على ذكر الفن الرمزى الحديث
كنا نعرف الفن الرمزى فيما مضى على نوعين: إما أن يكون تجسيداً للمعانى يتدلى به الفنان إلى جمهور الأذهان، وإما أن يكون على العكس من ذلك تلويحاً بالبعيد دون القريب يتعالى به الفنان على جمهور الأذهان. ولم يكن هذا لينتزع من الفن الرمزى طبع الفن ولا خواصه، فقد احتفظ بكيانه كاملاً، فهو سابق وهو حر، وهو صادق وهو شاعر
واليوم يراد بنا أن نعرف نوعاً ثالثاً من الفن الرمزى هو - فيما يقول أهله - تابع يمشي وراء العلم، علم النفس، يشرح نظرياته وقواعده وما يثبت عنده من طباع النفس وأحوال حياتها. فهل يجوز لنا أن نقبل هذا النوع الثالث على أنه فن صحيح؟
إننا إذا فعلنا ذلك جرَّأنا كثيراً جداً من الأعمال العقلية على المطالبة بالارتفاع إلى مستوى الفن، وقد يجرنا هذا إلى نوع من البلشفية الروحية التي تسوى ما بين الحق والزيف؛ فتصبح ألفية ابن مالك فناً شعريا لأنها نظم يشرح النحو، كما أصبح الخشب فى هذه الأيام حريراً، وكما خرج السمن فى هذه الأيام من زيت جوز الهند.
وكى ندفع عن رأينا هذا، فإنه يلزمنا أن نتعرف فى الفن بعض النواحى التى لو فقدها لفقد طبيعته فأصبح شيئاً آخر قد يكون حلواً لذيذاً، ولكنه لن يكون بحال من الأحوال فناً صحيحاً. فما هى هذه النواحى التى يتحتم على الفن أن يستوفيها كى يكون فناً صحيحاً؟
أولها من غير شك هذا الحس الصادق الذي تبعثه الحياة نفسها. وهذا الحس هو الذى يملأ نفس الفنان حتى يفعمها، ثم يفيض منها فناً يتلقاه الناس فيشعرون أنه نبع من نفس صاحبه رغم أنفه، لأنه لم يكن يملك من يكتمه بعد أن ازدحم فى نفسه وكثف. والفنان الحق لا يبحث عن الأحاسيس ولا يتكلفها، وإنما هو منطلق فى الحياة كما ينطلق بقية الناس، أو كما تنطلق بقية المخلوقات لا يعتزم أن ينتج فناً، ولا يتهيأ لذلك، ولا يتعلم من الناس طريقة التعبير عن نفسه.
ومع هذا الحس الصادق سبق يطير بالفنان إلى حقائق الكون على جناحين من هذا الحس نفسه. فالفنان الحق لا يمكنه أن ينتظر حتى يقول له المعلم إنه ثبتت لديه حقيقة من الحقائق على وجه من الوجوه، وإنه يأذن له على أساس هذا الثبوت أن يتخذ من هذه الحقيقة مادة لفنه. هو لا يمكنه أن ينتظر حتى يحدث هذا وإنما هو يصل من تلقاء نفسه إلى هذه الحقائق فيعلنها والعلم لا يزال يحبو فى الطريق إليها مثاقلاً متلكئاً؛ وقد يصيب الفنان هذه الحقائق، وقد يخطئها، ولكنه على أى حال يصل إلى شيء ما، - بعيد عنها أو قريب منها - على أنه هو نفسه لا يعنيه من هذا كله إلا أن ينطلق، وأن ينطلق فقط.
ومع هذا الحس، ومع هذا السبق به، فإنه لابد للفنان أن يدفعه إلى إنتاجه الفنى دافع نفسانى من العواطف التى ينفثها فى فنه
رضى أو سخطاً أو غير ذلك، وإلا كان الفن بارداً برودة الموت، لأنه خلا من العاطفة وهى روحه وباعثة الحياة فيه
ومع هذا وذاك فلا بد أن يكون الفن حراً لا يرضى لنفسه أن خضع فى الأغلال والقيود، ولا يقبل أن يتحكم فيه شيء، وإن رضخ له كل ما ينتجه العقل البشرى من علم وصناعة.
هذه (أوليات) لا يمكن أن يكون الفن فناً بدونها. فهل تتوفر هذه (الأوليات) فى هذا النوع الثالث من الفن الرمزى الذى يطالعنا به هذا العصر الحديث؟
أما الحس الصادق فهارب من أهل هذا الفن، وليس هو وحده الذى هرب منهم وفر، وإنما تسلل من نفوسهم معه كل حس فلم يعودوا يحسون إحساساً صادقاً ولا إحساساً كاذباً. وليس هذا لأن الله خلقهم هكذا (مبرشمين) بل لأنهم هم أنفسهم أرادوا أن يكونوا هكذا. فلم يقبلوا أن يكون فى الناس من يزيد عليهم علماً، ولا من يزيد عليهم اطلاعاً، ولا من يزيد عليهم إلماماً بما يكتب وبما فى الكتب، ولا من يزيد عليهم إحاطة بما يحدث فى هذه الدنيا من اختراعات واكتشافات ونظريات ومعلومات، فأدمنوا القراءة، وأدمنوا التعلم، وأدمنوا الاطلاع، وهذا كله يشغل العقل ويجهده، ويأخذه بالمران على سلوك نهج الناس في التفكير. والذي لا شك فيه هو أن هذا العصر الحديث قد اختلط لنفسه نهجاً خاصاً في التفكير ربما تكون الإنسانية قد اصطنعته فى يوم ما، ولكنها على أى حال لم تقطع فيه شوطاً بعيداً كهذا الذى قطعته فيه هذه الأيام، ذلك هو طريق المادة، فلإنسانية اليوم تحشد مواكبها جميعاً فى هذه الطريق، والقوى القادر هو من تقدم إلى الطليعة يتلقط الثمر الذي يبعثره الشيطان أمام هذا القطيع البشري، والضعيف الهزيل هو من تأخر إلى آخر الموكب يتلقط القشور والنوى
والفنان الذي يصطنع هذا اللون من التفكير يقوى واحدة من ناحيتيه الإنسانيتين على حساب الأخرى إذ ينصر عقله على إحساسه ، وهو لا يقوى هذه الناحية في طريقها الفطري الذي ترضاه الطبيعة والذى تطالب به برهانا على جدارة الإنسانية بنعمة العقل الذي لا يؤذى النفس ولا يؤذى الغير ، ولكنه يقويها وهى جامحة
فى الطريق خاطئ كله رذيلة وكله شر. ومهما ادعى الفنان المشغوف بالعلم اللاهث من الجرى وراءه أن فى استطاعته الاعتصام بنفسه عن نزوات العقل والعلم والحضارة الحديثة، فإنه إما مخادع فى هذه الدعوى وإما مخدوع، لأن طابع العقل والعلم والحضارة فى هذا العصر هو طابع المادة، فالعقل لا يقر من الحقائق إلا ما ثبت ثبوتاً ماديا، وأول ما ينكره إذن هو الحس والروح. والعلم لم يعد الناس يطلبونه ليجدوا فيه المتعة الروحية أو ليصلوا عن سبيله إلى ما هو أكبر وأعز وأنفس من هذه الحياة. . . وأما الحضارة فها هي ذي: عمارات، وطيارات، وبوارج، وغازات سامة! وكفى هذا القرن العشرين سبة أنه عند ما قال له فرويد: (إن الإنسانية تحركها فى حياتها قوة الغريزة الجنسية) اطمأن إلى هذا اطمئناناً ثبت فى النفوس وتأصل وتفرع وتسلقت منه أغصان سامة هاصرة التفت حول كل شيء حتى أعناق الفنون تريد أن تدقها لتتفرد البهيمية فى نفوس الناس على أساس من العلم وليجئ يوم تنضم فيه مستشفيات المجاذيب وحدها على الذين يؤمنون بالحس والروح، وليجئ بعده يوم تبرأ فيه الإنسانية من الحس والروح ويكون أمرها إلى الغريزة الجنسية أولاً وأخيراً
وياله من يوم. . .! يوم يقول فيه الناس: عاش على هذه الأرض فيما سبق مجنون كان يدعى غاندى وقد كان تلميذاً لمجانين من أساتذته السابقين!
فهل يرضى الفن عن هذا وهو المسكة من روح الله فى نفوس الفنانين. . .؟
لا! إنهم سيثورون على هذا العقل وعلى هذه الحضارة، وسترى الإنسانية عن قريب يوماً يكون الهداة فيه كتاباً، ورسامين، وموسيقيين، وممثلين، وشعراء، ومغنين وسيصرخ هؤلاء فى وجوه الذين يدحرجون الإنسانية إلى الهاوية ليبيعوا لها الحديد والنار للقتال، وليبيعوا لها الخبز والماء لإمساك الرمق من أجل القتال وحده. وستكون أهون صرخاتهم كتلك التى صاح بها شارلى شابلن فى وجه (العصر الحديث) بقصته الأخيرة. . .
ولعل العالم لما ينس قصة (كل شىء هادئ فى الميدان الغربى)
وغيرها من قصص السينما والمطبعة التى كشفت الستر عن مآسى الحرب وما بعثها من جنون العقل، وما ألهبها من هوس العلم، وما غذائها من اختبال الحضارة وجشع المادة. كانت هذه القصة كما كانت غيرها من القصص الداعية إلى الروح والسلام فناً، وكانت حية، وكانت حارة. وقد خلقتها جميعاً فى نفس منشئها عاطفة واحدة هي الاشمئزاز من العقل والعلم والحضارة الحديثة، لأن الفنان الحق لا يملك أن يقف من العقل والعلم والحضارة الحديثة إلا موقف المشمئز الكاره لا موقف المحب التابع، أو العبد الخاضع، ما دام يرى هذا اللون الأحمر الذى تصطبغ به الحضارة القائمة على أساسين من العقل والعلم والخالية من الحس والروح
أما القول بأن علم النفس لا يدعو إلى الحرب فلا تصح كراهيته، وإنه من الجائز للفنان أن يتبع وأن يجنى الحق من فضله فهو قول يلجأ إليه المكتوف المعصوب العينين، ولا يقبل أن يقول به فنان منطلق لا يشعر بحاجته إلى العلم كى يرى ويسمع لأنه بعينيه يرى وبأذنه يسمع. . . وإلا فعليه أن يطمس عينيه، وأن يسد أذنيه وأن يقنع بقراءة الكتب التي تؤله الغريزة الجنسية، وأن يجرى وراءها.
سيقولون إن أسمى الفنانين هو الذي ينتج فناً إنسانياً عاماً تذوقه النفوس جميعاً. وسيقولون إن القواعد التي يقررها علم النفس قواعد عامة تنطبق على النفوس جميعاً انطباقاً تاماً سليماً، وهذا وحده يكفي - عندهم - أن يغري الفنانين بالإقبال عليها والتعلق بها. وردنا على هذا أن هذه الطريقة التى يصطنعونها طريقة عقلية تجارية ليس فيها من خير إلا أنها مريحة جداً للفنان الذي يسلكها إذ يستغنى فيها بكتاب يشتريه بدراهم معدودة فيقرأه فيتخذ منه مادة الفن. . . عن سنوات أو أشهر أو أيام ينفقها من عمره فى هذه الحياة تأكل من أعصابه وتشرب من دمه لتجود عليه بعد ذلك بمثل ما جادت به على من أخرجوا البؤساء، وآلام فرتر، ومتروبوليس، وفاوست، وسائر هذه الجمرات الخالدة التى التهبت جهنمات فى نفوس أصحابها لا كتلاً من الثلج المصنوع من الماء والأحماض والأملاح
لم يكن العلم يوماً من الأيام هادياً للفن، وإنما استطاع فى كثير من الأحوال أن يهدى الصناعة والتجارة
فإذا كان أتباع العلم هؤلاء فنانين حقاً فلماذا لا ينشرون إحساسهم على العالم فيحيطون به ثم يطالعوننا بما ينطبع فى حسهم وهم يرون العالم على ما هو عليه، وهم يعرفون ما هو عليه؟
لم يكن العلم يوماً من الأيام هادياً للفن، وإنما كان الفن على مر الزمان سباقاً
وغنى أريد أن أتصور واحداً من هؤلاء الذين يتبعون العلم في فنهم وهو يريد أن يضع قصة مثلاً، كيف يضعها؟ إنه يقرأ فى كتاب من كتب علم النفس أن الذاكرة تغيب عن الإنسان أحيانً فيبتلعها العقل الباطن، ويعيش الإنسان مدة طويلة أو قصيرة وهو بغير ذاكرة فتصدر منه أقوال وأفعال لا تستقيم مع حياته الظاهرة. وقد يحدث بعد ذلك حادث يعيده إلى ذاكرته أو يعيد إليه ذاكرته، أو قد لا يحدث له هذا الحادث عفواً، فهو إذن محتاج إلى التنويم المغناطيسى يرد إليه ذاكرته
يقرأ الكاتب المثقف هذا فيقول فى نفسه: والله إن هذا الموضوع يصلح قصة؛ فلأركبها إذن من رجل وزوجته فتغيب عنه ذاكرته فتشقى هي لهذا، وأخيراً يسعدان بشفأئه، ثم يعود فيقول لنفسه: وما هى الحوادث التى سأوقع بهذا الرجل فيها، على أن تكون حوادث مسلية لذيذة، وعلى أن تكون فى الوقت نفسه غامضة حتى يثبت للقراء أننى من أدباء الرمز الذين يستغلق فهمهم على عامة الناس. . . آه. . . فلتكن هذه الحوادث كيت وكيت وكيت. . . وعلى هذا النمط الكيميائى الصناعي يسير صاحب الفن العلمى فى فنه فيؤلف قصته أو يركبها فيقرأها القارئ وينفق فيها وقته وهو لا يشعر مطلقاً بأن الفنان الذى (عمل) هذه القصة يختلف فى كثير أو قليل عن العالم الذى كتب التقرير العلمى صاحب الفضل الأول فى تأليفها.
فهل من طبع الفن أن يسبه طبع العلم؟ لا. . . ليس الفن هكذا ولا إنشاء القصة هكذا. . .
هوجو ابتأس فأخرج البؤساء. هوجو شقى فخلد الشقاء،
وعرض منه صوراً لا يقول أحد إنه رآها جميعاً، أو أن كتاباً دله إليها، ولكنه هو أحسها لأن روحه طافت بها. روحه كانت تغادره وتحل فى البؤساء على اختلاف ألوان بؤسهم فتتذوق للبؤس طعوماً مختلفة ليس أقساها بؤس (جان فلجان) اللص الذي سرق رغيف الخبز، وإنما قد يكون أقساها بؤس (جافير) رجل البوليس الذي كان يتنطع في مخاصمة (جان فلجان) وتتبعه وإحراجه لا لأنه يمقته ولكن لأنه كان يخشى أن يقصر في واجبه، فيكون في نظر القانون مجرماً وهو ما لم يكن يحب أن يتردى إليه بعد أن أحسن المجتمع تنشئته وقد كان لقيطاً رباه المجتمع ليكون حامياً من حماته
ما أعجب هذه النفس التى عرضها هوجو فى بؤسائه. نفس أصابتها العقد - على حد تعبير العلماء - فأصبحت تتحجر دون الرحمة لأنها كانت تخشى ألا يرحمها أحد، كما لم يرحمها أب ولا أم وهذه نفس قد يحللها فرويد، وقد يحللها سبيرمان أو غيرهما من علماء النفس ولكن تحليلهما وتحليل غيرهما ليسجد أمام هذا الجلال الذى أسبله عليها هوجو الفنان الذى لم يقرأ علم النفس ولا نظريات علم النفس، والذى كان يعيش بروحه فيحس ويشعر، والذي لو لم يكن أديباً بطبعه لما أنشأها هذا الإنشاء الرائع، والذى لو كان موسيقياً لأرسلها لحنا باكياً
الفنون يا أصحاب الفنون يمكن أن يترجم بعضها إلى بعض، لأنها لا تكون فنوناً إلا إذا كانت من وحى العواطف، والعواطف لا تستعصى على أى فن. فما هى العواطف التى تتحرك فى نفوس الذين يجرون وراء العلم العاقل والتى تصلح للترجمة إلى بقية الفنون؟ . لا شىء إلا عواطف مصنوعة مركبة. أما العاطفة الصادقة في نفوسهم فهي لا تتحرك إلا نحو غرض من أغراض الطبع والنشر والإذاعة
لا. ليس هذا فنَّا وأخيراً. ما الذي يقبل من الفنان أن يكون عليه؟. . .
لا شىء أكثر من أن يعيش وهو لا يدبر فى نفسه أنه سيخرج فنَّا. . . فليترك نفسه للحياة، وليسع إلى الصدق ما أمكنه السعى. وليبحث عن الجمال ما أمكنه البحث. ليقرأ، ولكن عليه أن يقرأ فى صفحات الوجوه قبل أن يقرأ فى صفحات الكتب. عليه أن يلتفت إلى الناس وإلى الحيوان وإلى النبات وإلى الجماد. فليعط كل نفسه لكل ما يحيط به من مظاهر الوجود. . . فليعاشر هذه الحياة، وليبادلها الحس، وليغتبط بكل ما تؤاتيه به سعادة أو محنة، وبكل ما يراه الناس من خير أو شر، وبكل ما يطالعه في الطبيعة من أحسن الصور وأقبحها فهذا وحده هو سبيل الفن، وليس من الضرورى بعد ذلك أن يكون الفن كتابة أو ألحاناً أو صوراً. . . وإنما الفن هو حياة الهدى. . . ى وكم فى جماهير الناس من ثقاة فنانين، وكم فى الفنانين من مرتزقة أو - على الأقل - حائدين!
