الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 139الرجوع إلى "الثقافة"

رابندرانات تاغور، بعض آرائه فى الحياة والفن

Share

مضى تاجور شاعر الهند العظيم وحكيمها النادر المثال بعد أن تعقبه المرض فى الأشهر الأخيرة ، واشتدت به وطأة العلة . ومثل تاجور لا يجمل أن يغيب شخصه عن عالم الثقافة ومسرح الحياة ، دون أن يشبع بكلمات الوداع ، ويذكر بكبير التقدير وعميق الاعجاب . ولم يكن تاجور حجة الهند وحدها ، وعلما من أعلام الشرق فحسب ؛ وإنما كان مفخرة من مفاخر الانسانية فى كل العصور ؛ وقد مات بعد عمر مديد ، وحياة حافلة ، ولكن اختفاءه فى هذه الأيام الحالكة الناصبة ، والحاجة ماسة إلى أمثاله ، مما يثير الأسف ويضاعف الخسارة .

وقد اجتذب تاجور الأنظار بمثاليته العالية وعبقريته السامية ، ورحابة أفقه وإخلاص سريرته . وأشعاره التى ترجمها عن البنغالية إلى الانجليزية ، تعد من آيات الأدب الانجليزى وروائع الشعرى العصرى  ، وقد منح من أجلها جائزة نوبل ؛ وقد رفع هذا الرجل مكانة أمته ، وأبعد صوتها ، وأ كسبها عطف الكثيرين .

ولتاجور جوانبه المتعددة التى يصعب الاحاطة بها وإبقاؤها حقها ؛ فهو شاعر الغناء ، وشاعر الطبيعة ، وشاعر القومية والتضحية ؛ وهو روائى ممتاز ، وقاص بارع ، وناقد نافذ النظرات ، وفيلسوف بعيد التأملات ؛ وأدبه فى تنوعه وكثرته يقدم لنا نقدا شاملا للحياة المصرية واتجاهات الفكر الحديث ، تضيئه لمعات من تعاليم الاوبانيشاد ، وتشرق فيه أضواء الرؤى المقدسة . وقد كان تاجور موسيقيا مجيدا ، وعالج فى السنوات

الأخيرة التصوير ، فارسترعت صوره الأنظار ، وحازت التقدير ؛ ولم يترفع عن الانغماس فى تيار الحياة العملية ، فجاهد فى حركة بلاده القومية ، واضطره ولاؤه لوطنه إلى أن يرد اللقب الذى منحه إياه الانجليز ، ومجهوده فى رفع مستوى التربية والأخلاق معروف ؛ وطالما نعى تاجور على الحضارة الراهنة نزعتها المادية ، واستعبادها للآلة ، واندفاعها فى سبيل القومية الطائشة ؛ وكان فى طليعة الداعين إلى السلام والروحية ، والعاملين على إيجاد "العقلية الدولية " ، التى تستطيع أن تجنب العالم ويلات الحرب وفواجع الخراب والتدمير .

والإنسان فى رأى تاجور كائن خالد يجمع فى نفسه بين الروح والطبيعة ؛ فهو ابن الأرض ووارث السماء . والانسان من حيث هو حلقة من الحلقات فى سلسلة الحوادث الطبيعية ، خاضع لقانون الضرورة ، ولكنه حر من حيث هو متصل بعالم اللانهائى ؛ وهذا هو مصدر التناقض الذى يصادفنا فى الحياة والفن والأخلاق ؛ فالفرد ينزع إلى الحق الكامل والجمال التام ، والخير جميعه ؛ ولكنه لا يستطيع فى هذه الدنيا الفانية إلا أن يدانيه ويقاربه . والعقل بتطلب المثل الأعلى للحق ويود أن يشمله ويستوعبه ، ولكن العقل بنزعته الانفصالية وميله إلى التحليل يجد نفسه عاجزا عن الاستيلاء على " الكل " . وفى الناحية الاخلاقية نشعر بتقصير الحقائق الواقعة عن النوازع السامية والمطالب المثالية . وهناك نزاع محتدم الأوار ، مشبوب اللهيب فى نفوسنا بين الجانب اللانهائى وبين المحدود فينا الذى ورثناه من بقايا التطور القديم . وقد تهولنا ضخامة القوى السفلية ويروعنا انتصارها وعجزنا عن مقاومتها ورد غائلتها ، فنتساءل : هل شعورنا بالكمال وهم ؟ وهل انتصارنا لجانبه واستبسالنا تحت علمه جنون وحماقة ؟ وهل هناك أمل للفوز فى المعركة ؟ أم هى معركة مقضى عليها بالفشل ؟

والمتشائمون فى كل عصر يريدون استئصال المطامع ، وإخماد الشهوات ونيل الحرية الداخلية ؛ ولكنهم يرون الحياة ملأى بالمتناقضات ، ويرون الطبيعة عابسة الوجه ، فيلوذ فريق منهم بلون من ألوان الصوفية التى تحتقر الطبيعة وتزدرى الانسان ، ويرددون أن المطلق يختلف عما نعهده فى عالمنا ، وأنه نقيض المحدود ، وأنه وحده الحقيقى ، وأن الدنيا وهم لا وجود له ولا حقيقة ؛ ولكن مثل هذه الفلسفة تجعل المطلق تجريدا بعيدا عن الدنيا ، وتقول بأن إخماد الروح هو غاية الانسان ؛ ولكنها بهذا الصنيع تقطع العلاقة بيننا وبين المطلق ، ولا تجيب مطالب الروح وتخذل الانسان فى صراعه ، وتغريه بأن يأخذ جانب الشر أو يعبد القوة كما فعل نيتشه .

ويرى تاجور أن مفكرى الغرب يفخرون بأنهم عاملون على إخضاع الطبيعة ، كأننا نعيش فى دنيا تضمر لنا السوء ، وعلينا أن نشهر عليها حربا عوانا لإخضاع عصيها وانتزاع خيراتها ؛ ويعلل ذلك بنشوء الحضارة الغربية فى المدن ، على نقيض الحضارة الهندية التى نشأت بين أحضان الغابات الفيحاء ، محتمية بها مترعرعة فى ظلالها ؛ ولم يضعف ذلك العقلية الهندية ، وإنما وجهها توجيها خاصا ؛ وهذه الصلة الوثيقة بالطبيعة لم تجعل و كد الهندى أن يبسط سلطانه على الأشياء ، ويخضعها لارادته ، وإنما أوسعت نظره ، وأفاضت عطفه ، وأكدت العلاقة بينه وبين ما حوله ، ونفت عنه وحشة العزلة والشعور بالفردية ، وعلمته أن السبيل الوحيد لادراك الحق هو فى تغلغلنا إلى صميم الأشياء ، وتبادلنا وإياها الحب والعطف . وكان هدف حكماء الهند على الدوام هو الملاءمة بين روح الانسان وروح الدنيا . ولما تولى عهد الغابات ، ونشأت المدن العامرة المزدهرة والدول العظيمة النفوذ ، ظلت الهند تستوحى مثلها العليا القديمة ، وتستمسك بأفكارها السالفة ، وتعتز بحكمتها ومدخر كنوزها . فالدنيا والانسان فى

نظر الفلسفة الهندية حقيقة واحدة عظيمة خالدة والانسان يستطيع التفكير لأن أفكاره منسجمة مع الأشياء ، ويستطيع استعمال قوى الطبيعة وتسخيرها لأداء أغراضه ، لأن قواه منسجمة مع القوى العامة ؛ ومن ثم لا تتناقض أغراضه مع أغراض الطبيعة فى المدى الواسع والأهداف القصوى .

ويغلب على الغربيين الشعور بالحواجز والفواصل بين الانسان والطبيعة ؛ فكل ما كان عليه طابع الكمال فهو فى نظرهم إنسانى ، وكل ما هبط مستواه وقلت قيمته فهو محسوب على الطبيعة ؛ ولكن العقل الهندى لا يتردد فى الاعتراف بالأواصر القوية بين الانسان والطبيعة ، ولا يعتبر ذلك فكرة فلسفية ، وإنما يعتبره غاية عملية يتوخاها ويجهد لتحقيقها .

والعالم يعرف أن الدنيا ليست مجرد ما يبدو للحواس ، وكذلك الحكيم ينفذ ببصيرته إلى الحق الكامن وراء المظاهر ؛ وهذا الضرب من المعرفة لا يزيده قوة ، وإنما يمنح نفسه الصفاء ويهبها السرور ؛ وعندما يتعرف الروح الخالدة فى الأشياء تتكشف له الدنيا فى أروع معانيها وأوفى دلالاتها .

والحضارة الغربية قائمة على مجاهدة الطبيعة والتغلب عليها ، واستثارة قوى الانسان وتنظيم جهوده وحشد كتائبه وجموعه ، وهى تفنن فى ابتكار الوسائل الطريقة وخلق الأسلحة المستحدثة ؛ وهذا فى ذاته عمل باهر ومظهر رائع من مظاهر فرض سيادة الانسان وعرض قدرته . وقد أهملت الحضارة الهندية هذا الجانب ، فلم يكن غرضها إحراز القوة ونيل السيادة ، وعنيت بحياة التأمل والاستغراق فى كشف غوامض الحقيقة وخفايا الكون ؛ وقد كلفها ذلك ثمنا غاليا ، وجعلها تخفق فى عالم المنافسة العالمية ، وتتخلف فى طريق النجاح ؛ ولكن هذه النزعة ذاتها كانت مظهرا رائعا من مظاهر الطموح الانسانى الذى

لا يعرف حدا ولا ينتهى عند غاية ، والذى لا يطمح إلى أقل من تحقيق اللانهائى .

ويبدو الفرق بين العقلية الأوربية والعقلية الأسيوية واضحا كل الوضوح فى هذا النظر إلى البيئة والمحيط . والأوربى عند ما يستصعب قوى الطبيعة يستمد قوة من الله ، ويستنجد به لمغالبتها ؛ فالله فى زعمه يقود البشر ضد الطبيعة .

ويرى تاجور أننا لو أنعمنا النظر رأينا شوابك القرابة بين الانسان والطبيعة ، وبين النفس واللانفس ؛ وهو يقول فى كتابه العظيم ( سعد هانا ) : " لا يمكن أن يكون لنا أى اتصال بما حولنا إذا كان غريبا عنا منقطع الصلة بنا ، وليست النفس واللانفس نظيرين متنافسين ، وإنما هما وجهان لنفس المطلق وحالتان مختلفتان من أحوال وجوده ، وليست الروح منافرة للطبيعة ، ولا الطبيعة مناقضة للروح ، وإنما هى وقود للهيب الروح ؛ والارادة البشرية تستمد قوتها مما يحيط بها ؛ والطبيعة قابلة للتكيف حسب إرادة الانسان . وغير النفس إنما هو وسيلة لاظهار القوى الروحية ، والروح لا تحقق نفسها وتدرك جوهرها إلا عن طريق الطبيعة " .

ويرى تاجور آثار الروحية فى كل شئ ؛ فكل مظهر يحرك فى نفسه العبادة ويثير التقوى ، ويطلق من شفتيه الانغام والتهاليل .

والفن الصادق عند تاجور هو الذى يسمو بنا فوق آلية الحياة ، وينسينا نقصها وصغائرها ، ويخرجنا من قيود التكاليف ومصطلحات العرف ؛ ونسيان النفس هو مصدر السرور الغنى ؛ والشاعر الفنان هو الذى يطلق فى نفوسنا الشاعر الفنان ، وهو لا يستطيع ذلك إلا إذا كان شعره وليد نسيان النفس . والشاعر الحق يحلق فوق المطامع والشهوات ؛ ويرتفع إلى المستوى الروحى ، حيث يتنظر الضوء ويتلقى الوحى ، وهو يتصل اتصالا مباشرا بالشئ الذى يود تفسيره ، ويغرق فيه شعوره ويشمله بعطفه

ويتلاشى فيه ؛ وعندما يتهيأ له ذلك ، ويغنى الشاعر فى الشئ الخارج عن نفسه يبدأ " الفن " . وعندما نقول إن غاية الفن هى السرور والمتعة ، ليس معنى ذلك أن الفنان يقصد إلى ذلك ويتعمده تعمدا ، لأن الخلق الفنى خلق تلقائى ، والفنان لا يتحرى الخلق لأنه يريد الامتاع وإشاعة السرور ، وإنما هو يعبر عما يستفيض فى نفسه ويجيش به شعوره . والفن يعين الروح على صدع قيودها وكسر أغلالها ، ويعقد السلام بينها وبين الدنيا ؛ وهو يرد غربة الروح ، ويدخلها عالم الحرية المطلقة وعالم الجمال ؛ وهو يستنزل اللانهائى إلى الحياة ؛ ومن ثم يجمل الحياة ويشيع السرور فى جنباتها .

وليس غرض الفن تعليميا ، فانما غرضه السرور والامتاع ، لا العلم والتحصيل ، وليستحث إلى الغايات النبيلة ، لا ليلقى الدروس وينثر المواعظ . والفلسفة تجادل وتعارض ، والدين يأمر وينهى ؛ وإنما الفن يسر ويمتع ؛ وقد يكون التعلم نتيجة الفن ولكن غرضه هو المتعة .

وليس من أدب الشعر أن يحدثنا عن الفلسفة ، ولكنه لا يستطيع أن يؤدى رسالته إلا إذا تضمن رؤية فلسفية ؛ وخير الشعر هو ما فسر لنا الحياة ، ووافانا بآراء أنضج وأكمل عن حقيقتها ؛ والشعر لا يمنع إلا إذا أبان لنا الأبدى الخالد خلال صوره وخيالاته . والشاعر الحق يلمح " الكلى " خلال " الجزئى " . والشعر والفلسفة ليسا نقيضين ، وصاحب العقل المكدود والنفس المهتاجة الثائرة لا يكون شاعرا حقا ، لأن النغمات التى تجرى على اللسان صدى النغمات التى يفيض بها القلب ؛ ولا يتزن العقل ويستقيم إلا إذا تحرر من أمر الشكوك . ولكى تسمو الروح إلى مستوى الشاعرية لابد لها أن تنسجم مع أرواح الأشياء ويزول الخلاف بين الداخلى والخارجى .

والمتشائم لا يكون شاعرا من الطراز الأول ، وكذلك الزاهد الذى يثور على الحياة ويناصب الدنيا العداء ؛ وشعر التشاؤم قائم على التناقض ، لأن الذى لا يرى

فى الحياة شيئا قيما محال أن يكون شاعرا ! والشاعر الباحث عن الجمال فى الأشياء لابد أن يحب الأرض ، ويرضى عن الحياة ، وتكون روحه هادئة مطمئنة راضية مرضية ، غير شاعرة بالغربة والوحشة ؛ وهو يلمح الاتساق والتوافق فى " بابل " الفوضى ويستخرج الخير من خلال الشر ، ويلمح الأبد من ثنايا الزمن ، ولا يسوء ظنه بالحياة إذا صدمته متناقضاتها ، ولا يراها هدفا للفوضى . وقد علم الشاعر بمتناقضات الحياة ، ويصف فواجعها ، ولكن مع اعتقاده أن النهاية هى الخير والسلام ، لا اليأس والشر ؛ وليس معنى ذلك أن يرى الدنيا جنة دانية القطوف خالية مما يسوء ، فان عليه أن يواجه الحياة بكل ما فيها من فواجع وآلام ونقص وقبح ؛ ولكن ليشعر فى النهاية أنها دنيا صالحة ؛ فهو يصف معارك الروح وأزماتها ليرينا السلام وراء ذلك النزاع ، والاتساق وراء الفوضى والاختلاط . ورسالة الشاعر والفيلسوف هى أن يظهرا لنا أن النزاع والفوضى ليسا هما نهاية الأشياء وخاتمة المطاف ؛ فالفيلسوف يقول بأن كل تناقض نراه هو فى صميمه انسجام واتساق قد غاب عنا سره ، والشاعر يبصرنا روح الأشياء الصالحة .

والشاعر يفسر الحقائق ويميط اللثام عن سرها ، ولا يكتفى بملاحظتها وتسجيلها . والفيلسوف يكشف عن المعنى الكامن فى الأشياء ، وينفذ إلى ما وراء الظواهر ، والشاعر يستخرج من مظاهر الأشياء الناقصة الزائلة الجمال الروحى الباطن ؛ وهو لا يقلد الحياة ، وإنما يكشف عن الحياة فى داخل الأشياء . والشعر والفلسفة كلاهما مرآة لحقيقة الحياة لا للحياة كما تتراءى لنا . والفن هو المجهود الذى يبذله العقل البشرى فى تفهم الروح الداخلية للأشياء . وليست مظاهر الحياة جميلة فى ذاتها ، وإنما هى تشير وترمز إلى جمال محجوب خلفها ؛ فالشعر ينزع إلى صميم الأشياء ويخلص لدخائلها ، ولا يقف عند حدود الطبيعة البادية . ومصير الطبيعة النهائى هو أن تسمو

وتتهذب وتصير روحا . ووظيفة الفنان هى أن يسمو بالطبيعى إلى الكمال المقسوم . والشاعر يطلق الروح المحبوسة فى الأشياء ، وعندما يلمس الشاعر المادة تفقد ماديتها ويغدو نقصانها كمالا وفناؤها بقاء . والفلسفة عند تاجور هى معبد الحق ، والشعر فى رأيه هو حرم الجمال

اشترك في نشرتنا البريدية