نشر المستشرق في الكبير الأستاذ جولد تسيهر هذا المقال القيم في مجلة الجمعية الأسيوية الملكية في إ بريل عام ١٨٩٧ ، بعد طبع " ديوان الهذليين " المرة الأولى . ويسعدني أن أنقله إلى العربية ، بمناسة إخراج دار الكتب المصرية لهذا الديوان حديثا .
يجب ان تعتبر " ديوان الهذلين " التراث الوحيد الذي بقي لنا من لون ادبي عظيم ، كان من الثمرات التى آتها جهود اللغويين العرب في محاولاتهم الأولى لجمع الشعر العربي القديم .
والحق أن تاريخ الأدب العربي ، الذي يجب أن يرضي بتدوين أسماء كثير من الثمار الضائعة التي كَد العلم والجهد في سبيل إظهارها حين يؤرخ لعصوره القديمة ، ليس لديه إلا هذه المهمة أيضا ، حين يشرع في وصف جهود الباحثين من اللغويين في ميدان الشعر القديم .
وقد نجح القدامي من العلماء في توجيه أكبر عنايتهم
لجمع دواوين القبائل ، مع حفظهم وتمحيصهم للقصائد العضم ، التى حازت شهرة تعترف بها جميع أرجاء بلاد العرب ، مع اعتبارها أسمي ما انتجته قرائح فحولهم ، بعض النظر عن القبيلة التى ظهر فيها الشاعر . وكان عمل هؤلاء اللغويين جمع مأثر كل قبيلة ، وتدوينها كتابة . فوجهوا عنايتهم إلى القصائد الباقية في ذاكرة القبائل من شعرائها ، والتي ترتبط ارتباطا وثيقا بذكريات هذه القبائل التاريخية . ولم يتطلب هذا العمل منهم التطواف في الصحراء بين الخيام ، على الدوام . بل كثيرا ما أتاهم سكان هذه القنوات أنفسهم ، أو مهدوا هم لاستحضارهم ، وهم في مدنهم . يتمتعون بالراحة والسعة ، وسدوا حاجتهم إلى المعلومات من معارف هؤلاء ، الأعراب الواسعة ، وذكرياتهم الفنية . وقد عقل إسحاق الموصلي ، وكان دائم الاشتغال بجمع الأخبار القديمة ، عن دعوة أحد الأشراف للغداء ، لأنه
كان في ذلك الوقت يجالس أعرابيا ، ويكتب ما يسمعه منه . وقد ذكر ابن النديم كثيرا من الاعراب ، الذين أفاد العلماء منهم ، في فصله الذي خصصه الغربين في " الفهرست " .
وهكذا وجه علماء القرن الثاني للهجرة غالب دراساتهم مع العرب الخلص إلى جمع الذكريات الشعرية للقبائل المختلفة ، بالإضافة إلى ابحاثهم اللغوية الخالصة . فظهرت " دواوين القبائل " التي تدين بوجودها لهذه الجهود التي وصفناها . وليس من الغريب أن تتعرض هذه المجموعات للانتحال والزيادة الزائفة ، على يد رجال قادرين من أمثال " خلف الأحمر " . فالاستحسان والتشجيع اللذان قابلت بهما الدوائر الرسمية في العهد الأموي هذا النوع من الدراسة - وهو أمر تصوره لنا الأخبار الأدبية الباقية - يجعلنا نعتقد أن البوادر الأولى من هذه الذخائر ، إذا سمحنا لأنفسنا بإطلاق هذا الاسم عليها ، كانت أتسير في طريق التقدم . ومهما يكن من أمر ، فإنه قد روي عن حماد الراوية ، في خبر أطلعنا عليه فلهوزن ، أنه تأهب لمقابلة الخليفة الوليد ، بالنظر في " كتابي قريش وثقيف " لأنه كان يعتقد أن الخليفة سائله عن أشعار القبائل التى هو على صلة بها . ولا بد أن " كتاب بني تميم " الذي وجهت الأنظار إليه في مناسبة سابقة ، قديم جدا . ومع ذلك ، فإن هذه العبارة من شعر بشر ، التى يذكر فيها هذا الكتاب ، إذا كانت تشير حقيقة إلى مجموعة مدونة عن مآثر بني تميم وأشعارها ، تجعل نسبة البيت إلي بشير ابن أبي خازم واهبة الأساس . فليس من المحتمل - بل من المستحيل - أن توجد مثل هذه المجموعة في عصر مبكر كهذا العصر الذي عاش فيه بشر .
وقد ترقت هذه الجهود في الجيل التالي رقيا كبيرا . إذ ساهمت دراسات علماء العصر العباسي اللغوية في النهضة العامة للعلوم ، واستمر اللغويون في جمع دواوين القبائل . على أساس المحاولات الأولى في العصر السابق .
وهناك كتاب يسمي " كتاب أشعار القبائل " كان " يحتوي على عدة قبائل " منسوب إلي خالد بن كلثوم ، ويبدو أن هذا العالم كان يعيش في العصر الأموي . وجُمعت مآثر بني أسد من رواية أسدي ، هو محمد بن عبد الملك الفقعسي ( الذي عاش إلى عصر هارون الرشيد ) ، وظهرت
في " كتاب مأثر بني أسد وأشعارها " . ولعل أبا عبيدة ( المتوفي حوالي ٢٠٧-٢١٠ه ) اتبع نفس الطريق في كتبه عن " غطفان ، والأوس ، والخزرج ، وبني مازن " .
وهناك كتاب آخر لا نعرف مؤلفه هو " كتاب بني تميم من مازن " . وذكر الدار قطني ( المتوفي ٣٨٥ ) كتابا باعتبا " جمع فيه ( المؤلف ) أخبار بني ضبة ، وأخبار شعرائهم " . وحكم أبو القاسم الآمدي ( المتوفي ٣٧٠ ) في كتابه " المؤتلف والمختلف في نسبة بعض الأيات إلي أبي القول الطهوي أو إلي أبي الغول النهشلي ، وأقام حكمه على أنه لأبي الغول الطهوي " في هذا حديث وخبر في كتاب طهبة . . ولم أر له ذكرا في كتاب تمهل " . وبشير الآمدي أيضا إلى " كتاب بني الفين بن الجسر " . ولا نستطيع أن نعلم بقينا زمن جمع هذه الكتب ، من العبارات التي تدين لها بمعرفتنا لوجودها . بل نحن لا نعرف مؤلفيها أيضا . وينسب " الفهرست " مجموعة لشعراء ضبة ونهشل إلى السكري ؛ ولكن ليس من المحتمل أن يطلق على كتاب من قلم هذا المؤلف عبارة " الكتاب العتيق " حد قرن واحد من ظهوره . والواضح أنه ينبغي علينا أن نفهم من هذه العبارة أنهم يريدون كتابا آخر ، أقدم من كتاب السكري وأقل قيمة ، فنفحه السكري وأكمله ، كما فعل هذا اللغوي الدقيق في ديوان الهذلبين ، ودواوين الشعراء الآخرين . ومهما يكن من أمر ، فإننا نري أنه كان في استطاعة لغوي القرن الرابع الهجري الرجوع إلي دواوين القبائل ، كلما أشكل عليهم أمر عند أحد الشعراء . وقد فعل ذلك أبو حاتم السجستاني ( المتوفي حوالي ٢٥٠-٢٥٢ ) ليعرف القراءة الصحيحة لبعض الألفاظ غير الواضحة في الشعر : أعني ، أنه نظر هذه الأبيات في ديوان القبيلة التي يقتمي إليها الشاعر الذي أشكلت ألفاظه .
وأخيرا ، ظهرت أمام الباحثين آثار رجل ، يبدو أنا القمة التي وصلت إليها حركة جمع دواوين القبائل ، ذلك هو أبو عمرو الشبياني ( للتوفي حوالى ٢٠٥-٢١٠ ه ) فيقال إنه جمع دواوين أكثر من ثمانين قبيلة وقد اعتمدت على دراساته جميع آثار هذا اللون من الدراسة التي ألفت بعده . و " أخذ عنه دواوين أشعار القبائل كلها " ويروي أنه رجع إلى جميع ما كتبه المؤلفون قبله . ولم يصل إلى يد العلامة عبد القادر بن عمر البغدادي ( القرن الحادي عشر )
الذي كان يعيش منذ ثلاثمائة سنة فقط ، غير أجزاء وحيدة من هذه الكتب ، وكان تحت تصرفه مكتبة كاملة من عيون الكتب ، يرجع إليها في تأليف كتابه " خزانة الأدب ". ذلك الكتاب الفني يجميع أنواع المعارف ؛ وقد ضاع قسط كبير من هذه المكتبة الآن . ولذلك استطاع عبد القادر أن يأخذ شواهد من شعر أفنون التغلي . من كتاب " أشعار تغلب " لأبي عمرو . ويقول أيضا في أثناء كلامه عن شاعر آخر ، إنه كان يرجع إلى مجموعة أخرى لأشعار " محارب ابن خصفة بن قيس عيلان ( لنفس المؤلف ) ، وهو عندي في نسخة قديمة تاريخ كتابتها في صفر سنة إحدي وتعين ومائتين ، وكاتبها أبو عبد الله الحسين بن أحمد الفزاري ، قال : نقلتها من نسخة أبي الحسين ( صوابه أبي الحسن ) الطوسي ( الملقب " برواوية القبائل " ايضا ) . وقد عرضت على ابن الأعراني " .
بل السكري نفسه ( المتوفي ٢٧١ ) لم يشتغل بإعادة جمع دواوين الشعراء القدماء وحدهم ، بل بأخراج مجموعة كبيرة من دواوين القبائل أيضا . ولم يبق من هذه المجموعة غير جز ، كبير من " ديوان الهذليين " الذي يدين كثير المشاق التي تكبدها هذا اللغوي في سبيله ، ولكن العلماء في ذلك الوقت أخذوا يقتنعون بمجموعات من المختارات من ذلك الأدب الفسيح ، بدلا من الدواوين الكاملة للقبائل . وقد أخلت دواوينه القبلية هذه ، وحماسته المرتبة على المواضيع صورتها عند أبي تمام ( المتوفي ٢٣١ ) في مجموع عنه للسيادة مختارات أشعار القبائل " . ولكننا لم تصل إلينا هذه المجموعات التي اكثر مؤلف خزانة الأدب من الرجوع إليها في شواهده الشعرية .
وشرعت دواوين القبائل تختفي إلي المؤخرة ، مع اختفاء الاهتمام بالحياة القبلية في الصحراء . ولم يعد معظم ما تحفظه القبائل من شعرائها ، وثرويه للغوبين المشفوفين ، يثير من الاهتمام إلا قليلا . وكان هذا الاهتمام القليل مركزا في دائرة ضيقة من أعضاء القبائل المحترمة . في غالب الأحيان . ولم يكن جميع ما تحفظه القبائل من شعرائها من القوة والكمال الشعريين بحيث يرضى الذوق العام ، الذي لا يتحيز لأشخاص معينين . وذلك أخذ مؤلفو المجموعات الشعرية يلتقطون القصائد القديمة التى حازت شهرة عامة بين الجماعات الكبيرة . أو يختارون ما يبدو لهم أنه أهل لأن يصبح تراثا مشتركا للمجتمع الغربي كله ، أو لأن تعتبره الجماعات العظيمة عيونا شعرية ، بغض
النظر عن مصدره القبلي ، لشهرته ، أو لما يرتبط به من أمور تاريخية في الأصل . ولعل قسطا كبيرا من " المفضليات " نفسها ليس إلا مختارات تشمل أجمل قصائد دواوين القبائل المختلفة . بل يحكي أن أبا عمرو الشيباني أخذ عن المفضل الضيء دواوين العرب ، وسمعها عنه " ويجب ان توضع مثل هذه المجموعات ، التى يجمع فيها المختار من أشعار كل قبيلة واختار من دواوين الفحول ، في مقدمة الأسباب التي أدت بهم إلا إهمال دواوين القبائل - وأخيرا إلى نسيانها نسيانا تاما . ولم ينتج من هذا المصير سوى مجموعة واحدة لما أحاطها به رواة الشعر من عناية ، وربما كان ذلك لأن روعتها الشعرية سمت بها إلى مرتبة أعلى من المستوي العام لدواوين القبائل . تلك المجموعة هي " ديوان الهذليين " . وترينا هذه المجموعة ، فها ترينا ، أن دواوين القبائل لم تشمل شعراء العصر الجاهلي وحده . بل امتدت إلي العصر الأموي ، أعني : امتدت إني العصر الذي أخذ فيه هذا النوع من النشاط الأدبى لجمع اشعار القبائل ، في التقدم . ومع انحطاط هذا اللون من الأدب نسيت أسماء الشعراء ، التى كانت تدوي وتجلجل في قبائلها زمنا من الأزمان . واحتفت مؤلفات كانت في يوم من الأيام موضع الإنجاب في مضارب البدو . الذين كانوا يفخرون كل المخر بإعمال رجال عشيرتهم ، ويكثر الاقتباس من هذه المجموعات في كتب النوادر ، تلك الكتب التي وصلت إلينا دون أن تصل الأصول التي استفت منها . وإننا لنري أحيانا في نوادر أبي زيد الأنصاري المطبوع في بيروت منذ سنتين مضا ، أسماء شعراء غير معروفين ، لم نرها في غيرها من المراجع ، هؤلاء الشعراء وشعرهم . مأخوذون من دواوين القبائل .
نحن لا نعرف شيئا آخر عن دواوين القبائل التي كان يجمعها كبار الغويين في القرنين الثاني والثالث الهجربين ، والتي كانت لا تزال توجد نوادر منها منذ ثلاثمامائة سنة مضت ، في نسخ وحيدة نادرة . ولو حصلنا على هذه النسخ لقدمت لنا اكبر العون في إكمال معارفنا عن الحياة الداخلية للقبائل العربية المختلفة . ولكن يبدو أنها اختفت اختفاء نهائيا ، مثلها في ذلك مثل كثير من عيون الأدب العربي القديم الآخري . وان تظهرها إلى الضوء ثانية من اعماق الظلفات في بعض مكتبات الشرق ، سوى لفتة مفاجئة من حسن الحظ ، مثل تلك التى يصادفها بعض أدباء اليوم وعطائه هواة الأدب .
