. . . ودار الفلك دورته ، فاذا بنا أمام الذكرى الرابعة عشرة لوفاة سعد ، وإذا المصرى قائم على تمجيد الذكرى ، وتحية الزعيم الخالد فى مضجعه تحية
الاخلاص والوفاء والتقدير . وكأن أربعة عشر عاما لم تفصل بيننا وبين ذلك اليوم العصيب الذى ارتحل فيه سعد إلى عالم الخلد ودار الاقامة . على أن الفاصل الزمنى إن كان قد جفف الدموع التى سكبناها يوم منعاه ، وأنضب ماء الشئون التى سالت عقب الوفاة ، وأزال معالم الأحزان ومظاهرها ، إلا أنه قد أنضح فى الأمة شعورا قويا أساسه عرفان الجميل ، وقوامه الوفاء ، وآيته حسن التقدير .
وقد جرت الأمة المصرية على أن تصوغ من كل ذلك فى مثل هذا اليوم باقة تهديها إلى زعيمها الخالد حين تحج إلى ضريحه مبايعة له على أن تترسم خطواته ، وتقتفى آثاره ، وتمشى فى سبيله إلى النهاية ، حتى تتم ما بدأه وتكمله .
كأن فى طيات هذا اليوم شرارة إذا لامست شعور الشعب المصرى فجرت منه ينابيع فياضة من الحزن الصامت العميق ، الحزن الذى يحرك العقل أ كثر مما يحرك العاطفة ، الحزن الذى يبعث النفوس إلى استذكار عظمة الزعيم وتضحية الزعيم وجهاد الزعيم ، الحزن الذى
يثير فى البلاد من أقصاها إلى أقصاها روح الوفاء للذى كرس حياته لمصر ، الحزن الذى يصفى النفوس ويصقلها ، حتى تستشف مجد هذه العظمة التى أضاءت لمصر فى الحياة ، وحركتها بعد الممات ، وبقيت لها شعلة دائمة الاتقاد ، منها تقتبس وبنورها تستضئ ، وتجد على نارها الهدى كلما أظلم الجو .
ولعل الحياة التى يبعثها الزعيم العظيم بعد وفاته فى نفوس الشعب أقوى أثرا وأبعد غورا من تلك التى كان يستمدها الشعب منه حيا :
وكانت فى حياتك لى عظات وأنت اليوم أوعظ منك حيا
فكلما امتد بنا الزمن ، وقدم العهد ، تهيأت لنا الأسباب لمواجهة مجد سعد والتحديق فى النور الذى كان يشع منه حيا . أوليس العظيم شمعا مضيئة ، ترسل نورها وتسلط شعاعها على جميع الأرجاء ؟ ومن ذا الذى يستطيع أن يحدق فى الشمس وهى طالعة ، أو أن يواجهها وهى فى كبد السماء بازغة ؟ إنما نستطيع النظر إليها ومواجهتها إذا تحولت عنا ، وقامت الحوائل بين أعيننا وبين أشعتها .
كذلك الموت ينزل بالعظيم فتتحول شمسه ولا تأفل ، وباقى الموت دون نوره وناره ستارا شغافا يطل منه الأحياء ، على الكوكب الذى كان يلمع ويضئ ، فينشر النور ، ويوزع الضوء ويبعث الحرارة .
وكذلك كان سعد بيننا - قريبا بعيدا - كنا بقربه نحس بجذوة البطولة والمجد والعظمة تتقد وتلمع ، فتلتمس من حرارتها ، ونقتبس من سناها ، ونمشى فى هداها ، دون أن نستطيع تحديقا فى مبعث النور والضوء . أما اليوم فقد غطته ملاءة الموت البيضاء ، فحجبت الهيولى ولكنها نشرت الضياء ، ووزعت النور ، وأصبحنا نستطيع أن نراه دون أن نلقاه ، وأن نتصوره دون أن تبصره ، وأن ندرس عظمته ونحللها ، وأن نتبع خطوات الأزهرى الثائر فى صحن الأزهر فى الثلث الأخير من
القرن الماضى ، والسياسى الثائر لحق بلاده فى بيت الأمة فى الثلث الاول من القرن الحاضر . نعم تستطيع العين اليوم أن ترمى بأشعتها إلى مدى يتسع لأن يجمع بين أطراف حياة سعد طالبا فمحاميا فقاضيا فوزيرا فنائبا فزعيما خضع الكل لزعامته ، وسلم الجميع له القياد .
نستطيع اليوم أن ننتقل بين مختلف درجات هذا السلم الذى رقاه سعد من بدايته حتى وصل إلى نهايته ليرى الشباب كيف صعد درجاته ووصل إلى القمة ، ويستعرضوا العقبات التى واجهته ، وكيف نازلها وتغلب عليها . بل ليفهم الشباب والشيوخ الزعامة التى عقد لسعد لواؤها ، ويقفوا على أسرار تلك البطولة الملهمة ، ويحللوا تلك الشخصية الساحرة الأخاذة ، ويحيطوا بطرف من سيرة المجاهد الأول فى سبيل استقلال البلاد ، كيف وضع للجهاد حجر الأساس ، وكيف أقامه ورفع بناءه ودعمه ، ويستحضروا أسرار تلك الروح التى جمعت إلى فتوة الشباب حكمة الشيوخ ، تلك الروح التى استبقت شعلة الشباب وجذوته متقدة مشتعلة حتى الممات ، تلك الروح التى أملت عليه الصلابة فى الحق ، وإباء الضيم ، وإنكار الذات ، تلك الروح التى كانت ترتفع وتسمو به دائما إلى مستوى الخطر ، فيعلو عليه ، ويغالبه ويغلبه ، ويخرج من ميدان الجهاد منصورا .
تلك الروح التى استوقفت التاريخ ، فأملت عليه كثيرا من المشاهد الخالدة ، فكانت حياته جزءا من التاريخ .
ولعل أكثر ما يساعد على دراسة شخصية سعد دراسة علمية تاريخية - أن الشهوات والأحقاد التى ثارت حوله قد خمدت جذوتها وأصبحت رمادا . وأن كثيرا من الذين نازلهم ونازلوه ، وساجلهم وساجلوه ، قد مضوا إلى جوار ربهم ، فأصبحوا معه ملكا للتاريخ . وأن قضية الاستقلال التى أقامته الأمة محاميا فيها ، قد
اجتازت بمعاهدة التحالف مرحلة كبيرة من مراحلها .
وليست دراسة حياة سعد دراسة لحياة زعيم اختص به حزب من الأحزاب ، بل هى حياة رجل وهب نفسه للأمة قاطبة ، وعاش ومات لها وفى سبيلها .
وكلما انقضى الزمن أحسسنا بالحاجة الماسة إلى هذه الدراسة ؛ فكثير من أبنائنا فى المدارس اليوم لم يشهدوا سعدا ، ولم تمسهم الشعلة التى مست إخوانهم الذين استمعوا لسحر بيانه . وحياة العظيم حياة كلها وحى وإلهام وتوجيه ؛ فمن حق أبناء الجيل الحاضر علينا أن نأخذ بأسباب هذه الدراسة من الآن ، وأن نجمع لها المواد التى تعين على ذلك .
هذا بعض ما يجب علينا نحو ذكراه ، بل هذا بعض ما يجب علينا نحو أنفسنا وأبنائنا ، وإذا كنا نبحث فى التراب والرمال عن كنوز مصر القديمة التى غطتها الرمال فضاعت فى ثناياها ، فها هو كنز من كنوز مصر الحديثة لا يزال مشهودا ، وعلم من أعلامها لا يزال منشورا ؛ فلنبادر إلى القيام عليه والإفادة منه ، فهو جزء من تراثنا القومى ؛ فلنكن له حافظين ، ولنعكف عليه دارسين . وذكر فان الذكرى تنفع المؤمنين
