-٢-
الله لتلك الأيام الخلوة النضرة ، أيام الحياة الأولى في القرية ، إذ كنا نعيش بأحلام الطفولة البريئة ، وأماني الصبا الغرير ، فليست الدنيا أمامنا إلا ميدان لهو ومرح نستبق إليه بدافع الغريزة التي تحس ولا تعرف ، وما كان يتصبانا ويشوقنا من ذلك مثل المداح في موكبه ، وهو يتنقل في حارات القرية من باب إلى باب مترنما بأغانيه على نقرات الدف في وجد وهيام ، فما نزال تتابعه بأبصارنا وأسماعنا حتى نهاية الشوط ، ثم ننثني عنه ونحن نردد ما وعت الذاكرة الغضة من قصصه وأغانيه .
وللمداحين في القرى مواسم ينتظرونها ، ويحتشدون لها ، وهي مواسم الحصاد للزرع ، إذ تكون الدور عامرة وللنفوس قريرة راضية ، وأبناء القرى أسمح ما يكونون بالرفد لكل وافد ، وبالعطاء لكل قاصد ، حينئذ نرى مواكبهم في القري متواصلة ، فلا تشرق الشمس على قرية إلا وصوت المداح يجلجل في جنباتها ، أما فيما دون هذه الواسم فقليلاً ما تقع العين على واحد منهم ، وهذا في العادة يكون قليل البضاعة ، رديء الصناعة ، رقيق الحال . لا ينظر إليه أهل الحرفة نظرة اعتبار ، إذ يكون في مظهر . أقرب إلى المتسول منه إلى المداح
والمداحون لا يعتبرون أنفسهم شحاذين ، يطلبون العطاء بالاستجداء والتسول ، ولكنهم يقدرون شأنهم أكرم من هذا وأعظم ، ويعتبرون أنفسهم أصحاب صناعة شريفة ، وأهل مهمة دينية يزجون بها إلى الناس مواقع العبرة والموعظة والإفادة بقصص الأنبياء ، ومناقب الأولياء وكرامات الصالحين ؛ ولهذا نراهم أرقى هذه الطائفة مظهرا وأنظف هيئة ، فهم يبدون عادة في أثواب لاتفة وقماش مليح ، وقليل منهم من لا تكون له دابة ينتقل عليها من قرية إلي قرية ، ويحملها ما يجمع من عطايا المانحين ، وإنما أسمى هؤلاء بالمداحين لأن يضاعتهم كلها في مديح الأنبياء والأولياء
والتحدث بمآثرهم ومناقبهم ، ولأنهم في العادة يفتتحون قصصهم ويختمونها بمدح طه الرسول
وللمداحين في أدائهم طريقة لا يشركهم فيها غيرهم . وليس لها شبيه في أي لون من ألوان الفنون الشعبية وغير الشعبية ، وهي أقرب ما تكون إلى طريقة الإنشاد والترتيل ، يعتمدون فيها على براعة التوقيع وحسن التقسيم أكثر مما يعتمدون على نداوة الصوت وطرب التنغم ، ولهم في ضبط الإيقاع على نقرات الدف براعة لا أدري عمن أخذوها ولا ممن وصلت إليهم في القديم . والدف هو الأداة الوحيدة التي يعتمدون عليها في ذلك ، وهو رق من جلد مشدود على إطار من خشب ، وهو شبيه بالرق الذي يستعمل لضبط النغمات في تخوت الموسيقى والغناء . ولكنه يخالفه باتساع إطاره ، وليس في جوانبه فتحات بها جلاجل أو صاجات ، ومن ثم كان أصم الصوت وليس بذي أثر كبير في الطرب ، وإنما الغاية منه ضبط التوقيع وتمثيل المعاني في الأداء ، وقد كان العرب يستعملون الدف في إذاعة المحامد والمآثر ، وشاع استعماله بين النادبات في البكاء على الموتى وتحديد محامدهم ؛ وقد اتخذته بعض الطوائف الصوفية اضبط حركات السير في مواكبها ، وحركات الذكر في محافلها ، وهو كذلك عندهم إلى اليوم .
والحدير بالبحث والنظر ذلك القصص الذي يتغنى به أولئك المداحون ؛ فمن أين كانت لهم مادة ذلك القصص وكيف تم تنسيقه في ذلك النظم الغنائي ؟ والذي أراه أن المداحين قد ورثوا في ذلك تراث الدين شاع أمرهم في المجتمع الإسلامي منذ القرن الأول للهجرة . فكانوا يقصدون إلى المساجد والمحافل لوعظ العامة بالقصص الديني وما يتلقفونه في هذا السبيل من الآثار المصنوعة . والأحاديث الموضوعة ، والإسرائيليات الشائعة ، وكل ما يرون فيه قبولا ورواجا عند الجمهور المتلهف إلى
موارد العزاء والتأسي ، ثم تجاوزوا دائرة المساجد والمحافل فخرجوا إلي الطرقات ، وآثروا الجلوس في المنعطفات ، وقد بلغ من شانهم في بعض العهود أن كانوا يلهون العامة عن أعمالهم ، ويثيرون العصبيات فيما بينهم ، فكان هذا مما اضطر الحكام إلى مطاردتهم ، وتحريم القصص عليهم . حتى إذا كسدت بضاعتهم في المدن انحدروا إلى القرى بزجون ما عندهم إلى أهلها ، ولكن بأسلوب ملائم ، وبطريقة موافقة ، ومن ثم كانت طائفة أولئك المداحين .
فالمادة في هذا القصص الذي يتغنى به أولئك المداحون هي من فيض البيئة الإسلامية في دمشق وبغداد والقاهرة وغيرها من العواصم الزاهرة يوم كانت تفيض على العالم ألوان الثقافات المختلفة ، وطرائف القصص المتنوعة ، ولكن الذي لا شك فيه هو أن جانبا من هذا القصص قد صنع في مصر ، وهو الجانب الخاص بمناقب الأولياء وكراماتهم وهذا لا نرمي فيه إلا الحديث عن الأقطاب المصريين أمثال السيد البدوي وإبراهيم الدسوقي . ثم لا شك أن هناك أثرا آخر من آثار البيئة المصرية في ذلك القصص ، وهو نظمه زجلا باللغة المصرية الدارجة ، ولكن في أى عهد بالتحديد تم هذا النظم ، وهل قام بذلك شخص معين . أو كانت هناك طائفة تحترف نظم هذا القصص وما إليه ؟ هذا ما يعز على الباحث أن يقف فيه على يقين
والحق أن الطريقة في نظم هذا القصص تعتبر طريقة فريدة في بابها ، وفنا من فنون الرجل قائماً بذاته . وإنها لتدل على حاسة فنية دقيقة عند أولئك الزجالين الذين آثروا هذه الطريقة وابتدعوها ؛ ذلك لأنهم آثروا البحور التي تنسجم مع الترتيل والتقسيم في الأداء ، وقد يوردون القصة على روى واحد ، ولكنهم في الغالب يؤثرون أن تكون أدوارا ثنائية ، تجمع بينها وحدة القافية في اخر كل دور ، ثم هم يلتزمون ربط كل دور بسابقه ، يرد عجز الأول على صدر الثاني ، عكس ما هو معروف في الشعر عند علماء البديع برد العجز على الصدر ؛ وهذا الصنيع يزيد الأداء طلاوة وحلاوة ، ويثير عند السامع كوامن الانفعال والارتياح ، مثال ذلك قولهم في استهلال قصة " سارة والخليل وهاجر وإسماعيل " .
أمدح التي شع النور من مقامه
القمر والشمس ما أحلى لثامه
كل ما أمدح وأكرر في كلامه
يستريح القلب حمال الأسيه
يستريح القلب اللي كان ضناني
من جواهر فن ينظمها لساني
اسمعوا يادي الفصول في دي المعاني
كان خليل الله وساره بالسوبه
كان خليل الله وساره في صباهم
مبدعين في الحسن والمولى عطاهم
مدة الأيام ما بلغوا مناهم
م الدراري لا صي ولا صبيه
م الدراري لا صي يابن الأكابر
يا خليل الله لأمته أنت صابر
بس طاوعني واتزوج بهاجر
إنها حره شريفه مهتديه
وعلى هذا النسق يتم نظم القصة ، وهو الذي آثره أولئك الزجالون في نظم هذا القصص ، أو الكثير منه . ومن العجيب ان الذين أرخوا للزجل لم يفتهم أن يشيروا إلى هذا القصص الزجلي ، ولا أن يشرحوا هذه الطريقة الفريدة في نظمه ، مع أنها ناحية خليقة بالذكر ، أليست بدليل على أن العامة قد سبقوا الخاصة إلى القصة المنظومة ، وأن الأدب الشعبي قد فاز بنصيبه من هذا ، على حين لا يزال الأدب العالي يتعثر في هذا الطريق .
على أن هذا اللون من الأدب الشعبي قد استوفى غايته ووقف عند حده ، فهو لا يتجدد ولا يتطور ، وهو لا ينمو ولا يزيد ، لأنه كان ابن البيئة التي نشأ بها ، فكل ما يردده المداحون إنما هو من ذات تلك البيئة ، ولاجديد فيه إلا أن هذا القصص المردد المكرور لا تخلق جدته أبدا عند أبناء القرى في ريف مصر . ذلك لأنه يمثل بوقائعه ومراميه كثيراً من المعاني المتصلة بنفوسهم ، والمائلة دائما في حياتهم فمن ذلك قصة " أيوب لما ابتلى " وهي قصة الصبر على ما قدر الله من البلاء والضير ، وقصة أيوب في ابتلائه وصبره يتضمنها سفر من أسفار العهد القديم ، وهي مذكورة أيضا في القرآن الكريم . ويرى بعض الباحثين أن هذه القصة كما وردت في العهد القديم من أقدم القصص الشعري ، إن لم تكن أقدمه ، ولكن المداحين يسردونها على نمط مؤثر
بمواقعة وبمفاجآته ، فهم يذكرون أن أيوب ابتلى بعد العز الكامل ، فصبر على بلواه سبع سنين كاملة ، كل سنة أشق وأقسى من سابقتها . حتى نفر عنه أهله وأحباؤه ، ولم يبق على الوفاء له إلا زوجه ، وهي ابنة عمه أيضا ، وكانت غاية في الحسن والجمال ، ولها شعر طويل يضرب إلي قدميها يتحدث بجماله الناس ، وطالما راودها شياطين الإنس عن حسنها ، فأبت إلا الوفاء لزوجها ، وخرجت معه إلي البراري والقفار حيث اضطر أن يعيش بعيدا عن الناس ، وبلغت الشدة بزوجها وبها الغاية ، حتى أخذت تنفس القوت فعز عليها القوت ، فاضطرت أن تجز شعرها الجميل وتبيعه في السوق مقابل قرصين من الشعير ، ولكنها حين عادت تبحث عن زوجها في مكانه بالقفر لم تجده ، ووجدت بدلا منه رجلا كامل الصحة والرواء ، فسألته عن شيخ مبتلي الجسم لا يقدر على الحركة تركته في ذلك المكان ، وتبدي له الخوف من أن تكون الوحوش قد افترسته ، فيسألها الرجل عن شكل ، فتقول إنه يشهك إلي حد كبير ولكنه مبتلى الجسم ، فيعود ويسألها مرة ثانية ، هل تقبله زوجا لها وتدع ذلك الشيخ المبتلي الذي لا خير فيه . ولكنها تجيبه بأنها لا ترضي بابن عمها المبتلي بديلا ، وأنها لا تجد السعادة إلا إلى جانبه ، وهنا ينهض أيوب إلي معانقتها ، ويكشف لها عن حقيقته ، وبخبرها أن الله أنعم عليه ، إذ وجد نباتا في البرية اسمه الرعراع فاغتسل به فشفي لساعته ، وبدا كما تراه سليم الجسم ، فيضرع الأثنان في شكر الرب علي ما أنعم ، ثم تخبر أيوب كيف اضطرت إلي أن تبيع شعرها الطويل الجميل في مقابل قرصين من الشعير حتى توفر له القوت ، وتخشى أن ينفر منها بعد أن فقدت شعرها الذي كان على رأسها تاج الزينة والجمال ، فيدعو أيوب ربه فيرد عليها شعرها كما كان ، ويعود الزوجان بفضل الصبر الجميل والوفاء النبيل إلى ما كانا فيه من السعادة والاطمئنان ... ومن من أبناء الريف في مصر لا ينشد حديث الصبر والوفاء ، أليس الصبر هو الدواء الوحيد الذي يتداوى به أولئك الفلاحون على مدى السنين من علل الفقر والشقاء والحرمان ، فكل منهم في الحقيقة أيوب في بلواه ، أجل ! ولكنها بلوى عز فيها الوفاء فعزت على الشفاء .
ومن ذلك قصة " سارة والخليل وهاجر وإسماعيل".
وهي كذلك قصة مذكورة في التوراة ، وقد أوردها القرآن الكريم بالتفصيل ، ولكن المداحين يروونها بزيادات وتفصيلات مما يروج عند العامة ويصادف لديهم القبول ؛ وتمثل القصة سارة ونبي الله الخليل حبيبين منذ الصبا ، وزوجين اجتمعت لها كل معاني الإخلاص والصفاء ، ولكن متى تم الصفاء لإنسان في هذه الحياة ! فقد شاب هذا الصفاء بين الزوجين الحبيبين ألم مرير ، إذ كانت سارة عقيما لا تنجب ، فلم يشأ إبراهيم أن يتزوج إيثارا لها وإخلاصا في حها ، وأرادت هي أن تكافئه على هذا الإخلاص والحب ، فحسنت له التزوج بجاريتها هاجر ، فأخذ بمانع في ذلك كل الممانعة حتى لا يشرك في حبها أحدا ، وأخذت هي تلح عليه في هذا حتى نزل علي رأيها وتزوج من هاجر ، ولم تلبث هاجر أن حملت فتحركت الغيرة في نفس سارة ، وأصبحت لا تطيق أن ترى جاريتها التي صارت ضرتها ، فأصرت أن بخرجها إبراهيم إلى الجبال القفرة ، ويتركها نهبا للوحوش السكاسرة ، ويحاول إبراهيم جاهدا أن يخفف من حدة الغيرة في نفسها ، ولكن على غير جدوي ، فيضطر إلي أن يخرج بهاجر إلى بلاد العرب ، ويتركها في القفر الموحش ، وهناك تلد إسماعيل أبا العرب ، ويشاء الله أن يكون مولده في هذا المكان مولدا لأمة ولحضارة ، فمن تحت قدمه نبع ماء زمزم ، وتجمع العرب يطلبون الري من ذلك الماء.. ثم كان أن صنع الزمن صنيعه ، وإذا بالصفاء يعود إلى النفوس ، ويشتد الحنين بإبراهيم وسارة إلي هاجر ومعرفة ما تم في أمرها ، فيخرجان للبحث عنها حيث تركها إبراهيم عبر السنين الماضية ، وكان أن التقي إبراهيم بابنه إسماعيل ، ثم كان أن رأي إبراهم أنه يذبح إسماعيل وحيده في المنام ، ويصبح الصباح فيشحذ سكينه ويهم بذلك ، لولا أن هبط جربل وفداء بذبح عظيم ، ومن هنا كانت شريعة الضحية ؛ وهكذا تمضي القصة من بدايتها إلي نهايتها . سلسلة من المفاجآت القاسية ، وكل مفاجأة تنتهي بالفرج بعد الشدة ؛ ومن في شعب مصر لا ينشد الفرج بعد طول ما عاني من شدائد الأيام التي لا تزيد إلا استحكاما وضراما .
وأحسب أبي قد أطلت اليوم ، فإن الحديث التالي حيث نستوفي عرض هذا القصص الطريف .
