الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 211الرجوع إلى "الثقافة"

ديوان الزكاة

Share

واستجد ديوانا للزكاة ، وصرفها للفقراء والمساكين واداب البيوت ، القريزى ( كتاب السلوك ج ٢ ، ص ١ " تحت الطبع )

قرأت هذه العبارة فيما قرأت ، بالجزء الثاني من كتاب السلوك للمقريزى ضمن أخبار الأمير تنكز ، وهو الأمير الذي كان نائب السلطنة الملوكية بالشام ، معظم عهد السلطان الناصر محمد بن قلاون . وكان ذلك الجزء من كتاب السلوك مخطوطا ، فمررت بهذه العبارة وعبرتها عبرا غير كريم ؛ فلما جاءتني مطبوعة ، وقد زالت عنها تلك الغشاوة التي يعرفها قراء الكتب المخطوطة ، ألفيتها تشتمل علي خبر يوجب الالتفات ، ويتطلب التحقيق . ذاك أني كنت أظن قضية مسلمة أن الدولة الإسلامية لما دونت الدواوين ، واستعانت في ذلك بما وجدته في فتوحاتها من أنظمة الدولتين الفارسية والبيزنطية ، قد جعلت للزكاة ديوانا ، يضبط جمعها من أرباب الأموال ، ويهيمن على صرفها للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل ( ١) وإن ذلك الديوان كان لا بد موجودا بالدولة الإسلامية في مختلف العصور ، حتى عصر الدولتين المملوكتين الأولى والثانية بمصر والشام علي الاقل ، وأن ليس في اهتمام أمير كالأمير تنكز بأمر الزكاة ما يدعو إلي دهشة أو انتباه .

غير أني لم أجد ديوانا بذلك الاسم بين الدواوين التي نشأت بالدولة الإسلامية حتى القرن الرابع الهجري ، وهي - كما هو معروف - ديوان الجيش ، وديوان النفقات ، وديوان بيت المال ، وديوان المصادرين ، وديوان الرسائل ، وديوان البريد ، وديوان التوقيع ، وديوان الخاتم ، وديوان

الفض ، وديوان الجهبذة ، وديوان البر والصدقات ، وغيرها من الدواوين الفرعية ( ١ )

وربما تبادر للباحث أن في الاسم الأخير من هذه الأسماء ، وهو " ديوان البر والصدقات " كل ما ينشد في أصل ديوان الزكاة ؛ لولا أنه يتضح من المرجعين الذين انفردا بالإشارة إلي هذا الديوان ، أنه لم تكن نمت علاقة بينه وبين الزكاة ومؤديها ومستحقيها . ففي ابن طباطبا انه لما ولي علي بن عبسي الوزارة ، في عهد الخليفة المقتدر العباسي ، فشت صدقاته وميراثه ، ووقف وقوفا كثيرة من ضياع السلطان ، وافرد لها ديوانا سماه ديوان البر ، جعل حاصله لإصلاح الثغور وللحرمين الشريفين ( ١٢) ؛ وهذا الديوان هو الذي اورده ابن مسكوبه باسم ديوان البر والصدقات (2 ). وليس فيما عدا هذا من المراجع الأصلية المعروفة لي أية إشارة - مباشرة أو غير مباشرة - أو أي وصف أو تعريف لهذا الديوان العباسي الأصل .

وعلي هذا يتبين البحث في ميدان غير الميدان السابق للوصول إلي أصل ديوان الزكاة ونشأته والتعريف به . وليس ذلك بالأمر العسير أو البعيد ، إذ يوجد بكتاب المواعظ والاعتبار ، وهو الكتاب المعروف باسم كتاب الخطط ، عبارات يفهم منها ان السلطان صلاح الدين الأيوبي هو الذي انشأ ديوان الزكاة ، ومن هذه العبارات أن صلاح الدين كان أول من جبي الزكاة بمصر ، وانه امر بتفريقها ، سنة ٥٦٧ ه (  ١١٧١ م ) ، على

الفقراء والمساكين وابناء السبيل والغارمين ، بعد ان رفع إلي بيت المال السهام الأربعة ، وهي سهام العاملين والمؤلف قلوبهم وفي سبيل الله وفي الرقاب (1)وكان ذلك عقيب إعلان انتهاء الدولة الفاطمية والمذهب الشيعى من مصر ببضعة اشهر فقط ، ويظهر ان صلاح الدين اراد بصنعه هذا ان يشعر الناس بأن مذهب السنة قد عاد إلي مصر بالعدل والشرع ، والخير والتقوي والنفع العظيم .

ومنذئذ نشأ بمصر ديوان الزكاة ، وقام عليه موظف كبير اسمه متولي الزكاة ، ومعه موظف ثان اسمه شاد الزكاة ، عدا فئة من الكتاب اسمهم الأعوان . وكان الأسعد بن عماني صاحب كتاب قوانين الدواوين ممن تولوا الوظيفة الأولى ، كما كان الطوشي قراقوش المشهور - أو قراقوش غيره - ممن تولوا الوظيفة الثانية سنة ، ٥٨٨ ه ) ١١٩٢ م ( ، وذلك في حياة السلطان صلاح الدين(2)

غير أنه يظهر مما يلي ان لفظ الزكاة قد تطور معناه ومدلوله في مصر منذ ذلك الوقت ، بحيث صار يطلق على كثير مما لم يكن من الزكاة في شيء كثير ، ففي عهد صلاح الدين نفسه فرضت الزكاة على " البضائع " والمسافرين من الحجاج وغيرهم ، ولذا كان اعوان ديوان الزكاة يخرجون كل سنة إلي منية ابن خصيب ( المنيا ) واخميم وقوص وهي المحطات النهرية للطريق التجاري الأعظم في مصر في العصور الوسطى ، فيفحصون هناك عن احوال المسافرين من التجار والحجاج وغيرهم ، فيبحثون عن جميع ما معهم ويدخلون ايديهم في اوساط الرجال خشية ان يكون معهم

مال ، ويحلفون الجميع بالأيمان المحرجة على ما بأيديهم وما عندهم ، غير ما وجدوه . وتقوم طائفة من مردة هذه الأعوان ، وبأيديهم المسال الطوال ذوات الأنصبة ، فيصعدون إلي المراكب ، ويجنون بمسالهم جميع ما فيها من الأحمال والغرائر ، مخافة ان يكون فيها شئ من بضاعة أو مال . فيبالغون في البحث والاستقصاء ، بحيث يقبح ويستشنع فعلهم ، ويقف الحجاج بين يدى هؤلاء الأعوان مواقف خزي ومهانة ، لما يصدر منهم عند تفتيش اوساطهم وغرائر أزوادهم ، ويحل بهم من العسف وسوء العاملة ما لا يوصف (١)

ولقد نال الرحالة ابن جبير الأندلسي من هذه المعاملة لسوء، ما أنطقه بالشكوي في عبارات مريرة حادة الاسلوب ، في أكثر من موضع من كتابه المعروف ، وهو الكتاب الذي دون ( حوادث حجه سنة ٥٧٩ م ) ١١٨٣ م ( كان ذلك في حياة السلطان صلاح الدين . ومن هذه العبارات (2) قول ابن جبير إن تفتيش المسافرين والحجاج كان " برسم الزكاة ، دون مراعاة لمحلها او ما يدرك النصاب بها " وانه لم ينج من ذاك التفتيش فئات ) الغرباء المنقطعين ممن يجب الزكاة له لا عليه . وفي كتاب المواعظ للمقريزي ما يزكى بعض هذين الاتهامين على الأقل ، إذ ورد به أنه لما رجع شمس الدين محمد بن عنين الشاعر إلي مصر من بلاد اليمن ، وكان صاحبها الملك طغتكين أخا صلاح الدين قد أجزل صلته وأغناه ، " قبض ارباب ديوان الزكاة بمصر علي ما قدم به من المتجر ، وطالبوه بزكاة ما معه  ومن ذلك كله يتضح أن الزكاة كانت تؤخذ في

أوائل العصر الأيوبي في مصر ممن لم تجب عليه زكاة شرعا . بل لدينا أيضا ما يدل علي أن المجتمع من الأموال من  هذه الزكاة كان لا يتصرف فيه ، بل يكون في صندوق مودعا للمهمات ، التي يؤمر بها متولي الزكاة(1)

وإذا لم يكن عجبا أن تصبح هذه الزكاة ، وديوانها وموظفوها ، متبع مضايقات لأنواع كثيرة من الناس بمصر في العهد الأيوبي ، وان يقوم السلطان عثمان بن صلاح الدين ) ٥٨٩-٥٩٥-١١٩٣-١١٩٨ م ( بإصلاح جدي في تلك الجهة ، وذلك بأن أمر بتفويض أمر الزكاة " إلي أرباب الأموال ، ومن وجب عليه حق وحمله إلي ديوان الزكاة قبل منه ، ومن لم يحمل لا يتعرض إليه " . غير أن ذلك الإصلاح النبيل لم يأت بثمرة البتة ، إذ يخل الأغنياء بزكاة أموالهم حتى تضرر الفقراء والمساكين وأخذ السعاة في الإلحاح علي السلطان عثمان بوجوب إعادة القديم إلي قدمه ، وبينوا له استعدادهم لولاية الزكاة بطريق الضمان ، كما حدث سابقا فيما يظهر ، وتعهدوا له بدفع المال المقدر لها في ميزانية الدولة مقدما أو على دفعات ؛ فخضع السلطان عثمان لضغط الإلحاح ، وضمت الزكاة بمال معلوم ، وعاد الامر فيها إلي ما كان عليه من العسف والجور ( ٣ )

ويظهر أن هذه الحالة ظلت قائمة بمصر إلي زمن السلطان الكامل محمد بن العادل ) ٦١٥-٦٣٥ ه ، ١٢١٨-١٢٣٨ م ( ، إذ ليس فيما لدينا من المراجع سوي إشارة واحدة إلي تنظيم هذا السلطان لشؤون الزكاة ، وذلك عندما أخرج من زكاة الأموال التي كانت تجيء

من الناس سهمي الفقراء والمساكين ، وامر بصرفهما في مصارفهما الشرعية ، ورتب من جملة هذين السهمين معالم مرتبات ثابتة ( للفقهاء والصلحاء ، وأهل الخير تجري عليهم . وقد استحسن المعاصرون منه هذا الصنيع ) ويظهر انهم سموا ما خصصه السلطان الكامل من زكاة الأموال لهذه الأغراض باسم " مال السهمين " وان تلك التسمية لصقت بهذا النوع من الزكاة مدة عصر المماليك

ثم تطور استعمال لفظ الزكاة من بعد ذلك تطورا ماديا ، وجري المصطلح باستخدامه في دواوين الدولتين المملوكتين للدلالة على أنواع من الضرائب المستحدثة والمكوس . ففي عهد السلطان قطز ) ٦٥٧-٦٥٨ ه . ١٢٥٩-١٢٦٠ م ( فرضت على الآملاك ضريبة سميت باسم " زكاة الآملاك " وقد فرضها هذا السلطان وغيرها من الضرائب للحصول علي المال اللازم للتجهز لدفع جيوش هولاكو المغولي عن الحدود المصرية . ويظهر ان هذه الضريبة لم تكن الوحيدة التي انفردت باتخاذ لفظ الزكاة صفة لها ، إذ المعروف أن السلطان قلاون ( ٦٧٩ ٦٨٩ ه ، ١٢٩٠١٢٧٩ م ) ابطل في أوائل حكمه ضريبة اسمها زكاة الدولة او زكاة الدولية " وقد ورد في تعريفها انها عبارة عما " كان يؤخذ من الرجل عن زكاة ماله أبدا وإن عدم منه ، وإذا مات يؤخذ من ورثته ( ٢٣ )

هذا وقد وصف القلقشندي احوال الزكاة في عصره ، اي القرن الثامن الهجري ( الثالث عشر الميلادي) ، بالآتي : " والذي عليه العمل في زماننا بالديار المصرية ان ارباب

الزكوات المؤدين لها يفرقونها بأنفسهم ، ولم يبق بها بما يؤخذ على صورة الزكاة إلا شيئين : احدهما ما يؤخذ من التجار وغيرهم على ما يدخلون به، إلي البلد من ذهب او فضة ، فإنهم يأخذون على كل مائتي درهم خمسة دراهم ، ثم إذا اشتري بها شيئا وخرج ، وعاد بنظير المبلغ الأول لا يؤخذ منه شئ عليه حتي يجاوز سنة ، إلا انهم انتقصوا سنة ذلك لجعلوها عشرة أشهر ، وخصوه بما إذا لم يزد في المدة المذكورة على أربع مرار ، فإن زاد عليها استأنفواله المدة ؛ ثم إنه إذا كان بالبلد متجر لاحد من تجار الكارم من بهار ونحوه ، وحال عليه الحول بالبلد ، أخذوا عليه الزكاة ايضا ؟ وتجري ذلك جميعه مجري سائر متحصل الإسكندرية في المباشرة وغيرها ، والثاني ما يؤخذ من العداد من مواشي أهل برقة ، من الغنم والإبل عند وصولهم إلي عمل البحيرة بسبب المرعي ، وفي الغالب يقطع لبعض الأمراء ، ويخرج قصادهم لأخذه ( ١ ) وكان يطلق عليه اسم " زكاة العداد( ٢ )

ثم إنه يوجد بالقلقشندي ايضا تعريف واضح لوظيفة شاد الزكاة بدمشق ، ونصه ان " موضوعها التحدث على متجر الكارم(3) ونحوه ، ومن هذا التعريف وجده يتضح أن لفظ الزكاة قد اقتصر معناه في عصر سلاطين المماليك بمصر والشام علي جزء فقط من مدلوله الواسع بل يوجد بالمقريزي ما ينص على أن الزكاة قد صارت تعتبر في عصره ، اي القرن التاسع الهجري ( الخامس عشر الميلادي)، من الأموال الهلالية والمكوس المستحدثة ، مثل مكس المواربت والثغور والمتجر السلطان

وغيرها من المكوس التي يجمعها لفظ الحقوق والمعاملات في مصطلح ذلك العصر . كما يوجد بالمقريزي أيضا خان اسمه خان الزكاة ، وكان هذا الخان فندقا للمسافرين والتجار فقط ، فيما يظهر ( ١ )

أما بعد فأرجو أن يعلم القاريء اني قد كشفت بهذه السطور عن جميع ما بجعبتى من حقائق وفروض بصدد دواوين الزكاة ، وان من تلك الحقائق ما اوردته نصوصا خالصة ، رأيت أن أوردها بحالها ؛ ويقيني أن في كنائن العلماء المعنيين بالتاريخ المصري كثيرا غيرها من الحقائق والأفكار والنصوص ايضا مما يساعد على تجلية هذا الموضوع الكبير إلي حد اوفي وأحمد واقرب للتمام

اشترك في نشرتنا البريدية