الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 633الرجوع إلى "الثقافة"

دواوين القبائل، للمستشرق جولد تسيهر

Share

نشر المستشرق في الكبير الأستاذ جولد تسيهر هذا المقال القيم في مجلة الجمعية الأسيوية الملكية في إ بريل عام ١٨٩٧ ، بعد طبع " ديوان الهذليين " المرة الأولى . ويسعدني أن أنقله إلى العربية ، بمناسة إخراج دار الكتب المصرية لهذا الديوان حديثا .

يجب ان تعتبر " ديوان الهذلين " التراث الوحيد الذي بقي لنا من لون ادبي عظيم ، كان من الثمرات التى آتها جهود اللغويين العرب في محاولاتهم الأولى لجمع الشعر العربي القديم .

والحق أن تاريخ الأدب العربي ، الذي يجب أن يرضي بتدوين أسماء كثير من الثمار الضائعة التي كَد العلم والجهد في سبيل إظهارها حين يؤرخ لعصوره القديمة ، ليس لديه إلا هذه المهمة أيضا ، حين يشرع في وصف جهود الباحثين من اللغويين في ميدان الشعر القديم .

وقد نجح القدامي من العلماء في توجيه أكبر عنايتهم

لجمع دواوين القبائل ، مع حفظهم وتمحيصهم للقصائد العضم ، التى حازت شهرة تعترف بها جميع أرجاء بلاد العرب ، مع اعتبارها أسمي ما انتجته قرائح فحولهم ، بعض النظر عن القبيلة التى ظهر فيها الشاعر . وكان عمل هؤلاء اللغويين جمع مأثر كل قبيلة ، وتدوينها كتابة . فوجهوا عنايتهم إلى القصائد الباقية في ذاكرة القبائل من شعرائها ، والتي ترتبط ارتباطا وثيقا بذكريات هذه القبائل التاريخية . ولم يتطلب هذا العمل منهم التطواف في الصحراء بين الخيام ، على الدوام . بل كثيرا ما أتاهم سكان هذه القنوات أنفسهم ، أو مهدوا هم لاستحضارهم ، وهم في مدنهم . يتمتعون بالراحة والسعة ، وسدوا حاجتهم إلى المعلومات من معارف هؤلاء ، الأعراب الواسعة ، وذكرياتهم الفنية . وقد عقل إسحاق الموصلي ، وكان دائم الاشتغال بجمع الأخبار القديمة ، عن دعوة أحد الأشراف للغداء ، لأنه

كان في ذلك الوقت يجالس أعرابيا ، ويكتب ما يسمعه منه . وقد ذكر ابن النديم كثيرا من الاعراب ، الذين أفاد العلماء منهم ، في فصله الذي خصصه الغربين في " الفهرست " .

وهكذا وجه علماء القرن الثاني للهجرة غالب دراساتهم مع العرب الخلص إلى جمع الذكريات الشعرية للقبائل المختلفة ، بالإضافة إلى ابحاثهم اللغوية الخالصة . فظهرت " دواوين القبائل " التي تدين بوجودها لهذه الجهود التي وصفناها . وليس من الغريب أن تتعرض هذه المجموعات للانتحال والزيادة الزائفة ، على يد رجال قادرين من أمثال " خلف الأحمر " . فالاستحسان والتشجيع اللذان قابلت بهما الدوائر الرسمية في العهد الأموي هذا النوع من الدراسة - وهو أمر تصوره لنا الأخبار الأدبية الباقية - يجعلنا نعتقد أن البوادر الأولى من هذه الذخائر ، إذا سمحنا لأنفسنا بإطلاق هذا الاسم عليها ، كانت أتسير في طريق التقدم . ومهما يكن من أمر ، فإنه قد روي عن حماد الراوية ، في خبر أطلعنا عليه فلهوزن ، أنه تأهب لمقابلة الخليفة الوليد ، بالنظر في " كتابي قريش وثقيف " لأنه كان يعتقد أن الخليفة سائله عن أشعار القبائل التى هو على صلة بها . ولا بد أن " كتاب بني تميم " الذي وجهت الأنظار إليه في مناسبة سابقة ، قديم جدا . ومع ذلك ، فإن هذه العبارة من شعر بشر ، التى يذكر فيها هذا الكتاب ، إذا كانت تشير حقيقة إلى مجموعة مدونة عن مآثر بني تميم وأشعارها ، تجعل نسبة البيت إلي بشير ابن أبي خازم واهبة الأساس . فليس من المحتمل - بل من المستحيل - أن توجد مثل هذه المجموعة في عصر مبكر كهذا العصر الذي عاش فيه بشر .

وقد ترقت هذه الجهود في الجيل التالي رقيا كبيرا . إذ ساهمت دراسات علماء العصر العباسي اللغوية في النهضة العامة للعلوم ، واستمر اللغويون في جمع دواوين القبائل . على أساس المحاولات الأولى في العصر السابق .

وهناك كتاب يسمي " كتاب أشعار القبائل " كان " يحتوي على عدة قبائل " منسوب إلي خالد بن كلثوم ، ويبدو أن هذا العالم كان يعيش في العصر الأموي . وجُمعت مآثر بني أسد من رواية أسدي ، هو محمد بن عبد الملك الفقعسي ( الذي عاش إلى عصر هارون الرشيد ) ، وظهرت

في " كتاب مأثر بني أسد وأشعارها " . ولعل أبا عبيدة ( المتوفي حوالي ٢٠٧-٢١٠ه ) اتبع نفس الطريق في كتبه عن " غطفان ، والأوس ، والخزرج ، وبني مازن " .

وهناك كتاب آخر لا نعرف مؤلفه هو " كتاب بني تميم من مازن " . وذكر الدار قطني ( المتوفي ٣٨٥ ) كتابا باعتبا " جمع فيه ( المؤلف ) أخبار بني ضبة ، وأخبار شعرائهم " . وحكم أبو القاسم الآمدي ( المتوفي ٣٧٠ ) في كتابه " المؤتلف والمختلف في نسبة بعض الأيات إلي أبي القول الطهوي أو إلي أبي الغول النهشلي ، وأقام حكمه على أنه لأبي الغول الطهوي " في هذا حديث وخبر في كتاب طهبة . . ولم أر له ذكرا في كتاب تمهل " . وبشير الآمدي أيضا إلى " كتاب بني الفين بن الجسر " . ولا نستطيع أن نعلم بقينا زمن جمع هذه الكتب ، من العبارات التي تدين لها بمعرفتنا لوجودها . بل نحن لا نعرف مؤلفيها أيضا . وينسب " الفهرست " مجموعة لشعراء ضبة ونهشل إلى السكري ؛ ولكن ليس من المحتمل أن يطلق على كتاب من قلم هذا المؤلف عبارة " الكتاب العتيق " حد قرن واحد من ظهوره . والواضح أنه ينبغي علينا أن نفهم من هذه العبارة أنهم يريدون كتابا آخر ، أقدم من كتاب السكري وأقل قيمة ، فنفحه السكري وأكمله ، كما فعل هذا اللغوي الدقيق في ديوان الهذلبين ، ودواوين الشعراء الآخرين . ومهما يكن من أمر ، فإننا نري أنه كان في استطاعة لغوي القرن الرابع الهجري الرجوع إلي دواوين القبائل ، كلما أشكل عليهم أمر عند أحد الشعراء . وقد فعل ذلك أبو حاتم السجستاني ( المتوفي حوالي ٢٥٠-٢٥٢ ) ليعرف القراءة الصحيحة لبعض الألفاظ غير الواضحة في الشعر : أعني ، أنه نظر هذه الأبيات في ديوان القبيلة التي يقتمي إليها الشاعر الذي أشكلت ألفاظه .

وأخيرا ، ظهرت أمام الباحثين آثار رجل ، يبدو أنا القمة التي وصلت إليها حركة جمع دواوين القبائل ، ذلك هو أبو عمرو الشبياني ( للتوفي حوالى ٢٠٥-٢١٠ ه ) فيقال إنه جمع دواوين أكثر من ثمانين قبيلة وقد اعتمدت على دراساته جميع آثار هذا اللون من الدراسة التي ألفت بعده . و " أخذ عنه دواوين أشعار القبائل كلها " ويروي أنه رجع إلى جميع ما كتبه المؤلفون قبله . ولم يصل إلى يد العلامة عبد القادر بن عمر البغدادي ( القرن الحادي عشر )

الذي كان يعيش منذ ثلاثمائة سنة فقط ، غير أجزاء وحيدة من هذه الكتب ، وكان تحت تصرفه مكتبة كاملة من عيون الكتب ، يرجع إليها في تأليف كتابه " خزانة الأدب ". ذلك الكتاب الفني يجميع أنواع المعارف ؛ وقد ضاع قسط كبير من هذه المكتبة الآن . ولذلك استطاع عبد القادر أن يأخذ شواهد من شعر أفنون التغلي . من كتاب " أشعار تغلب " لأبي عمرو . ويقول أيضا في أثناء كلامه عن شاعر آخر ، إنه كان يرجع إلى مجموعة أخرى لأشعار " محارب ابن خصفة بن قيس عيلان ( لنفس المؤلف ) ، وهو عندي في نسخة قديمة تاريخ كتابتها في صفر سنة إحدي وتعين ومائتين ، وكاتبها أبو عبد الله الحسين بن أحمد الفزاري ، قال : نقلتها من نسخة أبي الحسين ( صوابه أبي الحسن ) الطوسي ( الملقب " برواوية القبائل " ايضا ) . وقد عرضت على ابن الأعراني " .

بل السكري نفسه ( المتوفي ٢٧١ ) لم يشتغل بإعادة جمع دواوين الشعراء القدماء وحدهم ، بل بأخراج مجموعة كبيرة من دواوين القبائل أيضا . ولم يبق من هذه المجموعة غير جز ، كبير من " ديوان الهذليين " الذي يدين كثير المشاق التي تكبدها هذا اللغوي في سبيله ، ولكن العلماء في ذلك الوقت أخذوا يقتنعون بمجموعات من المختارات من ذلك الأدب الفسيح ، بدلا من الدواوين الكاملة للقبائل . وقد أخلت دواوينه القبلية هذه ، وحماسته المرتبة على المواضيع صورتها عند أبي تمام ( المتوفي ٢٣١ ) في مجموع عنه للسيادة مختارات أشعار القبائل " . ولكننا لم تصل إلينا هذه المجموعات التي اكثر مؤلف خزانة الأدب من الرجوع إليها في شواهده الشعرية .

وشرعت دواوين القبائل تختفي إلي المؤخرة ، مع اختفاء الاهتمام بالحياة القبلية في الصحراء . ولم يعد معظم ما تحفظه القبائل من شعرائها ، وثرويه للغوبين المشفوفين ، يثير من الاهتمام إلا قليلا . وكان هذا الاهتمام القليل مركزا في دائرة ضيقة من أعضاء القبائل المحترمة . في غالب الأحيان . ولم يكن جميع ما تحفظه القبائل من شعرائها من القوة والكمال الشعريين بحيث يرضى الذوق العام ، الذي لا يتحيز لأشخاص معينين . وذلك أخذ مؤلفو المجموعات الشعرية يلتقطون القصائد القديمة التى حازت شهرة عامة بين الجماعات الكبيرة . أو يختارون ما يبدو لهم أنه أهل لأن يصبح تراثا مشتركا للمجتمع الغربي كله ، أو لأن تعتبره الجماعات العظيمة عيونا شعرية ، بغض

النظر عن مصدره القبلي ، لشهرته ، أو لما يرتبط به من أمور تاريخية في الأصل . ولعل قسطا كبيرا من " المفضليات " نفسها ليس إلا مختارات تشمل أجمل قصائد دواوين القبائل المختلفة . بل يحكي أن أبا عمرو الشيباني أخذ عن المفضل الضيء دواوين العرب ، وسمعها عنه " ويجب ان توضع مثل هذه المجموعات ، التى يجمع فيها المختار من أشعار كل قبيلة واختار من دواوين الفحول ، في مقدمة الأسباب التي أدت بهم إلا إهمال دواوين القبائل - وأخيرا إلى نسيانها نسيانا تاما . ولم ينتج من هذا المصير سوى مجموعة واحدة لما أحاطها به رواة الشعر من عناية ، وربما كان ذلك لأن روعتها الشعرية سمت بها إلى مرتبة أعلى من المستوي العام لدواوين القبائل . تلك المجموعة هي " ديوان الهذليين " . وترينا هذه المجموعة ، فها ترينا ، أن دواوين القبائل لم تشمل شعراء العصر الجاهلي وحده . بل امتدت إلي العصر الأموي ، أعني : امتدت إني العصر الذي أخذ فيه هذا النوع من النشاط الأدبى لجمع اشعار القبائل ، في التقدم . ومع انحطاط هذا اللون من الأدب نسيت أسماء الشعراء ، التى كانت تدوي وتجلجل في قبائلها زمنا من الأزمان . واحتفت مؤلفات كانت في يوم من الأيام موضع الإنجاب في مضارب البدو . الذين كانوا يفخرون كل المخر بإعمال رجال عشيرتهم ، ويكثر الاقتباس من هذه المجموعات في كتب النوادر ، تلك الكتب التي وصلت إلينا دون أن تصل الأصول التي استفت منها . وإننا لنري أحيانا في نوادر أبي زيد الأنصاري المطبوع في بيروت منذ سنتين مضا ، أسماء شعراء غير معروفين ، لم نرها في غيرها من المراجع ، هؤلاء الشعراء وشعرهم . مأخوذون من دواوين القبائل .

نحن لا نعرف شيئا آخر عن دواوين القبائل التي كان يجمعها كبار الغويين في القرنين الثاني والثالث الهجربين ، والتي كانت لا تزال توجد نوادر منها منذ ثلاثمامائة سنة مضت ، في نسخ وحيدة نادرة . ولو حصلنا على هذه النسخ لقدمت لنا اكبر العون في إكمال معارفنا عن الحياة الداخلية للقبائل العربية المختلفة . ولكن يبدو أنها اختفت اختفاء نهائيا ، مثلها في ذلك مثل كثير من عيون الأدب العربي القديم الآخري . وان تظهرها إلى الضوء ثانية من اعماق الظلفات في بعض مكتبات الشرق ، سوى لفتة مفاجئة من حسن الحظ ، مثل تلك التى يصادفها بعض أدباء اليوم وعطائه هواة الأدب .

اشترك في نشرتنا البريدية