مضى تاجور شاعر الهند العظيم وحكيمها النادر المثال بعد أن تعقبه المرض فى الأشهر الأخيرة ، واشتدت به وطأة العلة . ومثل تاجور لا يجمل أن يغيب شخصه عن عالم الثقافة ومسرح الحياة ، دون أن يشبع بكلمات الوداع ، ويذكر بكبير التقدير وعميق الاعجاب . ولم يكن تاجور حجة الهند وحدها ، وعلما من أعلام الشرق فحسب ؛ وإنما كان مفخرة من مفاخر الانسانية فى كل العصور ؛ وقد مات بعد عمر مديد ، وحياة حافلة ، ولكن اختفاءه فى هذه الأيام الحالكة الناصبة ، والحاجة ماسة إلى أمثاله ، مما يثير الأسف ويضاعف الخسارة .
وقد اجتذب تاجور الأنظار بمثاليته العالية وعبقريته السامية ، ورحابة أفقه وإخلاص سريرته . وأشعاره التى ترجمها عن البنغالية إلى الانجليزية ، تعد من آيات الأدب الانجليزى وروائع الشعرى العصرى ، وقد منح من أجلها جائزة نوبل ؛ وقد رفع هذا الرجل مكانة أمته ، وأبعد صوتها ، وأ كسبها عطف الكثيرين .
ولتاجور جوانبه المتعددة التى يصعب الاحاطة بها وإبقاؤها حقها ؛ فهو شاعر الغناء ، وشاعر الطبيعة ، وشاعر القومية والتضحية ؛ وهو روائى ممتاز ، وقاص بارع ، وناقد نافذ النظرات ، وفيلسوف بعيد التأملات ؛ وأدبه فى تنوعه وكثرته يقدم لنا نقدا شاملا للحياة المصرية واتجاهات الفكر الحديث ، تضيئه لمعات من تعاليم الاوبانيشاد ، وتشرق فيه أضواء الرؤى المقدسة . وقد كان تاجور موسيقيا مجيدا ، وعالج فى السنوات
الأخيرة التصوير ، فارسترعت صوره الأنظار ، وحازت التقدير ؛ ولم يترفع عن الانغماس فى تيار الحياة العملية ، فجاهد فى حركة بلاده القومية ، واضطره ولاؤه لوطنه إلى أن يرد اللقب الذى منحه إياه الانجليز ، ومجهوده فى رفع مستوى التربية والأخلاق معروف ؛ وطالما نعى تاجور على الحضارة الراهنة نزعتها المادية ، واستعبادها للآلة ، واندفاعها فى سبيل القومية الطائشة ؛ وكان فى طليعة الداعين إلى السلام والروحية ، والعاملين على إيجاد "العقلية الدولية " ، التى تستطيع أن تجنب العالم ويلات الحرب وفواجع الخراب والتدمير .
والإنسان فى رأى تاجور كائن خالد يجمع فى نفسه بين الروح والطبيعة ؛ فهو ابن الأرض ووارث السماء . والانسان من حيث هو حلقة من الحلقات فى سلسلة الحوادث الطبيعية ، خاضع لقانون الضرورة ، ولكنه حر من حيث هو متصل بعالم اللانهائى ؛ وهذا هو مصدر التناقض الذى يصادفنا فى الحياة والفن والأخلاق ؛ فالفرد ينزع إلى الحق الكامل والجمال التام ، والخير جميعه ؛ ولكنه لا يستطيع فى هذه الدنيا الفانية إلا أن يدانيه ويقاربه . والعقل بتطلب المثل الأعلى للحق ويود أن يشمله ويستوعبه ، ولكن العقل بنزعته الانفصالية وميله إلى التحليل يجد نفسه عاجزا عن الاستيلاء على " الكل " . وفى الناحية الاخلاقية نشعر بتقصير الحقائق الواقعة عن النوازع السامية والمطالب المثالية . وهناك نزاع محتدم الأوار ، مشبوب اللهيب فى نفوسنا بين الجانب اللانهائى وبين المحدود فينا الذى ورثناه من بقايا التطور القديم . وقد تهولنا ضخامة القوى السفلية ويروعنا انتصارها وعجزنا عن مقاومتها ورد غائلتها ، فنتساءل : هل شعورنا بالكمال وهم ؟ وهل انتصارنا لجانبه واستبسالنا تحت علمه جنون وحماقة ؟ وهل هناك أمل للفوز فى المعركة ؟ أم هى معركة مقضى عليها بالفشل ؟
والمتشائمون فى كل عصر يريدون استئصال المطامع ، وإخماد الشهوات ونيل الحرية الداخلية ؛ ولكنهم يرون الحياة ملأى بالمتناقضات ، ويرون الطبيعة عابسة الوجه ، فيلوذ فريق منهم بلون من ألوان الصوفية التى تحتقر الطبيعة وتزدرى الانسان ، ويرددون أن المطلق يختلف عما نعهده فى عالمنا ، وأنه نقيض المحدود ، وأنه وحده الحقيقى ، وأن الدنيا وهم لا وجود له ولا حقيقة ؛ ولكن مثل هذه الفلسفة تجعل المطلق تجريدا بعيدا عن الدنيا ، وتقول بأن إخماد الروح هو غاية الانسان ؛ ولكنها بهذا الصنيع تقطع العلاقة بيننا وبين المطلق ، ولا تجيب مطالب الروح وتخذل الانسان فى صراعه ، وتغريه بأن يأخذ جانب الشر أو يعبد القوة كما فعل نيتشه .
ويرى تاجور أن مفكرى الغرب يفخرون بأنهم عاملون على إخضاع الطبيعة ، كأننا نعيش فى دنيا تضمر لنا السوء ، وعلينا أن نشهر عليها حربا عوانا لإخضاع عصيها وانتزاع خيراتها ؛ ويعلل ذلك بنشوء الحضارة الغربية فى المدن ، على نقيض الحضارة الهندية التى نشأت بين أحضان الغابات الفيحاء ، محتمية بها مترعرعة فى ظلالها ؛ ولم يضعف ذلك العقلية الهندية ، وإنما وجهها توجيها خاصا ؛ وهذه الصلة الوثيقة بالطبيعة لم تجعل و كد الهندى أن يبسط سلطانه على الأشياء ، ويخضعها لارادته ، وإنما أوسعت نظره ، وأفاضت عطفه ، وأكدت العلاقة بينه وبين ما حوله ، ونفت عنه وحشة العزلة والشعور بالفردية ، وعلمته أن السبيل الوحيد لادراك الحق هو فى تغلغلنا إلى صميم الأشياء ، وتبادلنا وإياها الحب والعطف . وكان هدف حكماء الهند على الدوام هو الملاءمة بين روح الانسان وروح الدنيا . ولما تولى عهد الغابات ، ونشأت المدن العامرة المزدهرة والدول العظيمة النفوذ ، ظلت الهند تستوحى مثلها العليا القديمة ، وتستمسك بأفكارها السالفة ، وتعتز بحكمتها ومدخر كنوزها . فالدنيا والانسان فى
نظر الفلسفة الهندية حقيقة واحدة عظيمة خالدة والانسان يستطيع التفكير لأن أفكاره منسجمة مع الأشياء ، ويستطيع استعمال قوى الطبيعة وتسخيرها لأداء أغراضه ، لأن قواه منسجمة مع القوى العامة ؛ ومن ثم لا تتناقض أغراضه مع أغراض الطبيعة فى المدى الواسع والأهداف القصوى .
ويغلب على الغربيين الشعور بالحواجز والفواصل بين الانسان والطبيعة ؛ فكل ما كان عليه طابع الكمال فهو فى نظرهم إنسانى ، وكل ما هبط مستواه وقلت قيمته فهو محسوب على الطبيعة ؛ ولكن العقل الهندى لا يتردد فى الاعتراف بالأواصر القوية بين الانسان والطبيعة ، ولا يعتبر ذلك فكرة فلسفية ، وإنما يعتبره غاية عملية يتوخاها ويجهد لتحقيقها .
والعالم يعرف أن الدنيا ليست مجرد ما يبدو للحواس ، وكذلك الحكيم ينفذ ببصيرته إلى الحق الكامن وراء المظاهر ؛ وهذا الضرب من المعرفة لا يزيده قوة ، وإنما يمنح نفسه الصفاء ويهبها السرور ؛ وعندما يتعرف الروح الخالدة فى الأشياء تتكشف له الدنيا فى أروع معانيها وأوفى دلالاتها .
والحضارة الغربية قائمة على مجاهدة الطبيعة والتغلب عليها ، واستثارة قوى الانسان وتنظيم جهوده وحشد كتائبه وجموعه ، وهى تفنن فى ابتكار الوسائل الطريقة وخلق الأسلحة المستحدثة ؛ وهذا فى ذاته عمل باهر ومظهر رائع من مظاهر فرض سيادة الانسان وعرض قدرته . وقد أهملت الحضارة الهندية هذا الجانب ، فلم يكن غرضها إحراز القوة ونيل السيادة ، وعنيت بحياة التأمل والاستغراق فى كشف غوامض الحقيقة وخفايا الكون ؛ وقد كلفها ذلك ثمنا غاليا ، وجعلها تخفق فى عالم المنافسة العالمية ، وتتخلف فى طريق النجاح ؛ ولكن هذه النزعة ذاتها كانت مظهرا رائعا من مظاهر الطموح الانسانى الذى
لا يعرف حدا ولا ينتهى عند غاية ، والذى لا يطمح إلى أقل من تحقيق اللانهائى .
ويبدو الفرق بين العقلية الأوربية والعقلية الأسيوية واضحا كل الوضوح فى هذا النظر إلى البيئة والمحيط . والأوربى عند ما يستصعب قوى الطبيعة يستمد قوة من الله ، ويستنجد به لمغالبتها ؛ فالله فى زعمه يقود البشر ضد الطبيعة .
ويرى تاجور أننا لو أنعمنا النظر رأينا شوابك القرابة بين الانسان والطبيعة ، وبين النفس واللانفس ؛ وهو يقول فى كتابه العظيم ( سعد هانا ) : " لا يمكن أن يكون لنا أى اتصال بما حولنا إذا كان غريبا عنا منقطع الصلة بنا ، وليست النفس واللانفس نظيرين متنافسين ، وإنما هما وجهان لنفس المطلق وحالتان مختلفتان من أحوال وجوده ، وليست الروح منافرة للطبيعة ، ولا الطبيعة مناقضة للروح ، وإنما هى وقود للهيب الروح ؛ والارادة البشرية تستمد قوتها مما يحيط بها ؛ والطبيعة قابلة للتكيف حسب إرادة الانسان . وغير النفس إنما هو وسيلة لاظهار القوى الروحية ، والروح لا تحقق نفسها وتدرك جوهرها إلا عن طريق الطبيعة " .
ويرى تاجور آثار الروحية فى كل شئ ؛ فكل مظهر يحرك فى نفسه العبادة ويثير التقوى ، ويطلق من شفتيه الانغام والتهاليل .
والفن الصادق عند تاجور هو الذى يسمو بنا فوق آلية الحياة ، وينسينا نقصها وصغائرها ، ويخرجنا من قيود التكاليف ومصطلحات العرف ؛ ونسيان النفس هو مصدر السرور الغنى ؛ والشاعر الفنان هو الذى يطلق فى نفوسنا الشاعر الفنان ، وهو لا يستطيع ذلك إلا إذا كان شعره وليد نسيان النفس . والشاعر الحق يحلق فوق المطامع والشهوات ؛ ويرتفع إلى المستوى الروحى ، حيث يتنظر الضوء ويتلقى الوحى ، وهو يتصل اتصالا مباشرا بالشئ الذى يود تفسيره ، ويغرق فيه شعوره ويشمله بعطفه
ويتلاشى فيه ؛ وعندما يتهيأ له ذلك ، ويغنى الشاعر فى الشئ الخارج عن نفسه يبدأ " الفن " . وعندما نقول إن غاية الفن هى السرور والمتعة ، ليس معنى ذلك أن الفنان يقصد إلى ذلك ويتعمده تعمدا ، لأن الخلق الفنى خلق تلقائى ، والفنان لا يتحرى الخلق لأنه يريد الامتاع وإشاعة السرور ، وإنما هو يعبر عما يستفيض فى نفسه ويجيش به شعوره . والفن يعين الروح على صدع قيودها وكسر أغلالها ، ويعقد السلام بينها وبين الدنيا ؛ وهو يرد غربة الروح ، ويدخلها عالم الحرية المطلقة وعالم الجمال ؛ وهو يستنزل اللانهائى إلى الحياة ؛ ومن ثم يجمل الحياة ويشيع السرور فى جنباتها .
وليس غرض الفن تعليميا ، فانما غرضه السرور والامتاع ، لا العلم والتحصيل ، وليستحث إلى الغايات النبيلة ، لا ليلقى الدروس وينثر المواعظ . والفلسفة تجادل وتعارض ، والدين يأمر وينهى ؛ وإنما الفن يسر ويمتع ؛ وقد يكون التعلم نتيجة الفن ولكن غرضه هو المتعة .
وليس من أدب الشعر أن يحدثنا عن الفلسفة ، ولكنه لا يستطيع أن يؤدى رسالته إلا إذا تضمن رؤية فلسفية ؛ وخير الشعر هو ما فسر لنا الحياة ، ووافانا بآراء أنضج وأكمل عن حقيقتها ؛ والشعر لا يمنع إلا إذا أبان لنا الأبدى الخالد خلال صوره وخيالاته . والشاعر الحق يلمح " الكلى " خلال " الجزئى " . والشعر والفلسفة ليسا نقيضين ، وصاحب العقل المكدود والنفس المهتاجة الثائرة لا يكون شاعرا حقا ، لأن النغمات التى تجرى على اللسان صدى النغمات التى يفيض بها القلب ؛ ولا يتزن العقل ويستقيم إلا إذا تحرر من أمر الشكوك . ولكى تسمو الروح إلى مستوى الشاعرية لابد لها أن تنسجم مع أرواح الأشياء ويزول الخلاف بين الداخلى والخارجى .
والمتشائم لا يكون شاعرا من الطراز الأول ، وكذلك الزاهد الذى يثور على الحياة ويناصب الدنيا العداء ؛ وشعر التشاؤم قائم على التناقض ، لأن الذى لا يرى
فى الحياة شيئا قيما محال أن يكون شاعرا ! والشاعر الباحث عن الجمال فى الأشياء لابد أن يحب الأرض ، ويرضى عن الحياة ، وتكون روحه هادئة مطمئنة راضية مرضية ، غير شاعرة بالغربة والوحشة ؛ وهو يلمح الاتساق والتوافق فى " بابل " الفوضى ويستخرج الخير من خلال الشر ، ويلمح الأبد من ثنايا الزمن ، ولا يسوء ظنه بالحياة إذا صدمته متناقضاتها ، ولا يراها هدفا للفوضى . وقد علم الشاعر بمتناقضات الحياة ، ويصف فواجعها ، ولكن مع اعتقاده أن النهاية هى الخير والسلام ، لا اليأس والشر ؛ وليس معنى ذلك أن يرى الدنيا جنة دانية القطوف خالية مما يسوء ، فان عليه أن يواجه الحياة بكل ما فيها من فواجع وآلام ونقص وقبح ؛ ولكن ليشعر فى النهاية أنها دنيا صالحة ؛ فهو يصف معارك الروح وأزماتها ليرينا السلام وراء ذلك النزاع ، والاتساق وراء الفوضى والاختلاط . ورسالة الشاعر والفيلسوف هى أن يظهرا لنا أن النزاع والفوضى ليسا هما نهاية الأشياء وخاتمة المطاف ؛ فالفيلسوف يقول بأن كل تناقض نراه هو فى صميمه انسجام واتساق قد غاب عنا سره ، والشاعر يبصرنا روح الأشياء الصالحة .
والشاعر يفسر الحقائق ويميط اللثام عن سرها ، ولا يكتفى بملاحظتها وتسجيلها . والفيلسوف يكشف عن المعنى الكامن فى الأشياء ، وينفذ إلى ما وراء الظواهر ، والشاعر يستخرج من مظاهر الأشياء الناقصة الزائلة الجمال الروحى الباطن ؛ وهو لا يقلد الحياة ، وإنما يكشف عن الحياة فى داخل الأشياء . والشعر والفلسفة كلاهما مرآة لحقيقة الحياة لا للحياة كما تتراءى لنا . والفن هو المجهود الذى يبذله العقل البشرى فى تفهم الروح الداخلية للأشياء . وليست مظاهر الحياة جميلة فى ذاتها ، وإنما هى تشير وترمز إلى جمال محجوب خلفها ؛ فالشعر ينزع إلى صميم الأشياء ويخلص لدخائلها ، ولا يقف عند حدود الطبيعة البادية . ومصير الطبيعة النهائى هو أن تسمو
وتتهذب وتصير روحا . ووظيفة الفنان هى أن يسمو بالطبيعى إلى الكمال المقسوم . والشاعر يطلق الروح المحبوسة فى الأشياء ، وعندما يلمس الشاعر المادة تفقد ماديتها ويغدو نقصانها كمالا وفناؤها بقاء . والفلسفة عند تاجور هى معبد الحق ، والشعر فى رأيه هو حرم الجمال

