القصة المصرية تسير بل تركض. . . فمذ أطلت برأسها علينا فى (حديث عيسى بن هشام) للمويلحى تخفى وجهها بخمار عربى من وشى أنامل تذكرنا بنسيجها الأول فى (مقامات الحريري) و (بديع الزمان) ، إلى أن أسفرت عن وجهها مصرية من غير نقاب فى (زينب) لهيكل ، إلى أن صلب عودها واستفاضت بشرتها بحمرة مياه النيل فى قصص محمود تيمور، وقبل ذلك فى أقاصيص شقيقه محمد، إلى ما لم تدخره حافظتى من أسماء قصاصين من أدباء مصر والشرق العربى أبوا إلا أن يغامروا بأقلامهم فى معالجة هذا اللون الجديد من الأدب العربى .
منذ ذلك الحين والقصة المصرية توالينا بنتاج لا ينقطع، وكأنها تأبى إلا أن تكون شغل الأدب والنقد في هذه الأيام القصة المصرية صبية جامحة تياهة مزهوة فهي لا تعرف فضيلة التواضع، تتحدث بصوت جهير كلما ملكتها شهوة الكلام، ولا ندري فعل التفكير والمراجعة وأثر التحري والاستجمام في إتيان الوثبة الواسعة؛ وما هذا بالأمر المستغرب لأنه يرجع إلى طبيعة الشيء. وكأني بالأديب المصري اليوم، وقد استشعر ماهية شخصيته بتأثير النضال الاستقلالي وبعوامل النزاع القومي وبما يعمر رأسه من أصداء الأدب الغربى وفى مقدمتها القصة . كأنى به أصبح لا يرتاح إلى لإفصاح عن خلجات نفسه والشكاية من هصره إلا عن طريق التدخل فى أديم شخصيات يبتدعها خياله بعد أن ينتزع معينها من البيئة التى يعيش فيها ، فيسجل ببراعة دقائق هذه الشخصيات فى سرد قصصى يطريه الحوار وتغلفه أجواء تفيض بالصبغة المصرية المحلية، وتتمشى فيها أعراق من الإنسانية العامة . وأغلب الظن أن القصة المصرية أصبحت المجال الذى يعمل فيه الأديب المصري اليوم لاستخلاص (المصرية) ولاستكمال مقومات أدب حديث ؛ وهى مظهر من مظاهر تحررنا من أساليب الأدب العربى القديم بعد أن غمرتنا أمواج ثقافة غربية جديدة ، وطالعتنا أحداث الزمن بما جعلنا ننفر إلى الجهاد فى سبيل حياة مستقلة
ومهما حاول النقد مخلصاً أن ينال من القصة المصرية بإخراج أكثر نتاجها من دائرة الفن الرفيع فلن يستلبها بهاء الشباب وروعة الفتوة. وإذا لم نجد فيها - وأعنى أكثريتها - عمق التفكير وجزالة الطبع القوى وصدق التحليل النفسى الذى يحس به ولا يلمس، وطرافة المعالجة، فحسبنا أنفاس عطرة دافئة تهب علينا من بين سطورها ، هى أنفاس مؤلفيها، وهو أدباء يحاولون أن يدخلوا لوناً جديداً على الأدب العربى وأن ينشئوا أدباً قوياً أكتب هذا وأمامى مجموعة أصدرها الأديب الشاب (صلاح الدين ذهنى) باسم (رئيس التحرير وقصص أخرى) ، وهى مجموعة تقف بجدارة إلى جانب أحسن ما أخرجته أقلام القصاصين الحديثين من المصريين. ولعل أبين ما تمتاز به أنها
جاءت فى أسلوب يتسامى بجزالته عن مثيله فيما قرأت من قصص الناشئين من القصاصين إلا أن الجزالة فى اللفظ والفصاحة ليست كل شيء فى الأسلوب، وهو من معانى القصة قوالبها وأداة معالجتها . والحكم على طرافة القصة ومنزلتها من الأدب الرفيع لا يكون العمدة فيه موضوعها ، بل أسلوب معالجة هذا الموضوع . وما ترك الأول للآخر فكرة أو موضوعاً لم يعالجه أو يشر إليه ؛ فقد يحدث أن يعالج الموضوع الواحد عدد كبير من الكتاب، ولكن التفوق والخلود لا يكتبان إلا لواحد منهم ، وهو من يكون قد حذق معالجة هذا الموضوع وبرع فيه
والمعالجة الطريفة لموضوع القصة تكون فى حبكتها الشيقة وإنزالها فى القالب الذي تخرج منه منسقة الحوادث من غير عنت، متينة البناء فى غير افتعال، متزنة محكمة الأسلوب، تومئ وتفصح، وتقطر وتفيض. وحظ القصص التى بين يدي مما ذكرت غير متجانس ، فبعضها يأخذ سمت المعالجة الطريفة فى خطو وئيد، والبعض الآخر يتعثر فى نواحى من نواحيه، إلا أنها عثرات سرعان ما تقال. ويبدو هذا فى القصة الأولى من المجموعة وعنوانها (حسنة) ، فى حين أن قصة (رئيس التحرير) تعد أنموذجاً لحذق كاتبها من حيث معالجة الموضوع وخصب البيان. وحسبنا من المؤلف أن يصيب مرة ويخطئ مرات، وهو في الحالتين لا يألو جهداً في أن ينزع نحو الكمال الفني المنشود و (رئيس التحرير) قصة فكهة (كاريكاتورية) الأشخاص والأسلوب. وأبين ما تبين عنه هذه القصة نزعة ساخرة يفيض بها قلم كاتبها، وهي نزعة يخالطها الأسى وتمازجها الشكاية فى قصة (مذكرات فنان) حيث نرى المؤلف متبرماً بمجتمعه متململاً بما شاع فيه من التطاول والإدعاء ؛ ينقد عن ملاحظة دقيقة أوضاعه المقلوبة ، مما يدل على أن (صلاح الدين) على حس مرهف وعين بصيرة بحقائق الأشياء وتفاريق الألوان فى مجتمعه، فهو يرى ويشعر ويحيا ويتألم ويسخر ويصخب، وشأنه فى هذا شأن صفوة الشباب المعذب فى هذا الجيل، ولعل هذه القصة أحسن ما تكشف عن نفسية المؤلف
شأن يذكر، وأحسن ما جاء فى قصصه تلك الصبغة الريفية التى تطالع القارئ فيحس بريح القرية ملء أنفه وبهدوئها يشمل أعصابه وللمؤلف جولات أخرى فى موضوعات الحياة التى تتصل ببيئته، فهو تارة تراه متدخلاً في زوايا البيوت، وأخرى متغلغلاً فى طوايا السرائر؛ وهو فى معالجة هذه الموضوعات يركض ويتباطأ، ويهبط ويصعد، ويستقيم ويلتوى ؛ ولكنه يريد دائماً أن يذهب بعيداً ليستقر فى آفاق طريفة من التأمل والتفكير، وهو فيما يريد أن يذهب إليه يصيب مرة ويخيب أخرى، وهو فى خيبته غير مهزوم

