الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 654الرجوع إلى "الثقافة"

دراسات أدبية, حافظ إبراهيم

Share

٣

مراثيه

الرثاء من أجود شعر حافظ ولعل ذلك مرجعه لروح التشاؤم التى كانت تلازمه ولهذا الشقاء الذى كان يتخيله ولما كان يحسه من ظلم الزمان له حتى أجاد التوجع والتألم والشكوى فإذا رنى حافظ فهو يتحدث عن المرئى وصلته الشخصية به وفجيته فيه ونرى القصيدة تسرى فيها لوعة الحزن الشخصى وروعة الوفاء ويبرز فى القصيدة صورة للفقيد وأعماله وخلاله

قرثاء حافظ من النوع الإنسانى البسيط يختلف قوة وضعا حسب مكانة المرئى فى حياة الشاعر أو فى الحياة العامة وهو بكاء من الشاعر لنفسه ولذكرياته وأصدقائه

الراحلين لا تكلف فيه ولا تصنع فلا فلسفة هناك ولا محاولة للتفلسف إنما إرسال للنفس على سجيتها فى الحزن وتصوير لهول المصاب

فأنت إذا قرأت رثاء حافظ للشيخ محمد عبده خرجت بصورة لمواقفه وأعماله وآثار ثم الفجيعة العلم والدين والتقوي فيه ثم لهذا الأسى واللوعة التى تغمر نفس حافظ لققده وفقد منزله فى عين شمس الذى أظله كثيرا

سلام على الإسلام بعد محمد

             سلام على أيامه النضرات

على الدين والدنيا على العلم والحجى

                   على البر والتقوى على الحسنات

لقد كنت أخشى عادي الموت قبله

                  فأصبحت أخشى أن تطول حياتى

قوا لهفى والقبر بيني وبينه

              على نظرة من تلكم النظرات

وقفت عليه حاسر الرأس خاشعا

                  كأنى حيال القبر فى عرفات

تباركت هذا الدين دين محمد

             أيترك فى الدنيا بغير حماة

تباركت هذا عالم الشرق قد قضى

                 ولانت قناة الدين للغمزات

ففى الهند محزون وفى الصين جازع

                  وفى مصر باك دائم الحسرات

بكي عالم الإسلام عالم عصره

                 سراج الدياجى هادم الشبهات

بكينا على فرد وإن بكاءنا

          على أنفس الله منقطعات

تعهدها فضل الإمام وحاطها

               بإحسانه والدهر غير مواتى

فيا منزلا فى عين شمس أظلنى

              وأرغم حسادى وغم عدائى

عليك سلام الله مالك موحشا

            عبوس المغانى مقفر العرصات

وكذلك جميع مراتبه فهو إذ يرنى مصطفى كامل صور حزنه وحزن مصر رجالها ونسائها على الفقيد مع سوير أعماله وبطولته

نثروا عليك نوادى الأزهار

                وأثبت أنثر بيتهم أشعارى

غادرتنا والحادثات بمصدر

              والعيش عيش مذلة وإسار

عز الفرار على ليلة نعيه

             وشهدت موكبه فقر قرارى

شاهدت يوم الحشر يوم وفاته

             وعلمت منه مراتب الأقدار

تسعون ألفا حول نعشك خشع

                  يمشون تحت لوائك السيار

خطوا بأدمعهم على وجه الثرى

             للحزن أسطارا علي أسطار

كم ذات خدر يوم طاف بك الردى

                    هتكت عليك حرائر الأستار

سفرت تودع أمة محمولة

               فى النعش لاخبرا من الأخبار

العمرية

لا نستطيع أن تختم الحديث عن شاعرية حافظ دون ان نقف لحظة لدى عمريته الشهورة التى نظمها فى سيرة الفاروق عمر رضى الله عنه وإن نظرة إلى كنوز التاريخ تثبت لنا هذه القدرة التى أوتى منها حافظ حظا عظيما لم يعن باستخدامه

لقد كان التاريخ دائما مرجعا لفحول الشعراء والكتاب وعندما حاول حافظ أن يلج باب التاريخ ويرد مورده الفياض أتى لنا يدرة من شعره فياليته أطال الوقوف بهذا الباب إذا لأمتعنا بالكثير

ألقى حافظ قصيدته هذه فى حفل أقيم خصيصا عام ١٩١٨ ولعل الباعث له على نظمها فى تلك الفترة الحالكة من تاريخ الأمة العربية عامة هو إهداء صورة بارعة باهرة لأقوى شخصية فى تاريخها العروبة تكون قدوة لناشئة العصر ومثالا يحتذي به وهو يشير إلى هذا القصد فى ختام قصيدته حيث يقول

هذى مناقبه فى عهد دولته

             للشاهدين وللأعقاب أحكيها

في كل واحدة منهن نابلة

           من الطبائع تغذو نفس واعيها

لعل فى أمسة الإسلام ثابتة

            تجلو لحاضرها مرآة ماضيها

حتى تري بعض ما شادت أوائلها

                من الصروح وما عاناه بانيها

وحسبها أن ترى ما كان من عمر

                 حتى ينبه منها عين غافها

وأنت تحس إذ تقرأ مطلع العمرية بأن حافظا قد أقدم على هذا المجهود المبارك وهو هباب وجل لضخامة الموضوع

وعظم الشخصية وجلالها وقد يكون لجدة هذا النوع من الشعر على كاتبه

حسب القواقى وحسبى حين ألقها

                    أنى إلى ساحة الفاروق أهديها

لاهم حب لى بيانا استعين به

               على قضاء حقوقى نام قاضيها

قد تلزعتنى نفسى أن أوفيها

                   وليس فى طوق مثلى أن يوفيها

فمر سرئ المعانى أن يواتينى

                 فيها فإنى ضعيف الحال واهيها

وهو بعد ذلك يحدثنا عن سداد آراء عمر حديثا مطولا ينتهى إلى ذكر ما كان ينزل من القرآن موافقا لآراء عمر

رأيت فى الدين آراء موقفة

                  فأنزل الله قرآنا يزكيها

كم استراح رسول الله مغتبطا

                 بحكمة لك عند الرأى يلقها

ثم يحدثنا عن موقف عمر يوم السقيفة وحزمه الذى حسم الخلاف بين المهاجرين والأنصار

وموقف لك بعد المصطفى افترقت

                  فيه الصحابة لما غاب هاديها

بايعت فيه أبا بكر فبايعه

           على الخلافة قاسيها ودانيها

وأطفئت فتنة لولاك لاستعرت

                  بين القبائل وانسابت أفاعيها

أما عن عدل عمر فأصغ إلى حفظ يبدع لك فى صويره بايادئا يذكر عزل خالد بن الوليد من قيادة الجيش

لم يدع فى طاعة المولى خثولته

                 ولا رعى غيرها فسيما يتافيها

وما أصاب ابنه والسوط يأخذه

                لديه من رأفة فى الحد بيديها

إن الذى برأ الفاروق نزهه

              عن التقائص والأغراض تنزيها

فذاك خلق من الفردوس طبقته

                    الله أودع فيها ما ينقيها

لا الكبر يسكنها لا الظلم يصحبها

                  لا الحقد يعرفها لا الحرص يقويها

أما لقاء كسرى لعمر وما يشعر به المرء لدى هذا المنظر من هوان الدنيا وصغر شأنها إذ يرى أمير المؤمنين ومن دان له الروم والعجم مستلقيا على الثرى كأصغر تابع من رعاياه فقد أوجز حافظ وصفه فى هذه الآبيات التى تفيض قوة وروعة

رآه مستغرقا فى نومه فرأى

              فيه الجلالة فى أسمى معانيها

فوق الثرى تحت ظل الدوح مشتملا

                    ببردة كاد طول العهد ييليها

فهان فى عينه ما كان يكبره

              من الأكاسر والدنيا بأيديها

أما أخذ عمر بالشورى فهو أمر مشهور وله خطره

دري عميد بنى الشورى بموضعها

                  فعاش ما عاش يبنيها ويعليها

وما استبد برأى فى حكومته

              إن الحكومة تغرى مستبديها

رأي الجماعة لا تشقى البلاد به

                   رغم الخلاف ورأى الفرد يشقيها

وعمر كان أزهد الناس وأعفهم وهو يأخذ نفسه بالزهد ويمضى فيه خشية أن يداخلة الغرور بالدنيا وعرضها ويذكر حافظ حادثة دخول عمر بيت المقدس وتقديم الناس له حلية فاخرة وجوادا كريما بدلا من حماره

يامن صدقت عن الدنيا وزينتها

                 فلم يغرك من دنياك مغربها

فصحت يا قوم كاد الزهو يقتلنى

                    وداخلتنى حال لست أدريها

وكاد يصبو إلي دنياكم عمر

            ويرتضى بيع باقيها يفانيها

ردوا ركابى فلا أبغى بها بدلا

                 ردوا ثيابى فحسبى اليوم باليها

الغزل فى شعره

أطلنا الحديث عن حافظ وشعره ولا شك أنكم مشوقون إلى معرفة تتسيب المرأة فى حياة هذا الشاعر العظيم ولعلنا لا تخطئ إذا قلنا إن مقياس خطر المرأة فى حياة الشاعر هو ما نظم من نسيب وغزل وقد كان هذا الضرب من الشعر أقل ما فى ديوان حافظ فهل أفقرت حياته من المرأة

يلوذ أصدقاء حافظ بالصمت حيال هذا السؤال فلم يحدثنا أحدهم عن مكانة المرأة فى حياته ولست أدرى أعن جهل كان هذا أم عن وفاء حرصوا معه على عدم الحوض فى حياته ولكن من المختفى أنه تفسير فى حق حافظ وحق الأدب والتاريخ لأن حياة الشاعر ما كانت ملكا خاصا له بل هى ملك للإنسانية كلها وإذا جهلنا هذه الناحية منها فقد غاب هنا الكثير من بواعث شعره

وكل ما نعلم عن حافظ أنه تزوج علم ١٩٠٦ عقب عودتة من السودان من أسرة يحى عابدين ثم افترق عن زوجه بعد أربعة أشهر ولا ندرى بعد ذلك شيئا عن أسباب هذا الفراق ولا نعرف إذا كانت المرأة قد دخلت فى حياة حافظ أم أفقدت حياته من أثرها

وقد أجمع كثير من النقاد على ضعف الغزل فى شعر حافظ وفتور العاطفة الكامنة وراء وهاكم أمثلة من غزله

ظى الحمسا بالله ما ضركا   إذا رأينا في السكرى طيفكا

وما الذى نخشاه لو أنهم     قالوا فلان قد غدا عيدكا

قد حرموا الرق ولكنهم     ما حرموا وفى الهوى عندكا

وله أيضا

أنا العاشق العانى وإن كنت لاتدرى

                   أعيذك من وجد تغلغل فى صدرى

خليلى هذا الليل فى زيه أنى

                فقم تلتمس للسهد درعا من الصبر

وزعموا انه لم يخاطب أنثى بشعره فى غير هذين البيتين

أذنتك ترتابين فى الشمس والضحى

                    وفى النور والظلاء والأرض والسما

ولا تسمحى للشك يخطر خطرة

                    بنفسك يوما أننى لست مغرما

ولعل حافظا ينفى عن نفسه تهمة الجمود وفتور العاطفة فى هذه الأبيات

سكن الظلام وبات قلبك يختفى

              وسطا علي جنبك هم مقلق

عجبا يلذلك السكوت مع الهوى

               وسوالة بيعثه الغرام فينطق

ورموك بالساوى ولو شهدوا الذى

             تطوية فى تلك الضلوع لأشفقوا

وهو يحدثنا عن موثق مع الحبيب بألا يبوح بهواء ويكتم خبره فى هذه الأبيات

إن الذى أغرى المهاد بمقلنى    متعنت فلسى به متعلق

واثقته ألا أبوح وإنما           يوم الحساب يحل ذاك الموثق

وشفيت منه بقربه وبعده     وأخو الشقاء إلى الشقاء موفق

ومن بديع ما قاله فى هذا الباب

وكم لمحة فى غنة الدهر نفست     عموما لها بين الضلوع سعير

فقد يشتفى الصب السقيم بزورة   وينحو بلفظ عائر وأسير

ولعل حافظا قد شغل عن هوى الغانيات يهوى مصر فأرق فى غرامها وفكر

لعمرك ما أرقت لغير مصر     ومالى دونهما أمد يرام

ذكرت جلالها أيام كانت       تصول بها الفراعنة العظام

فأقلق مضجعى ما بات فيها   وباتت مصر فيه فهل آلام

ملحه

وهب الله حافظا على بؤسه وحرمانه خفة فى الروح وإرهافا فى الحس وحضورا فى البديهة فضحك من البؤس وتهكم بالشقاء وفرح حياته بالفكاهة الحلوة والنادرة المستعلحة فتمت فيه ملكة التهكم وترعرعت فيه روح الفكاهة فكانت طبيعته فى بؤسه هى طبيعة المصرى الخالصة ومزاجه فى شفائه هو مزاج المصرى الصميم يظهر المرح ويكتم الآلم والحزن بل يتخذ من مرحة الظاهرى الممزوج بالفكاهة وسيلة للتنفيس عن شقائه ومنفذا للترويح عن آلامه

وقد أضافت هذه الروح لفنون حافظ فى الشعر فنا مستحياتهم به الخاصة والعامة أعنى من مكانة حافظ لدى الجماهير ويظهر هذا اللون فى شعره الذى يداعب فيه إخوانه ويشكو إليهم فيه زمانه فقد كتب إلى جار له فى يوم زفافه يستهديه من طعام العرس وثيابا يلبسها

أحامد كيف ننسانى وبينى    وبينك يا أخى صلة الجوار

أيشبع مصطفى الخولى وأمسى  اعالج جوعتى فى كسر دارى

وبينى فارغ لا شئ فيه          سواى وإنى فى البيت عارى

ومالى جزمة سوداء حتى       أوافيكم على قرب المزار

فإن لم تبعثن إلى حالا         بمائدة على متن البخار

تغطيها من الحاوى صنوف    ومن حمل تشل بالنهار

فإنى شاعر يخشى لسانى      رسوف أريك عاقبة احتقارى

ولقد أتاح الفقر فقر المال لحافظ أن يخالط العامة ويجالسهم ويشاركهم فى خيرهم وشرهم وأصبح يختفى باستحسان الشعب ويصغى إلى الجمهور ولذا كان يتولى إلقاء قصائده بنفسه حتى يطرب باستحسان الناس وتصفيفهم لشعره حتى غدا ذوق الجماهير مقياسا من مقاييس شعره وأصبح شعره صورة واضحة المعالم لمجتمعه وعصره وقد يغرق فى الشعبية حتى يأتى بالمقيم والمبتذل لكنه على كل حال من المحبب إلى قلوب الشعب

وقد صور حافظ الكثير من الأمثال العامية والتعابير المصرية والألفاظ الشعبية فى شعره كقوله فى حفلة تكريم حفنى ناصف

لولا الحياء ولولا       دينى وعقلى وسنى

لقمت فى يوم حقنى   أدعو لسكرة بنى  

لا تنس عيشا تولى    ما بين شرح ومتن

وذقت من جاء زيد   ومن شروح الثمن

أيام سلطان يلهو       يمشيه ويغسنى

يشكو إليك وتشكو   إليه عيشة غبن

ولعلكم تقرءون الكثير مما نعشره المجلات فى هذه الأيام عن نوادر حافظ وقد أثر عنه أنه كان يجب أن يتكلم وكان يحسن التكلم وكان يفيض فى الحديث على جلساته يملحه وطرفه وهم بنشوة حديثه مأخوذون يودون لو لم ينته من

حديثه ولا بأس من إيراد هذه المزحة فإنه يروى أن حافظا زار بورسعيد وخرج فى جمع من أصدقائه بدعوة من زكى أبى شادى للنزهة فى زورق فى القنال فلما جلس حافظ فى الزورق وجد أمامه الشاعر على الآلفى فأنشد مازحا على الفور

أبا شادى أبا شادى   لقد اكمدت حساوى

ألم تنظر على الألفى   مثل الفرد فى النادى

أعماله

من المؤسف حقا أن تمضى تسعة عشر عاما على وفاة حافظ ولا يعنى أحد من معاصريه بدراسته الدراسة الوافية ولا يهتم قومه بالعناية بآثاره العناية الواجبة فلم يكتب عنه حتى الآن سوى كتابين صغيرين أحدهما عن شعره السياسى

أما كتب حافظ فهى عدا ديوانه الموجز فى علم الاقتصاد بالاشتراك فى تعريبه مع خليل مطران والتربية الأولية عن الفرنسية وكلاهما من الكتب المدرسية التى كلف بترجمتها وقد كان اختيار حافظ لترجمة الموجز لتعريب المصطلحات الاقتصادية أو وضع مصطلحات جديدة عن طريق الاشتقاق اللغوى وهو من أنصار هذا المبدأ ويرى أنه أحفظ لكيان اللغة العربية وفيها يقول على لسانها

وسعت كتاب الله لفظا وغاية

               وما ضفت عن أى به وعظات

فكيف أضيق اليوم عن وصف آلة

                   وتنسيق أسماء مخترعات

ولحافظ فى الشعر أيضا ليالى سطيح وهو اشبه بمقامة نقدية اجتماعية كما انه ترجم البؤساء لفيكتور هيجو

هذي مناقبه فى عهد دولته     للشاهدين وللأعقاب أحكها

اشترك في نشرتنا البريدية