نقلنا في هذه الصفحة من العدد ٣٠٢ مقالاً للكاتب الإيطالي ف. بارتو عن دعاوى إيطاليا في قناة السويس، وقد نسب الكاتب الفضل في وضع تصميم القناة وتأسيسها إلى مهندسين إيطاليين ذكر من بينهم: نجّرللي وبترمو وجوايا، وزعم أن إيطاليا هي الدولة الثانية من بين الدول التي تمر في هذه القناة. . . إلى آخر ما جاء في ذلك المقال، والمقال التالي رد على ذلك المقال نلخصه للقراء ليطلعوا على وجهتي النظر في المقالتين.
منذ سنين عديدة كتب أوسكار وايلد مقالاً قيماً عن اضمحلال رذيلة الكذب. فلو عاش في عصرنا هذا الذي انتشرت فيه وسائل الدعاية بين الدول الحديثة، فما لا شك فيه أننا كنا نقرأ له فصولاً ممتعة عن نهضة الكذب.
إن الدعاوى العريضة التي يدعيها الإيطاليون في قناة السويس
في هذه الأيام، مما يجعل النفس تشمئز ويعروها الأسف الممض لهذه الهوة التي انحدرت إليها الصحافة في العصر الذي نعيش فيه
ونحن وإن كنا لا نبرئ الصحافة في عصر من العصور من الانحراف عن الجادة في بعض الأحيان، إلا أننا نعتقد أن هذا الانحراف لم يكن يعدو الأمور الصغيرة التافهة التي لا تؤثر بحال من الأحوال في الشؤون العامة التي لها أكبر الأثر في حياة العالم
ولكن إيطاليا وألمانيا تذهبان إلى آفاق بعيدة المدى في الكذب في شئون لها الأهمية الكبرى في الحياة، ولعل أسوأ الأمثلة لهذا الكذب الصراح، هو ما تنشره الصحافة الإيطالية عن قناة السويس، لا في إيطاليا وحدها، ولكن في تونس والأمريكيتين مما ينافي الحقيقة من جميع الوجوه.
ولقد استطاعت بعد الاطلاع على هذه المزاعم أن أتوفر على هذا الموضوع وأبحثه بحثاً جديداً فتبين لي أن هؤلاء القوم يلجئون إلى بعض المخلفات القديمة، ليستخرجوا منها أسماء لها
علاقة ما بهذا المشروع الجليل، فيخلعون على أصحابها حلل الفخار والشرف التي ارتداها رجال لهم شهرتهم وعظمتهم بين العالم، بعد أن طواهم الثرى في بطونه
فهذه الأكاذيب من النوع الذي يقول عنه (تتيسون) : الكذب الذي هو نصف حق، شر من الكذب الصراح
فهم يقولون إن إيطاليا تعد في المرتبة الثانية من الدول التي تمر في قناة السويس. فمن أين جاءوا بالبيانات التي يستندون إليها في هذا الزعم؟ من الإحصاءات المبينة على ذلك الظرف الاستثنائي الذي دعاهم إلى نقل آلاف من جنودهم البسلاء مجهزين بالمدافع والطيارات والأسلحة المختلفة لمحاربة الحبشة العزلاء عام ١٩٣٦ - ١٩٣7، وعلى هذه الطريقة في الكذب تجري سائر الدعاوى والمزاعم التي يطلعون بها على العالم
إن قناة السويس التي نشأت فكرتها منذ قدماء المصريين، وفكر فيها نابليون بعد حملته على مصر، ثم مشروعها على يد رجل واحد هو المهندس الفرنسي فرديناند دي لسبس.
لقد كان الخطأ الذي حال بين نابليون وبين تنفيذ هذا المشروع هو خطأ المهندس لابير الذي رأى أن هناك فرقاً بين مستوى الماء في البحرين يحول دون ذلك، وقد أصلح هذا الخطأ بتأثير دي لسبس وحده، إذ رفع مذكرة إلى محمد سعيد باشا حاكم مصر مؤرخة في ١٥ من نوفمبر سنة ١٨٥٤ ينفي فيها وجود الفارق المزعوم، مستنداً إلى تقارير قدمت إليه من مهندسين من الإنجليز لهم خبرة عظيمة ومهارة فائقة في هذه الشئون، فقاموا بقياس مستوى البحرين وكان لهم الشرف العظيم في نفي هذه الخرافة، والتوكيد بأن لا فارق بين مستوى البحرين
ومما يدعو إلى الضحك أن ينسبوا تأسيس القناة إلى مهندس إيطالي يدعى (نجرللي) ، فتأمل عمل الدعاية في الانتفاع بهذا الاسم؟ مما لا شك فيه أن هناك شخصاً يحمل هذا الاسم كان ضمن الذين يعملون في هذا المشروع، ولكنه من أوستريا لا من إيطاليا، وقد كان يشغل وظيفة مهندس عموم السكك الحديدية بها، فعين في بعض الأعمال مع مهندس إنجليزي يدعى استيفنش فنسبته الدعاية إلى إيطاليا لأن اسمه نجرللي لا أكثر ولا أقل. وقس على ذلك سائر الدعاوى والأكاذيب
إن قناة السويس لم تنتفع بإيطاليا في حال من الأحوال، ولكن إيطاليا هي التي انتفعت بها في فتح الحبشة
