قال ديشليم الملك لبيديا الفيلسوف :
- أيها الحكيم الأرب ! حدثتني حديثا عجبا عن " الدعاية " ومبلغ تأثيرها في عقول الأفراد وضربت لي مثل الرجل الذي يذهب إلى السوق عامدا متعمدا ليشتري سلمة معينة على الرغم من أنه كان لا يرغب فيها ، وليقتنيها وهو يعلم أنه لا حاجة له بها ، ومع ذلك فهو يذهب في طلبها كما لو كان تحت تأثير سحري بفعل هذه " الدعاية " التي يقوم بها التجار لسلمهم ، فيطالعونه باعلاناتها في صحف الصباح والمساء ، ويواجهونه بلوحاتهم المزركشة عنها على جانبي طريقه في غدوه ورواحه ، وقد يلاحقونه بها في الراديو وفي دور السينما وفي كل مكان يرتاده ، حتى يغشي على بصيرته ويفقد ملكة الحكم الحر على حقائق الأمور ، وقد ينتهي إلي أن يري حسنا ما ليس بالحسن. فهل أنت محدثي عن أثر هذه " الدعاية " في عقلية الأمم ؟ وهل هي تبلغ من تلك العقلية العامة مثل ما تبلغ من عقلية الفرد الخاصة ؟ .
قال بيديا :
- اعلم أيها الملك العظيم - خلد الله ملكك وأدامك للعلم نصيرا وللفن ظهيرا - أن ضمن الأمثال العامة قولهم : " الدوي في الأذان افعل من السحر ! " وأنه ليس يدوي في الآذان شئ اكثر من " الدعاية المنظمة " . وأنه لذلك كان اثر الدعاية أفعل من السحر . وأن الأمم تنقاد بفعل الدعاية كما ينقاد الفرد ، وان الداعية الماهر يستطيع أن يلقي بأمنه في انون الحرب وهي اشد أهل الأرض تعلقا بالسلام . وقد نقل الاقدمون على سقهم أن فريق من يسمونهم " الخلفاء " في الحرب العالمية الأولى أوشكوا أن يلقوا سلاحهم تحت ضغط
أداة الحرب الجرمانية في أواخر أيام تلك الحرب . ويقول الرواة إنه " لم ينقذهم من هذا المصير إلا إنشاء إدارة للدعاية اخذت تطبع ملايين المنشورات وتلقيها على الجيوش الجرمانية فحطمت روحها المعنوية واضطرتها بعد شهور قلائل إلي أن تجثو على ركبتيها خاضعة كبيرة " .
وإن من حكومات البلاد المجاورة لملكك السعيد يا مولاي من فطنت إلي هذه الأمور فتحكمت فيما يصل إلي اسماع شعوبها وإلى ابصارهم حتى لا يتسرب شئ إليهم إلا ويكون لهم فيه منفعة ، ولا يسري إلي نفوسهم توجيه خاطئ يصرفهم عن السير بقافلتهم في سبيل التقدم والفلاح . وإن ولاة الأمور الذين يغفلون عن صنع ذلك يوشكون ان ينتهوا بأممهم إلى مصير مثل مصير بنى زليط حين تحكمت فيهم الدعاية السيئة فأوشكت ان تقضي عليهم .
قال ديشليم الملك : وكيف كان ذلك ؟ .
قال : زعموا أنه كان بأرض قططبند قوم ينتمون من بعيد إلي قبيلة بني زليط . وكان هؤلاء القوم يقيمون في رغد من العيش متحابين متالفين متضامنين ، جادين في العمل على تحسين حالهم ورفع مستوي عيشهم ، وكان أصحاب الفكر منهم يدأبون على تزويدهم بكل ما ينفعهم في شئون دينهم ودنياهم فبعد الأمية المطلقة انتشر التعليم في أروقتهم وأقيمت المدارس في كل مكان ؛ بدأت بتعليم القراءة والكتابة ثم اخذت ترقي شيئا فشيئا حتى انتهت إلى جامعات للدراسات العليا . . والتفلسف في حقائق العلوم والتعمق في دراسة الآداب .
وبعد العجز المطبق في ميدان الصناعة صارت لهم المحالج والمغازل والمناسج والمصايد والمصارف ، ومصانع الزجاج والورق والجلود ، وغير ذلك شئ كثير .
وبعد الاقفار والبوار زرعت أراضيهم وشقت فيها
الترع والمصارف . وجاد محصولها وتوفرت خيراتها ...
وبعد الأملاق والافلاس انتعشت ماليتهم وعظمت ثقة الناس فيها . وهكذا كان شأنهم في كل مرافقهم الآخر . وقد هيأ الله لهم ولاة يرجون لهم الخير ويقدرون على عمله ، فكانوا يتنافسون في ان يقرن كل واحد منهم عهده بتحقيق اكبر قسط من امانيهم التى لم يوفق إليها سلفه . وبذلك اخذت هذه الامة تصعد في سلم المجد بخطوات ثابتة حثيثة حتى قيض الله لها اخر الزمان طائفة من ابنائها أخذوا ينقضون كل هذا الغزل من بعد قوته انكاثا . وكانوا جماعة من الشعراء والزجالين ينظمون المقطوعات الخفيفة ويحسنون سبكها . فيذيعها جماعة من المطربين الحانا جميلة جذابة يتناقلها الصبية في الطرقات ، والعمال في المصانع ، والتلاميذ في المدارس ، والسيدات في بيوتهن.
وليس في الشعر عيب ولا علي الغناء مأخذ . بل إنك أيها الملك العظيم - خلد الله ملكك . . الخ ! - لتعلم ان الشعر والغناء ضرورتان من ضرورات الحياة لا نستقيم إلا بهما . ففيهما الترفيه عن النفس والتخفف من أثقال العيش . ولكن المحنة أوشكت أن تقع عن سبيل المعاني التي يضمنها هؤلاء الشعراء شعرهم . فقد كان معظمها ينطوي على ريح خبيثة تعصف بالنفوس الرزينة الصالحة فتغريها بالفساد والاستهتار والأثرة ، والإغراق في اللهو والشراب . ولم تمض سنوات على انتشار هذه الأناشيد المدمرة حتى تغيرت نفسية القوم . ففترت عزائمهم . وقويت فيهم ملكة التواكل وعدم الأكتراث . وتخاذلت قواهم المعنوية . ومالوا إلي اللهو الرخيص . واستهتروا فلم يعد يجذبهم الجد في أمر من الأمور ، وتنافسوا في انتهاب الفرص الشخصية .
وجر المغانم الفردية عملا يحكمة جيلهم الجديد : ( زهرة وتدبل علي أغصانها - وتروح في الحال -
يالله اقطفها قبل أوانها - دا العمر خيال) وكان العامل يذهب إلى محل عمله في الصباح وهو يتغني في الطريق بقوله : ( أوعي نزعل ثانية - صحتك بالدنيا . . ) وصار الشاب الذي اكتظ ذهنه مما حفظه في مدرسته من الأناشيد الوطنية لا يجد ملهاة له إلا في ترديد قوله : ( اشرب كاس التهاني وارقص على الأغاني ده بكره كله فاني . . ) وكان الرجل الرصين منهم إذا حزبه أمري فخلا إلي نفسه ، شغله عن التفكير في شئونه هاتف يهتف في داخل نفسه :
( انس الدنيا وريح بالك - واوع تفكر في اللي جرالك ) وهكذا غير الله حال هؤلاء القوم ، وفعلت فيهم هذه النغمة الجديدة افاعيلها فخدرت اعصابهم وتركتهم في حالة نشوة بحاضرهم ، انستهم ماضيهم واذهلتهم عن مستقبلهم ، وشب نشؤهم الجديد على حب اللهو والعبث . وذهبت عنهم حمية أبائهم واجدادهم ، واصبحت الميوعة طابع جيلهم . وبعد ان كان الرجل منهم يتحاشى التدخين في حضرة اخيه الأكبر ، أصبحت فتياتهم يشربن الخمر في حضرة آبائهن وأمهاتهن . وحقت بذلك عليهم كلمة الحق جل جلاله : " إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم " .
فهذا هو أيها الملك العظيم مثل الدعاية السيئة وما تستطيع أن تفعله بالأمم والشعوب . وقديما قالوا :
لا يبلغ الأعداء من جاهل ما يبلغ الجاهل من نفسه
عصمك الله أيها الملك من الزلل . وجنب رأيك الخطى . وضاء بنور عقلك طريق امتك . وجعل هدايتها موصولة بحكمتك وواسع خبرتك

