لم يكن من شعراء الخلفاء والوزراء ، ولا كان من شعراء الخمر ووصف الطبيعة ، إنما كان من شعراء الحب ، ولم يكن من شعراء الحب الإنساني ، وإنما كان من شعراء الحب الإلهي وما يتصل به من مواجد وأحوال ومقامات عرف بها الصوفية ، وقد حظيت به مصر في أواخر عهدها بالدولة الفاطمية .
وترك ابن الكيزاني ديواناً طريفاً . ويحدثنا ابن سعيد الذي زار مصر في القرن السابع للهجرة أنه رآه يباع بكثرة في سوق الفسطاط وسوق القاهرة ، وليس بين أيدينا الآن هذا الديوان ، ولكن بين أيدينا طائفة غير قليلة من شعر هذا الشاعر الصوفي احتفظت بها الجريدة وقدم لها العماد الأصفهاني بقوله :
" فقيه واعظ مذكر حسن العبارة ، مليح الإشارة ، لكلامه رقة وطلاوة ، وأنظمه عذوبة وحلاوة ، مصري الدار ، عالم بالأصول والفروع ، عالم بالمعقول والمشروع ، مشهود له بألسنة القبول ، مشهور بالتحقيق في علم الأصول, وكان ذا رواية ودراية بعلم الحديث ، ومعرفة بالقديم مكون الحديث ، إلا أنه ابتدع مقالة ضل بها اعتقاده ، وزل في مزالقها سداده ، وادعى أن أفعال العباد قديمة ، والطائفة الكيزانية بمصر على هذه البدعة إلى اليوم مقيمة . أعاذنا الله من ضلة الحلم وزلة العلم ، وعلة الفهم ، واعتقد أن التنزيه في التشبيه . عصم الله من ذلك كل أديب أريب ونبيل نبيه . وله ديوان شعر يتهافت الناس على تحصيله وتعظيمه وتبجيله لما أودع
فيه من المعنى الدقيق واللفظ الرشيق ، والوزن الموافق . والوعظ اللائق ، والتذكر الرائع الرائق ، والقافية القاقية آثار الحكم ، والكلمة الكاشفة أسرار الكرم . توفي يمصر سنة ستين وخمسمائة ، وهو شيخ ذو قبول ، وكلام معسول ، وشعر خال من التصنع مغسول ، ودفن عند قبر إمامنا الشافعي رضي الله عنه . والكيزانية بمصر فرقة منسوبة إليه ، ويدعون قدم الأفعال ، وهم أشباه الكرامية بخراسان " .
نحن إذا بإزاء شخصية مهمة في تاريخ الحياة الروحية بمصر ، وهي شخصية كانت مثقفة ثقافة ممتازة كما يصورها لنا العماد ، فقد كان ابن الكيزاني عالما بالمعقول والمشروع والأصول والفروع ، فهو يعلم علم الفقه والشريعة ، وهو يعلم علم العقل والفلسفة ، وكان إلى ذلك صاحب مقالة خاصة تشبه مقالة الكرامية في خراسان ، ويقول أبو الفداء : إن الكرامية هم أصحاب المقالة في التشبيه ، ويقول المقدسي الذي زار مصر في أواخر القرن الرابع للهجرة : إنه كان لحم محلة بالفسطاط ، ومن الممكن أن تكون هذه المحلة استمرت حتى عصر ابن الكيزاني .
وإذا فابن الكيزاني كان كراميا صوفيا ، أو كان صوفيا على مذهب الكرامية ، وهم قوم أساس مذهبهم القول بالتشبيه وأن الله يشبه عباده ، وهو شبه بقيده ابن الكيزاني بالتنزيه ، فتشبيه الذات العلية يقتضي تنزيهها وهو تنزيه لا تقف عليه إلا الصفوة ، وتبدو الفكرة معقدة ، ولكنها قريبة ، فأنت إذ تشاهد صورة جميلة تري فيها خالقك الذي أطلعك على جماله فيها ، وفي الوقت نفسه ينبغي أن تؤمن أثناء مشاهدتك لهذه الصورة بتنزيه الذات العلية عن أن تكون هي هذه الصورة الجميلة ، فشبه ما استطعت ولكن ينبغي أن تنزه ما استطعت .
ومن هنا يقول ابن الكيزاني ومن لف لفه : التنزيه في التشبيه ، وهم يريدون بذلك أن لا يغلوا كما غلا المجسمة في تشبيه الله ، فهم ينزهونه حين يشبهونه ، ويجعلونه فوقي ما يشبهه ، وهم كذلك يريدون أن لا يغلوا كما علا المعتزلة في تجريد الله عن كل تجسيم وتشبيه ، فالله جل وعز يُرى ويشاهد في كل شئ ، وفي الوقت نفسه هو فوق كل شئ .
وليس كل ما قامت عليه النجلة الكيزانية فكرة التنزيه في التشبيه ، فقد قامت على فكرة اخرى أنكرها العماد أيضا ، وهي فكرة القدم في أفعال العباد لا في أفعال الله فحسب ، ولعل العماد أنكرها لأنه لم يفهم ما يراد منها ، أو لعله فهمها وانكرها ، لأن ابن الكيزاني مخرج بها علي المعروف من أن القديم واحد وهو الله ، فلا يصح أن يضاف القدم إلى شيء سواء . غير أن ابن الكيزاني حين يذهب هذا المذهب من قدم أفعال العباد إنما يريد مرتبتها في العلم الإلهي ، والعلم الإلهي قديم ، فهي على هذا النحو قديمة
وأنت ترى من ذلك دقة تفكير ابن الكيزاني وصلته المحققة بالتفكير العقلي ، وكان المصريون وغير المصريين يعجبون بآرائه ؛ فالقفطي يقول : " له بمصر وسواحل الشام فرق تنتمي إليه في المعتقد وأكثرهم بحوف مصر " . ومع ذلك لم يعدم أعداء يقفون في وجهه أثناء حياته وبعد موته ، فقد نبش قبره نجم الدين الخبوشاني في عهد صلاح الدين وأخرج منه عظامه وقال : لا تتفق مجاورة زنديق إلى صديق ، ويقصد بالصديق الشافعي الذي دفن إلى جواره . وحمل صاحب مرآة الزمان على الخبوشاني ، وقال إنه كان كثير الفتن يكفر الناس بالحق وبالباطل ، ثم قال عنه : إنه كان يصوم ويفطر على خبز الشعير ، فلما مات وجد له ألوف الدنانير ، وعقب على ذلك بقوله عن ابن الكيزاني : إنه كان زاهدا عابدا قنوعا من الدنيا باليسير . ودافع ابن تغري بردي عنه أيضا فقال : " لا يلتفت لقول الخبوشاني فيه لأنهما أهل عصر واحد ، وتهور الخبوشاني معروف ، ويقول عنه ابن خلكان " كان زاهدا ورعا " ويذكر أنه زار قبره مرارا وان له ديوانا من الشعر لم يقف عليه ، ومعنى ذلك أن ديوانه الذي رآه صاحب المغرب يباع بكثرة في النصف الأول من القرن السابع ، لم يستطع ابن خلكان العثور
عليه في أواخر القرن نفسه ، ومع ذلك فالكيزانية كانت لا تزال موجودة حتى عهد ابن خلكان ، فهو يصرح بأن في مصر طائفا ينسبون إليه ويعتقدون مقالته ، وكان شعره لا يزال يروى ، وروى له ابن خلكان هذا البيت الطريف :
وإذا لاق بالمحب غرام فكذا الوصل بالحبيب يليق وإذا كانت يد الزمن قد عبثت بالديوان ، فلم يصل إلينا ، فقد احتفظت الخريدة بشطر كبير منه يبلغ نحو ثلاثمائة بيت ، كلها شعر صوفي ، وهو شعر عذب سهل يسيل عن قلب حار يتدفق بالعواطف الصوفية عواطف المحبة العميقة والرغبة الحقيقية في الاتصال بالذات الإلهية .
فكل ما حوله يتم عن محبوبه وهو لاهث لا يستطيع أن يشبع روحه من رؤيته إلا أن يري الأشياء والأشباح والأطياف ، فيقول :
إن حجبوا شخصك عن ناظري
ما حجبوا ذكرك عن خاطري
قد زارني طيفك في مضجي
يا حبذا طيفك من زائر
أو يقول :
إني لأعجب من صدو دك وانعطافك في خيالك
باليت ذاك مكان ذا عندي وذا بمكان ذلك
لأكون مشتملا علي وجه الحقيقة من وصالك
فهو يريد وجه الحقيقة الكلية وهو محجوب عنه دائما . ومن هنا يتحول ابن الكيزاني إلى ما يشبه بوقا كبيرا ينادي حبيبه في السهل والجبل ، وفي الندي والخلوة ، وفي الليل والنهار ، وفي كل مكان وكل زمان ، فلا يجبه إلا صدى ندائه . ومع ذلك فالأخيلة والأطياف والأشياء من حوله تتراءي له ، ولا يدري أى اتجاه يتجه ولا أي سيل يأخذ :
أي طريق أسلك وأي قلب أملك
وأي سير ابتغي وهو بكم مستهللت
أدارني حبكم كما يدور الفلك
أأنثني وكل عضو و فيه منكم شرك
أخلصت فيكم باطنا فيه هوى لا يدرك
جل فما في صفوه شوب ولا مشترك
ولإؤكم لي مذهب وذكركم لي نسك
ومهجتي مملوكة يا حبذا الملك
إن كل عرق فيه ينبض بهذا الحب ، فهو ليس حب القلب وحده ، بل هو حب القلب والجسم وكل قطرة دم فيه وكل نبضة عرق من عروقه . ليس حبا ظاهرا كحب الغزلين لصواحبهم ، وإنما هو حب باطن فيه هوى لا يمكن أن يدرك ولا يمكن أن يوصف .
على أن اللغة عاجزة عن أن تعبر عنه ، ومن هنا أخذ أصحاب هذا الحب الباطن عند ابن الكيزاني وغيره من المتصوفة يعبرون عنه بمصطلحات أصحاب الحب الظاهر .
فهم يشكون من الصد والدلال والهجر ، وهم يندبون الديار والرسوم والأطلال ، وهم يذكرون الوشاة والعزال وهم يخلعون عن أنفسهم كل تكلف وكل حجاب ، وقد يرمزون ليلى ورامة من مثل قول ابن الكيزاني :
تلذ لي في هوى ليلى معاتبتي
لأن في ذكرها برداً علي كبدي
وأشتهى سقمي أن لا يفارقني
لأنها أودعته باطن الجسد
وليس في النوم لي ما عشت من أرب
لأنها أوقفت جفني على السهد
ولو تمادت على الهجران راضية
بالهجر لم أشك ما ألقى إلى أحد
فإن أمت في هواها فهي مالكتي
وما لعبد على مولاه من قود
اللوم أشبه بي منها وإن ظلمت
أنا الذي سقت حتفي في الهوي بيدي
وأنت لا تكاد تجد فرقا بين هذا الغزل والغزل المعروف باسم الغزل العذري ، فقد رفع المتصوفة في غزلهم بالذات الإلهية كل الحواجز بينهم وبين هذا الغزل ، وكأنهم اتخذوه رمزاً عما مجري في نفوسهم من تشوقي وعشق. واستمع إلى قول ابن الكيزاني :
أتزعم ليلى أنني لا أحبها
وأي لما ألقاه غير حمول
فلا ووقوفي بين ألوية الهوى
وعصيان قلبي للهوى وعذولي
لو انتظمتي أسهم الهجر كلها
لكنت على الأيام غير ملول
ولست أبالي إذ تعلقت حبها
أفاضت دموعي أم أضر نحولي
وما هبتي بالنوم إلا تعلل
هي الطيف منها أن يكون رسولي
فلا ريب أن هذه حسية واضحة ، وهي لا تفهم إلا على أنها رمز وإيماء وإشارة إلى معان صوفية . وتبلغ هذه الحسية بابن الكيزاني أن يقول :
ثم هنيئا فلست أعرف غمضا قد جعلت السهاد بعدك فرضاً
وتجد دائما عند المتصوفة هذه المعاني الحسية ، وهي في جملتها ترد إلى ما نقوله من أنها رموز اخذها المتصوفة للكشف عن معاني عشقهم لمن يفهمها منهم . ولتستمر هذه المعاني غامضة مستبهمة عند غيرهم وكأنهم يريدون ألا تشيع في بيئة سوي بيئتهم .
ومعنى ذلك أن الغزل الصوفي عند ابن الكيزاني وأمثاله لا يصح أن يفهم على ظاهره ، فله باطن ، وله دلالات خفية . ومن يقرؤه مكتفيا بظاهره يجد فيه جمالاً لا ينفد ، وسر ذلك أنه يعبر عن حب لا نهائي ، حب غير محدود بحس وما يشبه الحس ، حب كله مواجد وكله تلهف ولوعة ، وكله تشوق إلى طلعة الحبيبب التي تمتلئ الدنيا بأشباهها ، ولا يستطيع أن يراها فيكتفي بالذكر ومرور الاسم في خاطره وعلى شفتيه :
والله لولا أن ذكرك مؤنسي ما كان عيشي بالحياة يطيب
ولئن بكت عيني عليك صبابة فلكل جارحة عليك نحيب
اتظن أن البعد حل مودتي إن بان شخصك فالخيال قريب
كيف السلو وقد تمكن في الحشا
وجد على ما في الفؤاد رقيب
ودائما نلتفي بابن الكيزاني والعشق يعصف به ، بل لكأنه فيض يندفع من قلبه ، فيتجلى على لسانه في هذه الأغاني البديعة التي تعبر عن عشق المتصوفة وكل ما يتصل بهذا العشق من أحوال ومقامات من مثل قوله :
كيف شئت دلالاً لا صبر عنك لالا
فلست أبغي بحالي سواك ما عشت حالاً
وقوله :
ما أرخص الدمع على ناظري في الحب إلا وصلك الغالي
يسرني فيك عذابي وإن تبقى رخياً ناعم البال
قد أطنب العذال في قصتي وأكثروا في القيل والقال
وما قلبهم قلبي ولا وجدهم وجدي ولا حالهم حالي
إن الحال مختلفة ، فعذاله يظنون أن حبه من هذا النوع العذري العادي المعروف عند الشعراء ، وهو إنما يحب حباً سماوياً علوياً، حباً لا يستطيعون أن يفهموه ، بل إن ابن الكيزاني نفسه ليحار في كتبه وفي صفته :
قد تمنيت أن تكون وصولا فنفضل به على وكنه
كل حب له إذا نظر النا ظر كنه وما لحبي كنه
هو حب من طراز آخر ، حب كل ذرة في صاحبها لمبدعها ، حب الإنسان لربه ، وهو حب لا يلامس قلب الصوفي حتي يتدلع شرره في كل جسمه وكل جوارحه فإذا هو لهبب ، وإذا هو نار ونور ، بل رغبة في الاتحاد بالحبيب والفناء فيه :
ليتني كنت مخلي بحبيبي أتملى
منعوه من وصالي فاثني عزمي ذلا
كنت بالصير ضنيناً فتولى حين ولى
ودائما على هذا النحو يريد الوصل ، ودائما ينقطع الوصل ، ومع ذلك فهو مشدود إلى حبيبه بأسباب متصلة تجذبه إليه وتحول بينه وبين الخلاص . وما الخلاص ؟ إن الخلاص هو الحب نفسه وما يعانيه فيه من آلام وأوصاب ومن سهر ودموع ومن حرمان وشقاء : تعهد عيني أن لا تذوق هجوعاً
وجفوني التي لا تكف دموعاً
ولساني أن لا يزال مقراً
أني لست للعهود مضيعا
وفؤادي أن لا يلم به الصـ
بر وسقمي أن لا يروم نزوعا
لقد أودع الغرام بقلبي
زفرات أضحى بها مصدوعا
فهو لا ينكث العهد ، ولا ينقض العقد ، ولا يطلب الصبر ولا السلوان ، فقد وهب نومه ودموعه وزفراته وتألماته لهذا الحب الذي يخوض غمرانه راضيا مرضيا :
إنما للدة العيش في الهوى لا أبالي بنعيم أو شقا
أنا لا أسلو من الحب ولا أبتغي من أسره أن أطلقا
أنا لا أسللو عن الحب ولا
وهل لمثله أن يسلو أو يطلب الخلاص ، وكل ما يريد قد تحقق بحبه ، فقد وجد نفسه ووجد ربه ولكن أى وجود ؟ إنه لا يجد إلا لوعات وحسرات :
ليس حظي من الحبائب إلا لوعة أو تأسف أو غرام
حكموا البين والهوى في لما علموا أنني بهم مستهام
أنا راض فليصنعوا ما أرادوا كل سير عنهم على حرام
هم رجائي وهم نهاية سؤلي وهم بره ، مهجتي والسلام
وهو راض بكل ما يقدمه إليه حبيبه من أحوال بعد وفراق وما يتبع هذه الأحوال من قلق واضطراب ولوعات وتأسفات ووحشة بعد إيناس وهجر بعد وصال ، فحياته كلها آلام وعذاب ،
ما ينقضي يوم ولا ليلة إلا بأحوال تمض الحشا
وهي أحوال برت جسمه بالحب الذي يجد حسره في الكبد والذي لم يبق منه إلا على رمق يمسكه ويكاد يتلفه .
(للكلام صلة )
