لم يترك السيل غير الحبل والوتد
من ذلك الشعب أو من ذلك البلد
إبكوا أيها العرب ثم ابكوا واذرفوا الدموع السخينة على فلسطين العزيزة صباح مساء ويوما بعد يوم وعاما بعد عام ، بل وجيلا بعد جيل ، وليكن لكم فيها مبكي كبكي اليهود الذي استحال أخيرا إلي عرس لعل الزمن بدور دورته بعد مائة أو ألف أو ألفين من السنين فيصبح مبكاكم عرسا ، ويعود اليهود يبكون معبدهم من جديد .
إياكم أن تنقطعوا عن البكاء لحظة ففيه تذكرة لكم ، وإياكم أن تغفل أقلام كتابكم التذكر بالبلد القدس فإن ضياعه من أيديكم ليس هو الضياع إنما الضياع أن تنسوه بقلوبكم ولا تذكروه . وأن لا تذرفوا عليه الدمع كل حين . لقد ضاعت فلسطين من أيدى اليهود منذ ألفين من السنين . ولكنهم لم يفقدوها يوما واحدا لأنها كانت حاضرة في قلوبهم ، في صدورهم . في أحلامهم ، في دموعهم . حتى استرروها ، نعم استردوها بعد ألفين من السنين فلتحبوها أنتم في قلوبكم بكل هذا الإيمان . .
يجب ان تؤلفوا وتنظموا مراثي كمراثي ارميا وأشعياء فالشعر هو أخصب وأخطر وسائل هذا الإحياء الدائم
المستمر وهو الذي تمتد جذوره إلي أعماق النفوس وأغوار الأفئدة . وليقم من بينكم من أجل هذه الغاية عديد من الشعراء وليكن شعرهم هو أحلى ما تتغنون ، صباح مساء وإن شعر هذا الشاعر معين توفيق ليستحق أن يحفظه كل عربي عن ظهر قلب وان تغنيه كل عربية لولدها وتلقنه إياه منذ أن تلقمه ثديها . . إن شعر هذا الشاعر الكفيل ، لو أحله العرب محلة اللائق ، أن نكبة فلسطين إلى أمل وأن ينبت وسط الخراب والتشرد والفافة والبؤس بذور اليوم الموعود ، يوم تعود فلسطين إلى حضن العروبة أمها الرءوم .
اسمعه يقول في هذه النكبة
صور من الإدلال فاغضب أيها الشعب الأسير
فسياطهم كتبت مصايرنا على تلك الظهور
أقرات أم مازلت بكـ يا على الوطن المضاع
الخوف كبل ساعد يك فرحت تجتنب الصراع
وتقول إني قد غرقـ ت وشقت الريح الشراع
يا أيها المدحور في أرض يضج بها الشعاع
أنشد أنا شيد الكفاح وسر بقافلة الجياع
ويقول واصفا مدينة غزة بعد النكبة ؛
البحر يحكي للنجوم حكاية الوطن السجين
والليل كالشحاذ يطرق بالدموع والأنين
أبواب غزة وهي مغلقة على الشعب الحزين
وكأنها قبر تدق عليه أيدي النابشين
إن قصائده : الهاجرون . للدينة المحاصرة . السيل إن هي إلا النجوم التي تلمع في الظلام ليهدي العرب إلى طريق عودتهم لفردوسهم المفقود
أما اللون الآخر الذي يلتمع في الديوان مجانب مراثي فلسطين فهو اللون النقدي ؛ فللشاعر في الديوان رسالتان :
أولاهما التفجع لفلسطين المفقودة ، والثانية البعث أو النهوض بالمجتمع الشرقي . وكنت أحب أن يقصر شعره على الرسالة الأولى فقط لأن الثانية لها كثيرون غيره . أما نكبة فلسطين فهو خير من يعبر عنها ويصور أهوالها تصوير مشاهد لأنه فلسطيني أولا ، ومن غزة ثانية ، وكأنا القدر قد هيأه لهذه الرسالة بالذات منذ أنشأه في غزة ، البلد الذي شاهد الهول ولم تبتلعه أمواجه . . ولما فذيالة الأمل تنتفض في أشعاره من تحت ركام من الأنقاض .
دم سترعش قلب الأرض صرخته
بآثار قد صحت الأموات فانقدي
ولكن الشاعر يأبى إلا أن يؤمن إيمانا قويا جارفا رسالته التقدمية . وأشهد أني لم أقرأ في مثل هذا اللون من الشعر أروع من قصيدته( دقت الساعة) تلك القصيدة التى تعد فجرا ساطعا بل ناقوسا ضخما يدق ليوقظ الشعراء الحالمين اللاهين بأوهام العشق والهيام ، والباكين أوجاع الهجر والصد من معشوقاتهم ، بينما المجتمع حولهم ينزف دماء وعرقا ودموعا تعتصرها أنباب الفقر والمرض والبؤس . الناهشة قلوب الملايين من الضحايا والمساكين .
ها هو يقول : دقت الساعة الرهيبة وانشق عن المارد المخدر ستر أسندته إلي الجدار الأعاصير كسكران نال منه السكر وشظايا الكئوس غائصة فيه كما غاص في حشا الأرض جذر نسمات الصباح يا حلم التائه يمشي والقفر هوك وحمر بللي وجهه وشدي خطاه فطريق الكفاح صعب ووهم ملأن الأشواك وهم والدمع ولكنه المر المر
بهذه الشاعرية المتوقدة والتصميم العنيد يسكب الشاعر على رسالته التقدمية ألوانا شققية من عربة أبولو الرشيقة فتتراءى السهام المسمومة المنطلقة من قلب الشاعر المحنق فاتنة مشعة وكأنها الأفاعي تتلوي تحت أشعة الشمس فتعكس من جلودها أفتن الأضواء .
إن الشاعر معين توفيق رومانتيكي حتى في تقدميه . وهذا ما يجعل شعره أنفذ إلى النفوس من أي شعر سواء في هذا الباب . نعم إن ظلالا غير قليلة من روح الجواهري شاعر العراق وكمال عبد الحليم ترفرف بين ثنايا الآبيات ،
ولكن ضوء الإيمان المندفع بغزارة من قلب الشاعر يملا جوانب القصيد فيحصر تلك الظلال في أضيق الحدود ؛ وهم هذا تظل شخصية الجواهري كما أعتقد مثل الشاعر الأعلى في وضع لواء الشعر بين ألوية القيادة في كفاح الشعوب إن لم يكن أهم ألويتها ، وسيطرب الجواهري بلا شك لشيله المتحفز والمفعم قلبه بأضخم الآمال .
ولنختم هذه الكلمة العابرة بأبيات للشاعر من قصيدته الفذة "دقت الساعة" التي أشرنا إليها : أيها الشرق كان ظلك في الأرض سحابا يمر ما فيه قطر تشرب اليوم من جداولك الخضر وتروي وليس يرويك بئر أورثوك القيود عن سم مات فأشفاك في حياتك قبر هم لصوص التاريخ كم سرقوا منه شعوبا مصوا دماها وفروا
وهم المالثون أرض أمانيك ظلاما يضل فيه الفجر
غير أن الحياة أقوي من المو ت ولن يهزم الحياة القبر
هي كالبحر مدها الأمل الها در طول السنين واليأس جزر
يكشف الصخر حين يرجع بالمو ت ولكن ينجي الغريق الصخر
وختاما أقول للشاعر معين أجدت . ولكنك بهذا قد ولجت بحر الآلام . وإن شبابك الغض سيتلوى تحت ضربات المطارق الحديدية ، وسوف تفزع صرخات الزبانية طبور فيرك المغرد ، وقد لا يحتمل جسدك النحيل الصراع ، فتخر بساطة كبلبل في روضة ، ولكن لا عليك ، فها أنا أسمعك تقول من قصيدة المعركة : -
فإذا سقطنا يا رفيقي في جحيم المعركة .
فانظر تجد علماً يرفرف فوقي نار المعركة
مازال يحمله رفاقك يا رفيق المعركة .
ولكنك ما تزال في ابتداء المعركة . ولسوف ترى خلالها قدرتك على الصمود في النضال ونأمل أن يكون الختام رائعا كالبدء . على أني أنصحك أن لا تغفل الشعر العربي القديم ، بل يجب أن توجه إليه اهتماما كبيرا حتى ترفد جداولك بتلك الأساليب البارعة التي بلغت القمة عند بعض الشعراء الأقدمين ، وحتى يكون تجديدنا عن استيعاب ويمكن لا عن قصور وابتسار ؛ هذا مع أن الشعر العربي قد وثب في نصف القرن الأخير وثبة فاقت كل ما سجله في تاريخه الحافل من وثبات .
( القاهرة)
