الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 282الرجوع إلى "الثقافة"

ذات مساء، مجموعة قصص للأستاذ صلاح ذهني

Share

تبوأت القصة القصيرة في عالم الفكر الحديث مكانة مرموقة ، وصارت عنصرا من عناصر الأدب العربي ، بعد أن كانت منذ عشرات قليلة من السنين لا يؤبه لها ولا يعتد بها . ولعلنا لا نجانب الحق إذا قلنا إننا نتفاءل بمستقبل القصة لما يبدو من اطراد رقيها على أقلام المجددين من أدباء الشباب ؛ ولكن هذا التفاؤل لا ينفي ما نلاحظه فيما تطالعنا به الصحف والمجلات من وفرة الأقاصيص التي تعد من الغث الرخيص . ومرجع هذا إلي أن كثيرا من ناشئة القصاصين يقبلون علي كتابة الأقاصيص ظنا منهم أن طريقها جد ميسور ، وعزب عن بالهم أن الأقصوصة عمل فني يقتضي دقة ومهارة ، ويتطلب ثقافة قصصية واسعة ، وتفهما لعناصر هذا الفن ، فضلا عن المرانة واليقظة والمراس الدائب . وأظهر ما يتبين من العيوب الشائعة بين هذه الفئة من ناشئة القصاصين أنهم لا يجشمون أنفسهم عناء التفرقة بين الأقصوصة والقصة ، ولا يبالون أهم مميزات الأقصوصة ، وهي أنها تعالج جانبا من حياة لا حياة كاملة ، وأنها ليست إلا لمحة أو خاطرة أو إلمامة ، بشرط أن تستوفي في دائرتها القصيرة أصول الفن من تركيز وتحليل . والوقع أننا لا نقرأ في العدد الجم من الأقاصيص التي يتعجل بها الناشئة مواهبهم وكفاياتهم إلا ملخصات يعولون فيها على السرد المقتضب ، دون التحليل النفسي والمعالجة الفنية . على أننا لا ننكر أن رهطا من شباب الأدب لم يفتهم التزود من ثقافة الفن ، متابعين الدراسة والإطلاع ، مسابرين خطوات الفكر الحديث في نتاجه

المتجدد ، وبذلك لم يعجزهم تفهم روح الأقصوصة ، فعالجوا موضوعاتهم على نحو يشرح صدور الذين يرجون ان تينع ثمار أدبنا العصري ، وأن تأخذ طريقها إلى السوق العالمي .

ومن هذا الرهط المتميز صديقنا الأستاذ صلاح الدين ذهني . وليس اسمه بطاريء على الميدان القصصي ، فقد اصدر عدة مجموعات لها دلالتها على الإجادة والتوثب . وكل مجموعة يصدرها يخطو بها إلي الإمام منزلة ؛ والمجموعة التي بين أيدينا الآن المسماة : " ذات مساء " جديرة أن تحتل مكانة كريمة من ادبنا الحديث . ومن مميزاتها أن للمؤلف فيها اسلوبا مطبوعا بطابعه ، وتفرده عن بقية الكتاب فيما يصطنعون من اساليب ، وآية الصدق فيه انه يمثل حديث المؤلف في مجالسه ، مع ملاحظة الصياغة الفنية التي تستدعيها الكتابة . وفي هذا الأسلوب يتتابع إيقاع الكلمات والجمل في موسيقية تلذ السمع ، وتبعث الطرب .

والمؤلف في تصوير أبطاله رسام حذق ، قوي الإبانة على الرغم من قلة الأوصاف والنعوت ؛ فهو يوجز ولكنه يطوي في هذا الإيجاز سر قوته ، فسرعان ما تنبض الصور بالحياة وتشعرك بوجودها طريفة أخاذة .

وللمؤلف عناية ظاهرة باستخدام التحليل النفسي لحياة الأبطال ، والتزام المنطق السليم في عرض الحوادث ، ولذلك تخلو أقاصيصه من التنافر بين أجزائها ؛ فالقارئ يتابع الأقصوصة دون أن يحس أي افتعال وتكلف ، حتى يبلغ النهاية الطبيعية في سلاسة وهوادة وصدق فن .

وفي تضاعيف الأقاصيص جميعا تسري روح من الدعابة والمرح تستهوي القارئ ، وتشيع الغبطة بين جوانحه . وقد وفق المؤلف في جعل أقاصيصه محتوية على عنصر الفن وعنصر التسلية والتشويق معا ؛ إذ ألف بينهما تأليفا لبقا. فالقارئ الجاد يصيب غذاءه الفكري الطيب ، والقارئ

المتلهي يرتشف متعته المهذبة المحببة .

وربما يبدو لغير المتعمق أن ليس لأقاصيص هذه المجموعة مرام خلقية ملموسة ، وأهداف اجتماعية واضحة ، فيأخذ على المؤلف أنه أغفل ذلك الجانب . والواقع أن هذه المؤاخذة الموهومة إنما هي ميزة خليقة بالتقدير ، فإن المتعمق المتفهم يستخلص لنفسه من تلك الأقاصيص أهدافا ومرامي لها صلتها الوثقى بالأخلاق والاجتماع ، بيد أنها تنكبت الطريق المباشر ، وتغلغلت في ثنايا الموضوع ، وتراءت وراء الأحداث والصور .

والرجاء أن نلقى المؤلف في مجموعاته المقبلة تدعمه دائما تلك الثقافة المتجددة التي يغترف من مناهلها العذاب ، فيتنامى في مدارج الكمال الفني الذي لا حد له ولا منتهى .

اشترك في نشرتنا البريدية