الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد الثامن عشرالرجوع إلى "الرسالة"

دراسة فى التصوف

Share

الأصل فى دراستى لهذا الموضوع، هو الإعجاب المطلق،  ولقد أدى بي هذا الإعجاب، ومبعثه شوق روحى غامض الى اجتلاء بعض الحقائق السامية - إلى التفرغ لدراسة التصوف  الإسلامى فى كتب عدة لبعض أئمة الصوفيين وأخص بالذكر منهم  الإمام أبا حامد الغزالى والاطلاع على بعض الديانات الهندية  وأهمها الديانة الوثنية التي يمثلها نبيهم كرشنا(٢)، ولمذهب كرشنا  وتعاليمه - بنوع خاص - أثر بارز فى دراستى لأصول  التصوف. وينحصر مذهب كرشنا فى أن الإنسان، يعزف عن الخير  لمجرد الوهم والخداع فى الدنيا وينصرف إلى الدنيا لأنه لا يعنى كثيرا  بحقيقة الآخرة. وهو يدعو إلى محاسبة النفس، والقيام بالواجب  بدون هوى ذاتي، ومجاهدة الروح، والفناء فى محبة الله، وهو يشبه  الجسم للروح بالثوب للجسم، ومعنى هذا أنه يؤيد فكرة  التناسخ. ويقول بأن الروح تنزع نفسها من الجسم المتداعى إذ  لا يعود صالحا لها. لتنتقل إلى جسم جديد، ومعنى هذا أن الروح  خالدة. وهو يعزو أعمال الانسان إلى الروح ، ويرى أن ثمة قوة عليا  هى التى تحرك الانسان. . وتسيره، أي أن كل ما يفعله الانسان  مسوق إليه بقدرة الله، وإرادته العالية، ولذلك فإن الانسان يجب  أن يؤدى واجبه دون أن يفكر فيما إذا كان هذا الواجب سيجلب  إليه الخير أو الشر.

ولقد عمدت أيضا إلى دراسة الديانة السيخية (٣) وأود أن أذكر أن اهتمامي هذا كان مبعثه الأول الى دراسة التصوف , احساس روحى عميق, فى داخل نفسى, كان يذهب حينا, ثم يعود قويا

متجددا فلما تناولت بعض المسائل الروحية بالدرس والتجربة  واطلعت على آفاق جديدة فى الثقافة الآسيوية، وهى فى جملتها روحية  أصيلة ألفيت نفسى مقودا إلى استكمال وسائل البحث والدرس. . .

وقد يبدو مثل هذا الولع بدراسة المسائل المتعلقة بالروح، شيئا  يناهض معنى المدنية القائمة اليوم، وهذا ظن خاطئ فأن المدنية  الحديثة التى ترتكز عظمتها على الآلات ليست كل شىء فى سبيل  إسعاد الانسان كما يقول الفيلسوف الروسى ليون شستوف. وهذا  الرجل يندد بمساوئ المدنية الحديثة لما فيها من الاندفاع المطلق  نحو اجتناء اللذات المادية، حتى صار الانسان فى بعض البيئات  الصناعية أشبه بالآلة أو الحيوان أن تجرد من الصفات العليا. وشستوف  يدعو الى تنمية العواطف الإنسانية الكريمة، وتذكية الروح فى سبيل  الارتفاع بالانسان، والحيلولة بينه وبين طغيان الشهوات الدنيا  والمطامع الوضيعة حتى لا تفسد روحه وتخمد المشاعر السامية فى  نفسه. والواقع أن هذه الدعوة ليست سوى ترديد لما يعتلج فى  صدور الكثيرين ممن سئموا طغيان المادة على الحياة،  وعادوا يحنون حنينا قويا إلى العناية بالروح، كما يعنى بالجسم؛ فأن  الانسان ليكاد لفرط ما يحفه من مظاهر الترف والإغراء يعبد  الجسد عبادة وثنية..

وحدث منذ عامين تقريبا أن اهتممت بالطريقة الروحية التى   اتبعها غاندى فى جهاده الوطنى، وهى التى يسميها السياسيون بالطريقة  السلبية، أقول: إن اهتمامي بفلسفة غاندى جعلني أتجرد لمعرفة قوة  الروح والأطلاع على ما يتصل بها وبالجسم. ومن هذه الأشياء  التى سبقت، مجتمعة، تكونت عندى فكرة قوية لمعالجة هذا  الموضوع، راجيا أن أكون قد وفقت فيه بعض التوفيق بقدر  ما يتسنى ذلك فى رسالة قصيرة، ولست أستطيع أن ادعي اننى  بلغت فيه كل ما أرجو، فأن هذا الادعاء لا قيمة له لنفسى  ولا للقارئ، فأنني متصل بهذه الحياة كالآخرين، اتصالا ماديا،  هذا الاتصال الذى اشعر بثقله كلما رأيت الانسان كم يكذب  ويخدع، ويحتال، وينافق. . لكي يعيش. أو بمعنى آخر  إن قوة المدنية ومادياتها قد طغت على أرواحنا طغيانا جارفا،  فأفسدت أكثر النواحى الإنسانية فينا، ونمت الروح الحيوانية فى  سائر أعمالنا، أو كما يقول برناردشو فى كتابه الأخير: "مخاطرات  الفتاة السوداء" أصبح الانسان الحديث عبد الخمر والبندقية.

ولست فى ذلك بالجاحد لقيمة المدنية، فإن التطور الاجتماعى  الذى نلمسه فى القرن العشرين كنتيجة لجهود العلماء المتصلة لخير

الانسانية قد أفاد الانسان فى حياته فوائد جليلة، ولكن الانتفاع  شىء والاستمتاع شىء آخر. . واطلاق الشهوات هو طريق  الانحدار والانحطاط، وأننا لنرى أكثر علماء هذا العصر قد شغلوا  جميعا على الرغم من اختلاف اتجاههم فى البحث وتباين ثقافتهم  بتوحيد القوى الانسانية، والتغلب على الشهوات التى تثير فى  النفس التطلع الى القهر والاذلال والاستعمار والاستغلال  والتمرد على الأمم الصغيرة الوادعة كما يتمرد الرأسمالى على العامل.

إن التصوف رياضة نفسية عنيفة، وليس من السهل أن يروض  الانسان نفسه عليها، بل أن وضع المدنية لا تكاد يجعلنا نرى فى  الصوفية المطلقة كل الخير، وخاصة لما تقتضيه الحياة أن يعيش  فيها كعضو عامل منتج، إنما يعنى أكثر المشتغلين بالتصوف فى  هذا العصر بانقاذ الروح كجوهر

وقد قسم العلاقة توماس باتريك هيوز صاحب الموسوعة  الاسلامية The Dictionary Of Islam حدود الصوفية إلى تسعة  أقسام أهمها:

إن الله فى كل شىء، وكل شىء مستمد منه سبحانه، وأن كل  شىء مرئى أو غير مرئى خاضع لقدرة الله، وأن هناك  مقاومة بين الروح والجسد ينهيها الموت. فيذهب الجسم، أما  الروح فتبقى. وأساس الاعتقاد عند الصوفيين أن الخلود  للروح. ولهذا فأنهم يسلكون طريق التعبد والرياضة  النفسية تزكية للنفس والخلق، وتحسينا للشمائل وتبغيضا فى الدنيا،  واستعداد للرحيل الى الدار الباقية. . حتى تصفو العقيدة وتنقى السريرة  وتصفى من أكدار التكلف والنفاق. ومثل هذه الرياضة تتطلب  الخلوة والعزوف عن الأشياء البراقة ومجاهدة النفس وتصعيد  الغرائز والارتفاع بالفكر الى أسمى مكانة، وقد قال الامام الغزالى  فى ذلك:

".. ثم دخلت الشام وأقمت فيه قريبا من سنتين لا شغل لى  إلا العزلة والخلوة والرياضة والمجاهدة اشتغالا بتزكية النفس وتهذيب  الأخلاق وتصفية القلب لذكر الله تعالى، كما كنت حصلته من علم الصوفية،  وكنت اعتكف مدة بمسجد دمشق اصعد منارة المسجد وأغلق بابها  على نفسى، ثم تحرك بى داعية فريضة الحج والاستمداد من بركات  مكة والمدينة وزيارة النبى صلى الله عليه وسلم بعد الفراغ من زيارة  الخليل صلوات الله عليه وسلم، ثم سرت الى الحجاز ثم جذبتنى  الهمم ودعوات الأطفال الى الوطن، وعاودته بعد أن كنت أبعد  الخلق عن أن أرجع إليه"

وللتصوف مراحل لا بد أن يجتازها الصوفى مرحلة وراء

مرحلة، وليس من السهل اجتياز كل منها فأنها تحتاج الى جهد  فائق، وجلد كبير، وقوة مدخرة، وأهم تلك المراحل:

العبودية والعشق والزهد والمعرفة والوجد والحقيقة والكشف  والوصول الى الفناء. فأذا أشرقت روح الصوفى، ارتفعت به الى  حيث تكشف له السعادة المطلقة، فيبلغ مرتبة الفناء المطلق للفكرة،  وتفهم سر الحياة والموت، والصوفى الذى يجتاز تلك المراحل هو  الكامل فى إخلاصه وتعبده، وقلما يصل إليها متصوف، بل أننا  لا نكاد نحصى إلا طائفة صغيرة ممن استطاعوا السمو الى هذه المنزلة  أولئك الذين خلت نفوسهم من الشوائب وتخلصوا وتطهروا وأقاموا  حاجزا منيعا بين رغباتهم المادية وغايتهم الروحية العليا.

وهناك وسائل يتبعها المجتهدون فى التصوف أهمها ثلاث:  الانجذاب والعبادة والعروج، ومن يقرأ الشعر الصوفى يذهل  لفرط ما يرى. فإن الشعراء الصوفيين يصورون حالتهم النفسية  تصويرا رائعا، ففى شعرهم من الهيام والوجد والعشق ما يكاد يحسبه  القارئ لأول وهلة لشاعر أغرم اغراما أفلاطوينا بفتاة. والواقع  أن انحدار تلك المعانى لا يكاد يختلف عند الاثنين فى شىء  ما، فبينما نرى الصوفى يتجه مخلصا نحو الله بالتوسل والدعاء  والابتهال، نرى الآخر يقدس الجمال فى معناه الأسمى. لا شك  أن الصوفى المنصرف عن الدنيا بكل ما فيها. المتجه الى الآخرة  اتجاها تاما إنما يبالغ فى فكرته الى حد الفناء فى اعتناق الفكرة فاذا  أردنا أن ندرس التصوف على أنه تزكية للروح وتنقية له من الشوائب  فإن هذا حسن، ولكن من الخطأ أن يكون الانسان سلبيا بحتا،  فإن الحياة قوامها العمل والكتب السماوية كلها تحث على العمل  والمثابرة والاجتهاد فى سبيل العيش . بينا نرى التصوف بمعناه الدقيق  يدعو الى الزهد المطلق والانكسار فى جهة ضيقة للتعبد والتقشف،  وهذا ما فى رأينا اخلاص الى حد الجنون بالفكرة والتعصب لها، فاننا لنرى  النبى الكريم عليه الصلاة والسلام وهو روح الحب والحنان والتسامح،  قد حمل مصباح الهدى ومشعل الحق وجاهد فى سبيل الله بلسانه ويده،  حتى عمت دعوته، لقد كان النبى الكريم يشتغل بالتجارة ولكن  ذلك لم يصرفه عن استخلاص نفسه والتوجه نحو الخالق بالعبادة  والصلاة دون أن يعتكف فى مكان ضيق من الأرض.

وأننا لنرى العلماء اليوم وخاصة من تشربوا بالثقافة السلافية،  يدعون الناس مخلصين الى تطهير نفوسهم وعدم الانغماس فى ملذات  المدنية تنزيها لجوهر الروح عن الفساد وخوفا على البشرية من الانزلاق  فى مهاوى الشهوات والترف كما ذهبت فى الماضى بعض المدنيات  العريقة طعمة لجنون الشهوات والطمع والفساد الاجتماعى.

اشترك في نشرتنا البريدية