الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 932الرجوع إلى "الرسالة"

ديوان علي بن الجهم، جمع وتحقيق العلامة خليل مردم بك

Share

تفضل صاحب المعالي شاعر الشام الأستاذ الجليل خليل مردم  بك سكرتير المجمع اللغوي بدمشق فأهدى إليَّ نسخة من ديوان  علي بن الجهم الذي بذل جهدا مشكوراً في جمعه وشرحه وتحقيقه،  ونسخة أخرى من ديوان الشاعر السوري الرقيق الملقب    (بالوأواء الدمشقي)  الذي قام بتحقيقه والتعليق عليه الدكتور  الفاضل سامي الدهان وكلا الديوانين كان آية في إناقة الطبع

ودقة الشرح. . وقد صرفت - رغم مشاكلي - وقتاً غير  قصير حتى قتلتهما دراسة وتمحيصاً، ويسرني أن أقدم هذه  الكلمة المتواضعة رأي في الديوان الأول لقراء الرسالة الغراء  هنا وهناك، على أن أعود إلى الديوان الآخر في فرصة أخرى. يقع ديوان على بن الجهم في ٢٢٣ صفحة من القطع الكبير  وتقع الدراسة التي كتبها الأستاذ مردم بك عن الشاعر في ٤٧  صفحة. وهي دراسة شاملة جامعة، تطرق فيها الشارح إلى عصر  الشاعر ونشأته وشعره، ودراسته والظروف التي أحاطت به حتى  مقتله ووفاته. وليس لي اعتراض على كل ما قاله الأستاذ مردم بك،  إلا إن الذي لفت نظري في هذه الدراسة الرواية التالية. .

قال الشارح في الصفحة   (٥)  من المقدمة (ولما بلغ السن  التي يذهب بها الصغار إلى الكتاب، بدأ يذهب كل يوم من  داره في شارع   (دجيل)  ببغداد إلى كتاب في الحي يجمع بين  صغار الصبيان والبنات. وكان علي حسن الوجه ذكي الفؤاد كثير  النشاط. ظهرت عليه مخايل النجاية منذ طفولته، فكان يسعر  البيت وثباً وقفزاً ولعباً وضجيجاً، حتى أقلق والده بضوضائه  وجلبته، فسأل أبوه معلم الكتاب يوماً أن يحبسه في الكتاب،

فلما رأى رفاقه ينصرفون إلى دورهم وهو محبوس ضاق  صدره فأخذ لوحته وكتب فيها إلى أمه

يا أمتا أفديك من أم ... أشكو إليك فظاظة   (الجهم)

قد سرح الصبيان كلهمو ... وبقيت محصوراً بلا جرم

وبعث باللوح إليها مع رفيق له من الصبيان، قال على   (وهو  أول شعر قلته وبعثت به إلى أمي، فأرسلت إلي أبي: والله لئن لم  تطلقه لأخرجن حاسرة حتى أطلقه) . ومن حوادثه في الكتاب أن أخذ لوحته يوماً وكتب فيه إلى  بنت صغيرة كانت معه

ماذا تقولين فيمن شفه سهر ... من جهد حبك حتى صار حيرانا

وأن البنت الصغيرة أخذت وكتبت تجيبه.

إذا رأينا محباً قد أضر به ... جهد الصبابة أوليناه إحسانا

وهكذا بدأ يقول الشعر وهو صغير جداً ولعله كان دون  عشر سنوات من عمره.

فهذه الرواية التي يوردها الأستاذ مردم بك نقلاً عن طبقات  الشعراء لابن المعتز والأغاني ومختصر طبقات الحنابلة أشك في  صحتها بالرغم من المصادر التاريخية التي أعتمد عليها الشارح، وشكي  يقع على سن الشاعر حين نظمه الأبيات المتقدمة، وهي العشر  سنوات إذ أن من المحال أن يستطيع طفل دون البلوغ أن  يقول شعراً ومنظوماً موزوناً فيه معنى بصياغة عالية. . ومهما يكن  ذلك الطفل ذكياً فلا يتسنى له الإجادة في تلك السن المبكرة، لأن الشعر موهبة وصنعة تحتاج إلى حذق ومران. ولدي شواهد  كثيرة من أن فحول الشعراء ما نظموا الشعر الجيد قبل العشرين  أبداً. . وقبل الاطلاع على نفائس الشعر القديم وحفظه، لأن  حفظ الشعر الجيد يربي الملكة ويقوي القابلية ويعصم الناظم من  الاختلاف في وزن الشعر، وقد كنت أود أن معالي الأستاذ  حين إيراده هذه الرواية أن يعلق عليها بالشك ورغم ورودها في  المصادر الآنفة الذكر.

ولا أظن أن هذا الاعتراض البسيط يحط من قيمة الديوان

أو من الجهد الجبار الذي بذله الشارح حين مراجعته لعشرات  الكتب لتحقيق بيت أو كلمة، فهو جهد يستحق عليه كل  تقدير وإجلال. كما أنني معه عند شكه في نسبة القصيدة المنشورة  في صفحة ٤٨ من الديوان والتي مطلعها.

سل الدمع عن عيني جسدي المضني

... وهل لقيت عيناي بعدكمو غمضا

إلى علي بن الجهم عن أسلوبه ونفسه وخصوصاً لما  فيها من ذكر القيروان كما جاء:

وإني أرى بالقيروان أحبتي ...

وأعتاض من ضنك منيت به خفضا

ومدحه لأبي مروان

بجبل أبي مروان أعلقت عروتي ... وحسبي إعلاقى صريح العلا محض

ولاشك مثله أنها موضوعة عن لسانه لأن القارئ لا يشعر  فيها بالعاطفية الجياشة التي يشعر بها عادة عند قراءته شعر بن الجهم  وخصوصا قوله فيها

أقول وقد عيل اصطباري من النوى ... وأصبح دمع العين للشوق مرفضا

كما قال قيس حين ضاق من الهوى ... فلم يستطيع في الحب بسطا ولا قبضا

(كأن بلاد الله حلقة خاتم ... على فما تزداد طولاً ولا عرضا)

فهذا شعر صناعة، وهو أشبه ما يكون بشعر شعراء الفترة  المظلمة كما أنني مثله في أن القطعة الأخيرة المنشورة في صفحة    (١٩٦)  للجاحظ لا لعلي بن جهم وها هي

يا نورة الهجر جلوت الصفا ... لما بدت لي ليفة الصد

يا مئزر الأسقام حتى متى ... تنقع في حوض من الجهد

أوقد أتون الوصل لي مرة ... منك بز نبيل من الود

غالبين قد أوقد حمامه ... قد هاج قلبي مسلخ الوجد

أفسد خطمي الصفا والهوى ... نخالة الناقض للعهد

وهو أشبه ما يكون بشعر أصحاب الحمامات منه بشعر شاعر

له منزلة عالية لدى الملوك كعلي بن الجهم.

هذه كلمة بسيطة أكتبها عن هذا الديوان الذي لولا جهود  مردم بك لم يحظ قراء العربية به. إذ أن شعر أبن الجهم لم يجمع  قبل الآن؛ ولولا الأستاذ خليل ما أتيح له أن يكون بين أيدينا،  وخصوصاً وأن أكثر قراء العربية لم يقرأوا من شعره إلا بعض  الأبيات منشورة في بطون الكتب، ومنها القصيدة المشهورة الملحقة  بآخر الديوان والتي مطلعها:

عيون المها بين الرصافة والجسر ...جلبن الهوى من حيث أدري وأدري

أعدن لي الشوق القديم ولم أكن ... سلوت ولكن زدن جمراً على جمر

وهي قصيدة عابرة يذكرني أسلوبها القصصي الممتع بأسلوب  عمر بن أبي ربيعة في أقاصيصه الشعرية، ولعله نظمها تأثراً به حيث يقول

وما أنس م الأشياء لا أنس قولها ... لجارتها: ما أولع الحب بالحر

فقالت لها الأخرى فما لصديقنا ... معنى وهل في قتله لك من عذر

الخ الحديث بينه وبين صاحبته وجارتها حتى يتخلص منها  إلى مدح المتوكل

ولكن إحسان الخليفة جعفر ... دعاني إلي ما قلت فيه من الشعر

هذا ما عناني كتابته عن هذا الديوان شاكر للعلامة مردم بك  هديته الغالية، ومقدراً الجهود التي يبذلها أعضاء المجمع العلمي العربي  في سبيل إحياء التراث العربي، وعاتباً أشد العتب على صديقى  الأستاذ الكبير محمد بهجت الأثري سكرتير المجمع العلمي العراقي  على الكسل الذي لازمه ولازم أعضاءه، فالمجمع وقد مرت على  تأسيسه لم يحقق ولم يطبع كتاباً يستحق الذكر، مع أن  ميزانيته لا تقل عن أي مجمع عربي آخر، والذنب في كل ذلك  يعود إلى الانتخاب الخاطئ الذي جرى بين أعضائه.

بغداد

عبد القادر رشيد الناصري

اشترك في نشرتنا البريدية