من مأثور أقوال النقادة الانجليزي وليام هازلت " ربما كان خير علاج للخوف من الموت ، هو أن تفكر في أن الحياة لها بداية ، وكذلك لها نهاية . ويسترسل هازلت في بسط رأيه ، وتأييد فكرته ، فيقول : " لقد مر زمان لم نكن فيه موجودين ، فلماذا يزعجنا أنه سيجيء زمن يمتنع فيه وجودنا ، وهما حجتان منطقيتان معقولتان ، ولكن حبنا للحياة وتعلقنا بها ليس مسألة منطق وفهم ودراية وإنما مسالة طبع وغريزة وإرادة ، وقد أدرك ذلك شوبنهاور ووفاه حقه من الشرح والتدليل بما لا يترك مجالا لقائل ، ولحظه كذلك أبو العلاء ، وأطال القول فيه وأشبعه كما تثبت ذلك لزومياته بوجه خاص ، من ذلك قوله :
وحب العيش أعبد كل حر
وعلم ساغبا أكل المرار
ومن ثم ينفر الناس من التفكير في الموت ، وكلما طالت إقامتهم في الدنيا ، وتقدم بهم العمر ، وعلت أسنانهم ، زاد خوفهم من الموت ، واشتد نفورهم منه ، ولذا يقول المتنبي :
وإذا الشيخ قال أف فما مل
حياة وإنما الضعف ملا
وقد يسأم الإنسان " تكاليف الحياة " كما سئمها لبيد ، أما الحياة في ذاتها فهيهات أن تسأم مهما ساءت الظروف وقست الأحوال ؛ ومن أجل ذلك نكبر شأن هؤلاء الأفراد القلائل الذين يشذون عن هذه القاعدة ، ويتمردون على
هذا الحب الطاغي للحياة ، ويتخلصون من أصفاده ، ونرفعهم إلى مرتبة الأبطال والشهداء .
وإذا تصفحنا دواوين الشعراء نجد أن الكثيرين منهم يرثون أصدقاءهم ، وهم وأصحابهم أو أنصارهم الذين عطفوا عليهم وأجزلوا لهم العطاء أو قدروا أدبهم وأعجبوا بشعرهم وأثنوا عليه ، ولكنهم يندر أن يفكروا في أن يرثوا أنفسهم ، لأن رثاء النفس يقتضي مواجهة مشكلة الموت ، وهي مواجهة في أغلب الأوقات لا ترتاح لها النفس ولا تسكن إليها .
* ولا أعرف في الأدب العربي شعرا صريحا في مواجهة الموت ورثاء النفس غير هذه الآبيات التي رواها صاحب العقد في باب المراثي لشاعر غير مشهور اسمه يزيد ابن خذاق ، وهو يقول في هذه الأبيات الغريبة .
هل للفتى من بنات الدهر من واقي
أم هل له من حمام الموت من راق
قد رجلوني وما بالشعر من شعث
وألبسوني ثيابا غير أخلاق
وطيبوني وقالوا أيما رجل
وأدرجوني كأني طي مخراق
وأرسلوا فتية من خيرهم حسبا
ليسندوا في ضريح القبر اطباقي
وقسموا المال وارفقت عوائدهم
وقال قائلهم مات ابن خذاق
هون عليك ولا تولع بإشفاق
فإنما مالنا للوارث الباقي
ولست أعرف الظروف الخاصة التي بعثت ابن خذاق هذا على رثاء نفسه ولكنى أعرف أن ظروفا خاصة قد بعثت شاعرا اخر على رثاء نفسه ، ووصف قبره ، وهذا الشاعر هو مالك بن الريب ، فقد كان خرج مع سعيد بن عثمان بن عفان لما ولي خراسان ، فلما كان ببعض الطريق أراد أن يلبس نعله فإذا بأفعى في داخلها فلسعته ، فلما احس الموت استلقى على قفاه وأنشأ قصيدة في رثاء نفسه يقول منها :
دعاني الهوى من أهل ودي وصحبتي
بذي الطبسين فالتفت ورائيا
فيا صاحب رحلي دنا الموت فاحفرا
برابية إني مقيم لياليا
وخطا بأطراف الأسنة مضجعي
وردا على عيني فضل ردائيا
ولا تحسداني بإرك الله فيكما
من الأرض ذات العرض أن توسعا ليا
خذاني فجراني بيردي اليكما
فقد كنت قبل اليوم صعبا قياديا
تفقدت من يبكي علي فلم أجد
سوى الرمح والسيف الرديني باكيا
وبالرمل لو يعلمن علمي نسوة
بكين وقدين الطبيب المداويا
يقولون لا تبعد وهم يدفنوني
وأين مكان البعد إلا مكانيا
ومن الشعراء الذين رثوا أنفسهم أبو العتاهية ، ومن رثائه لنفسه هذان البيتان المؤثران :
إذا ما انقضت عني من الدهر مدتي
فإن بكاء الفانيات قليل
سيعرض عن ذكري وتنسى مودتي
ويحدث بعدي للخليل خليل
وقد رثى حافظ ابراهيم نفسه ضمن قصيدة له جيدة في
ذكرى الأستاذ الإمام مطلعها :
آذنت شمس حياتي بمغيب
ودنا المنهل يانفس فطيبي
إن من سار إليه سيرنا
وجد الراحة من جد اللغوب
وللفيلسوف الانجليز المعاصر برترادرسل علي غزارة علمه وعميق تفكيره وصائب نظراته بدوات وأطروفات ، من ذلك رثاؤه لنفسه الذي نشره سنة ١٩٣٧ في مجلة المستمع الإنجليزية ، وأعاد نشره ضمن مجموعة من فصوله الشائقة أسماها " فصول غير مقبولة " وذكر في هامش هذا الرثاء لنفسه أن هذا الرثاء سيظهر أولا يظهر في عدد أول يونيو سنة ١٩٦٢ من جريدة التايمز بمناسبة موته المأسوف عليه ، ولكن الذي جاء متأخرا ؛ وقد بلغ رسل في هذا العام التاسعة بعد السبعين من عمره الحافل ، والظاهر أنه يطمع في بلوغ التسعين ، مد الله في عمره ، وأطال بقاءه فإن في استطالة حياة أمثاله من المفكرين الأحرار المخلصين خيرا للإنسانية ، وهو يقول في هذا الرثاء : " يموت الإبرل رسل الثالث - أو برترادرسل كما كان يفضل أن يسعى نفسه في التسعين من عمره ، تنقطع صلة من صلاتنا بالماضي البعيد جدا ، وجده اللورد جون رسل أحد رؤساء الوزارة في العهد الفكتوري زار نابليون في جزيرة إليا ، وجده لأمه كان صديقا لأرملة الشاب الناشئ المطالب بالعرش ، وقد قام في صباه بعمل هام في المنطق الرياضي ، ولكن موقفه الشاذ في أثناء الحرب الكبرى أظهر نقصا في قدرته على الأحكام المتزنة ، وقد تزايد تأثير ذلك على كتابته فيما بعد ، وربما كان من أسباب ذلك إلى حد ما أنه لم يحظ بتلقي دروسه في إحدي المدارس العامة ، وإنما درس على مدرسين خصوصيين حتى بلغ الثامنة عشرة من سنه ، والتحق بعد ذلك بكلية ترنتي بجامعة كمبردج ، وأصبح في سنة ١٨٩٣ أحد الطلبة المتفوقين البارزين ، وفي سنة ١٨٩٥ أصبح زميلا ، وفي خلال السنوات الخمس العشرة التالية أخرج الكتب التي قامت عليها شهرته في عالم العلم والمعرفة ، وهي " أسس الهندسة و فلسفة ليبتز و " مبادئ الرياضة وكتاب المبادئ الرياضية بالاشتراك مع هواينهد ، وهذا الكتاب الأخير الذي كان له في أيام ظهوره أهمية يدين بجانب كبير من امتيازه وتفوقه للدكتور هوايتهد الذي
أصبح فيما بعد أستاذا ، وهو رجل أوتى البصيرة والعمق الروحي الذين كانا ينقصان رسل ، كما دلت على ذلك كتاباته التالية ، ولرسل براعة وقدرة على سوق الحجج ولكنه يجهل تلك الاعتبارات التي تسمو علي مجرد المنطق .
ونقص هذا العمق الروحي ظهر في صورة مؤلمة في خلال الحرب الكبرى الاولى حينما التوى رأي رسل واستمسك بأنه لما كانت الحرب شرا فإن واجب الساسة هو سرعة إنهائها ، وكان ذلك لا يتم إلا بأن يلتزم الإنجليز الحياد ، وينتصر الألمان . وذلك بالرغم من أنه لم يقلل من شأن الإساءة إلى الأمة البلجيكية ، ويلزم أن تذهب إلى أن دراساته الرياضية جعلته ينظر نظرة كمية من شأنها أن تتجاهل المبدأ الذي ينطوي عليه الآمر ، وقد ظل في أثناء الحرب يدعو إلى إنهائها بأي شرط من الشروط ، وقد حرمته كلية ترنتي بحق من إلقاء المحاضرات بها ، وقد قضى في السجن بضعة أشهر سنة ١٩١٨ .
وفي سنة ١٩٢٠ زار روسيا زيارة قصيرة ، ولم يكن التأثير الذي تركته في نفسه حكومتها تأثيرا مرضيا ، وزار الصين زيارة أطول ، واستمتع هناك بالحضارة التقليدية القائمة على العقل التي لا تزال بقاياها الراهنة تذكرنا بالقرن الثامن عشر وفي السنوات التالية بدء مجهوداته في كتابات يدافع فيها عن الاشتراكية وإصلاح التربية ، ويدعو إلى قاموس للا داب أقل صرامة في مسألة الزواج ، وفي بعض الأوقات كان يعود إلى موضوعات أقل اتصالا بأحوال العصر ومشكلاته ، وكتاباته التاريخية بأسلوبها وبما فيها من حسن السبك وبراعة الإشارة تخفي عن القراء غير المدققين سطحية مذهبه العقلي العتيق الذي ظل مستمسكا به إلى النهاية .
وفي الحرب العالمية الثانية لم يكن له شأن يذكر لأنه فر إلى بلاد محايدة قبيل نشوبها ، وكان في أحاديثه الخاصة يردد أن المجانين الولوعين بقتل الإنسان قد احسن استعمالهم في قتل بعضهم البعض الآخر ، ويحسن بالعقلاء ان يبتعدوا عنهم أثناء قيامهم بهذا العمل ، ولحسن الحظ أن هذا الرأي الذي يذكرنا ببينتام قد أصبح نادرا في هذا العصر الذي يقرر أن البطولة لها قيمة مستقلة عن المنفعة ، وحقيقة أن جزءا كبيرا مما كان العالم المتحضر قد أصبح أطلالا دارسة ، ولكن لا يستطيع أحد من الذين يفكرون تفكيرا صحيحا
أن يسلم بأن الذين ماتوا من أجل الحق في هذا الصراع العظيم قد ذهبت حياتهم سدى .
وحياته برغم ما كان فيها من العناد والشذوذ كانت لا تخلو من تناقض متصل ، يذكرنا بهؤلاء الأحرار الأرستقراطيين في أوائل القرن التاسع عشر ، وكانت مبادئه عجيبة ، ولكنها على ما كانت عليه سيطرت على حياته ، ففي حياته الخاصة كان لا يبدو هذا الميل إلى المشاكسة الذي شوه كتاباته ، وقد كان محدثا لبقا لا يخلو من العطف الإنساني ، وكان له أصدقاء كثيرون ، ولكنه على وجه التقريب عاش بعد موتهم جميعا ، وبالرغم من ذلك فإنه يبدو للباقين منهم وهو شيخ طاعن في السن ، مستمتعا بالحياة كل الاستمتاع ؛ والفضل في ذلك من غير شك يرجع إلى حد كبير إلي صحته التي لم يطرأ عليها تغيير لأنه في سنواته الأخيرة كان من الوجهة السياسية معتزلا مثل ملتن بعد عهد عودة الملكية ، لقد كان آخر من بقى من عهد طواه الموت " .
وهذا الرثاء للنفس يتفق مع نزعة رسل في كتاباته ، فهو لا يصطنع الغمة العاطفية حتى في رثائه لنفسه ! .
ورثاء النفس على ما فيه من مواجهة حقيقة الموت قد يحوي جانبا من الإشادة بالنفس وذكر فضائلها ومناقبها ، وهو من هذه الناحية نقيض هجاء النفس الذي يدعو إلى ذكر عيوبها وكشف المخبوء من نقائصها ، وليس من السهل على الطبيعة البشرية أن تكشف نفسها وتعلن عيوبها ، ولذا يقل بين الناس من يهجو نفسه وينتقص خلائقه . واكثر من ابتلاهم الله بهذه الخليقة كانوا من أهل الشذوذ والالتواء الخلقي
والشاعر العربي المعروف باسم الخطيئة كان من غير شك شاعرا مطيوعا مجودا للشعر ، ولكنه برغم براعته الشعرية وقدرته الفنية كان على ما يبدو رجلا حقير النفس سئ الطوية ، وقد كان هذا المسكين نكبة على نفسه فهجاها . ونكبة على أمه وسائر من اتصلوا به فلم يمسك عن هجائهم ، وقد ظهر بين الشعراء من أولعوا بهجو أنفسهم وتحقير شأنهم ، ولكني لا أذكر أني قرأت شيئا لأحد الفلاسفة أو كبار المفكرين الممتازين في هجو نفسه أوسب أمه أو أبيه ،
وقد أراد الكاتب الإيطالي المفكر جيوفاني بابيني أن يعرض قدرته على النقد القارص والهجاء اللاذع فتناول نفسه في أحد الفصول الأدبية ، وبابيني ليس فيلسوفا خالصا ولا مفكرأمبدعا وإنما هو رجل كاتب أديب له مشاركة في الفلسفة والتاريخ
والنقد ، واطلاع واسع على الآداب العالمية وأسلوب ادبي لامع .
وهو يقول عن نفسه وقد عزا القول إلى أحد معارفه وأصحابه : " جيوفاني بابيني ليس في حاجة إلى من يقدمه لقرائنا ، فكلهم يعرفونه ، وأصدقاؤه يعرفونه معرفة أكيدة أكثر من أعدائه ، فهو أقبح الناس صورة في إيطاليا ) هذا إذا كان يصح أن يحشر في زمرة البشر ( وهو من الدمامة بحيث إن ميرابو بالقياس إليه يعد انموذجا اكاديميا أو أبوللو بلقدير ، ولما كان الوجه مراة الروح كما تقول الأمثال التي تتضمن حكمة القدماء العميقة فإنه لا يدهش الناس أن يعلموا أن هذا البابيني هو وغد الأدب وهجاء الصحافة وبراباس الفن ، وجعجاع السياسة والمجرم الأثيم في الفلسفة ومتشرد الثقافة . وهو شريك في عالم الأفكار السفلية وثيق الاتصال بها ، وهو يعيش عيشة فاخرة راغدة ، وهو بطبيعة الحال يعيش في قلعة يصعب الوصول إليها مثل كل بذاخ ، وموارده هي السرقة والهجو والسلب والنهب ، ويمكن أن نضيف إلى ذلك أن طعامه الشهى هو لحم السخفاء ، وأن شرابه المحبوب هو الدم الإنساني الحار الساخن ، ويعرف الناس جميعهم أنه شر الأجلاف الغلاظ الذين تقلهم أرض إيطاليا ، وتردد الإشاعات أنه أقسم قسما مؤكدا بأنه سيعادي كل رسالة تكتب أو كتبت عن السلوك الحسن والخلق الرضى ؛ وقد بلغ الأمر بهذا الوغد المخجل أنه يقول ما يجول بفكره حقا ، وأبلغ من ذلك في الإساءة أنه يجترئ على مهاجمة النقاد حينما يضايقونه . وإن النفور ليستولي على نفوسنا ويتملكنا الاحتقار والغضب وتثور نفوسنا حينما نرى هذا الخبيث الزنيم طريد القلم وقاطع طريق الأدب يهاجم الأشخاص الذين تكبرهم البلاد ، وتقرا أعمالهم الجامعات ، وتمنحهم الجوائز المجامع العلمية واللجان الأدبية ، وتحترمهم الطبقة البورجوازية ، دون أن نعلم السبب الذي يدعو إلى هذا الاحترام ! ومن ذا الذي يطيق أن يرى ذلك المشهد دون أن تسرى في أوصاله رعدة وتأخذه رعشة ؟ ومن ذا الذي يستطيع أن يقف إزاء ذلك مكتوف اليد ؟ إننا سنقابل بالاحتجاج والمعارضة هذا الهبوط المزري بالنقد ؛ لقد أوقف أكثر من خمسين صفحة من كتابه الأخير على نقد كرونشه الذي يحترمه جميع الإيطاليين . وهاجم دانتوزيو الشاعر الوطني الكبير ، وانتقص رومان رولان مؤلف رواية جان كريستوف ، ومزق اربا إربا
الدكتور ) ١ ( فاوست والأمير الحزين هملت ، وقضية بابيني واضحة فهو لا يمدح إلا من اشتهروا بالهجو مثل سويفت الذي افترى على الإنسانية ، وفايتنجر الذي افترى على المراة ، وهو لا يعرف سوى العداوة ، ولا دافع له إلا سعار الغضب ، ولا يحسن غير الشتم ، ولا يروقه سوى التجديف واللعن . وحقيقة أن الذين ظفروا بشهرة لا يستحقونها جديرون بأن يستنزلوا إلى المستوى المناسب لهم ، وأن الذين ظهروا في غفلة الزمن يجب أن تكشف حقيقتهم ، ولكن ذلك لا يكون بالأسلوب الذي يتبعه بابيني ، ونحب أن نذكره بقول أبائنا الذي نوصي به أبناءنا وهو " إن النقد سهل والفن صعب ، وإذا اجترأ هذا المنا كف العنيد على أن يرد علينا قائلا : إن النقد نفسه يكون فنا فما علينا إلا أن نجبهه بقول الكاتب الخالد منزوني : " رفقا بنفسك أيها المخلوق الضعيف ، فإن قلب ميلان رأسا على عقب يحتاج إلى أكثر منك " .
وقد حاول بابيني خلال هجائه لنفسه أن يدافع عن نفسه ويسوغ موقفه من بعض معاصريه وشدته في نقدهم ، فهجاؤه لنفسه نوع طريف من الأدب ، وليس من هذا الهجاء للنفس الذي يدل على سقم النفس وفساد الطبع

