قضاة اليمن فى عهد الصليحي. ولم أجد فى الكتب التى تتحدث عن اليمن شيئاً عن لمك هذا، ولكن الحسن بن توح الهندى صاحب كتاب الأزهار ذكر لنا قصة طويلة، نلخصها فى أن الصليحى صاحب اليمن أرسل قاضى قضاته (لمك بن مالك) على رأس وفد إلى مصر للسماح للصليحى فى النهوض إلى العراق لامتلاكها باسم الفاطميين. فلما جاء الوفد إلى مصر نزل لمك
فى دار المؤيد مدة خمس سنوات وانتهز هذه الفرصة؛ فأخذ عن المؤيد أسرار الدعوة الفاطمية، وكان يدون كل ما يسمعه عن المؤيد إلى أن استوعب كل ما عند المؤيد من علم، وكان المستنصر الفاطمى قد حجز وفد اليمن لأسباب لا نعلمها، ولم يسمح لهم بالعودة إلى بلادهم إلا بعد أن قتل الصليحي، فعاد لمك إلى اليمن وهناك بخل بعلمه، ولم يسمح إلا بالشيء القليل منه للداعى المكرم بن الصليحى وللملكة الحرة أروى وأحمد بن قاسم وغيرهم من الدعاة، بينما خص لمك ابنه يحيى بن لمك بجميع أسرار
الدعوة وكل ما عنده من العلم والحكمة وسلمه كل ما دونه عن المؤيد؛ فهيأ بذلك ابنه يحيى ليكون حجة اليمن فى عهد الخليفة الآمر الفاطمي، وأصبح يحيى أكبر عالم فى اليمن يحج إليه أتباع المذهب الفاطمى للأخذ من علومه التى رواها عن أبيه عن المؤيد
وذكر صاحب كتاب الأزهار جماعة من تلاميذ يحيى منهم الداعى الخطاب بن حسن الشاعر المتوفى سنة ٥٣٣هـ وذؤيب بن موسى المتوفى سنة ٥٤٧هـ وغيرهما، وهؤلاء الدعاة انتشروا فى اليمن يبشرون بما سمعوا عن يحيى بن لمك وأصبح لهم تلاميذ. فذؤيب مثلاً أستاذ الداعى إبراهيم بن الحسين الحامدي، وهذا أستاذ حاتم بن إبراهيم، وهذا أستاذ على بن حاتم، وهذا أستاذ على بن محمد بن الوليد. وهكذا نستطيع بسهولة ويسر أن نتتبع علماء الدعوة فى اليمن وأن نلمس فى هذه المدرسة روح المؤيد وتعاليم المؤيد أخذها دعاة اليمن أحدهم من الآخر. ولو تصفحنا كتب الدعوة
فى اليمن التى وضعت فى القرنين السادس والسابع من الهجرة لا نكاد نجد كتاباً منها يخلو من استشهاد بأقوال المؤيد أو بأشعاره، فصاحب (كنز الولد) ذكر المؤيد فى أكثر من ستين موضعاً، واقتبس من المجالس المؤيدية ومناجاته وأشعاره. وصاحب كتاب الأنوار اللطيفة ذكر المؤيد أكثر من أربعين مرة، ونقل صاحب كتاب الأزهار فصولاً بأكملها عن المجالس
المؤيدية منها رسائل المؤيد إلى أبى العلاء المعرى وهكذا، وكان هؤلاء العلماء يشيرون إلى المؤيد بقولهم: (سيدنا المؤيد) أو (سيدنا) فقط إمعاناً فى تعظيمه وتبجيله. وإذن فقد كان المؤيد عظيم الأثر فى الدعوة الفاطمية بل لا تزال كتبه إلى الآن من أمهات الكتب التى لا يقربها إلا من بلغ مرتبة عالية من مراتب الدعوة فى الهند واليمن (أى بين طائفة البهرة)
هناك ناحية أخرى تتجلى فيها عبقرية المؤيد، تلك هى ناحية الفن الأدبى عند المؤيد، فقد كان المؤيد رجلاً صاحب فن كما كان علماً من أعلام المذهب الفاطمي، وكانت صفته المذهبية تضطره إلى أن يحيط بكل شيء حوله، وإلى أن يلم بالآراء المذهبية وبالتيارات الفلسفية التى ملأت الأقطار الإسلامية فى ذلك العصر، فأخذ المؤيد بحظ وافر من نواحى الحياة العقلية المختلفة واضطر
إلى أن يجادل مخالفى مذهبه طوراً بالمكاتبة وطوراً بالمناظرة الشفوية فكان ذلك من أقوى الأسباب التى أدت إلى أن يكون المؤيد حريصاً أشد الحرص فى أسلوبه وفى لفظه وأن يكون ناقداً مدققاً يفكر ويطيل التفكير وينقد كل لفظ قبل أن يذيعه فى الناس فظهر أسلوبه الأدبى أسلوباً رائعاً يبهر السامعين، جمع بين قوة أسلوب العلماء المفكرين، وروعة أسلوب الكتاب الإنشائيين حتى كأنى به قد أتخذ أسلوبه سلاحاً ليفحم به خصومه وليجذب به سامعيه. والمؤيد فى الوقت نفسه كان أستاذاً
من أساتذة (التأويل) وأساس التأويل يعتمد على قوة الملاحظة وخصوبة الخيال، وعلى قدرة خاصة على التغلغل فى الموجودات ليتخذها المؤول دليلاً على أسرار الدين فكان لهذه الناحية أثرها فى فن المؤيد إذا اتجهت به فى شعره اتجاهاً خاصاً لا نكاد نجده عند أى شاعر آخر من شعراء العربية إلا عند أبى العلاء المعرى، فأبو العلاء والمؤيد هما الشاعران اللذان استطاعا أن يصفا فى شعرهما
اختلاف العقائد الدينية، وأن يتحدثا عن الآراء الفلسفية وعن الحياة والموت وعن دقائق الكائنات العلوية والسفلية انظر إلى المؤيد مثلاً وهو يتحدث فى إحدى أراجيزه عن خلاف الناس فى موضوع (الرؤية):
ونقضوا قواعد الشريعة ... كل له مقالة شنيعه
من مثبت لرؤية الرحمن ... مستشهد بآية القرآن
ومنكر قد جاء ينفى تلكا ... ودونها الشرك يرى والكفرا
وقال فى نفس الموضوع فى أرجوزة أخرى:
فقائل قال تراه العين ... وهو لعمرى وصمة وشين
من أجل أن رؤية الأبصار ... مختصة بالحسم ذى الأقطار
وقائل قد قال لما دققا ... جداً وفى أفكاره تعمقا
ما ذاك إلا قول ذى تضليل ... نراه لكن رؤية العقول
أمعن حتى ما أتى بشيء ... ولم يبق رشداً من غي
فالعقل للمرء أداة كالبصر ... ذا باطن فيه وهذا قد ظهر
فإن جعلت نحوه سبيلاً ... للعقل لم تجاوز التمثيلا
كلاهما يدرك بالمجانسة ... مقالة صحت بلا ممارسه
وليس من جنس العقول الله ... يا قوم كى تدركه حاشاه
كما تعالى أن يكون كالصور ... مجسماً كيما يلاقيه البصر
فالفرقتان اجتمعا مشبهه ... خباطتا عشواء جهل وعمه
ما جاوزت حد صفات البشر ... ونعت أرواحهم والصور
ذلك تشبيه فما التوحيد ... وذاك تجسيد فما التجريد
فهو هنا يتحدث عن موضوع خاض الناس فيه، وتفرقوا شيعاً وأحزاباً بسببه، حتى لا نجد كتاباً من كتب الفرق إلا وبه فصل عنه، فلم يترك المؤيد هذه الفرصة دون أن يدلى بدلوه مع غيره من العلماء، بل هو هنا يجادلهم بالنظم، كما جادلهم بالنثر، جادل المعتزلة الذين يرون أن الله سبحانه وتعالى يرى رؤية عقلية
ويجادل المشبهة الذين قالوا إننا نرى الله رؤية العين، ولكن المؤيد يرفض الرأيين ولا يقبلهما، كما يدلنا نظمه هذا على عقيدة الفاطميين فى هذا الموضوع. وإذن فنحن نستطيع أن نأخذ ديوان المؤيد مرجعاً هاماً لدراسة عقائد المذهب الفاطمي. فقد بث المؤيد شيئاً كثيراً جداً من العقائد الفاطمية فى أراجيزه وشعره مدح بها خلفاء مذهبه.
(يتبع)

