اطلع القراء الكرام على فتوى (١)(الإمام الطرطوشي) (في المذاهب الصوفية) وغيها يقول: مذهب الصوفية بطالة وجهالة. . . ثم كان أن عززنا هذه الفتوى بنشر(٢) رأي أئمة الفقه في هذه المذاهب. وفي الحق أن فتوى الطرطوشي وفي رأي أئمة الفقه الدليل القاطع على بطلان تلك الطرائق القدد التي أفسدت على الناس عقائدهم، ومكنت للوثنية من نفوسهم، حتى إذا ما جئت لتردهم إلى دين الفطرة من توحيد الالوهية والربوبية لو وراء منهم واستغشوا ثيابهم ثم قالوا: أجئتنا لتلفتنا عما وجدنا عليه آبائنا وتكون لكما الكبرياء في الأرض؟
وإن في هذه الطوائف من يعرف الحق ولكنه ينكره عناداً وحرصاً على ما ينعم من مال وجاه، كدأب الذين من قبلهم: وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلماً وعلوا. وهؤلاء الرؤساء (المسلكون) الذين اتخذوا الانتساب إلى تلك الطرق حرفة لأكل أموال الناس بالباطل. أما عدا هؤلاء من الطالبين أو المريدين، فإن للشيخ (المسلك) سلطة خاصة حتى قالوا يجب أن يكون المزيد مع الشيخ كالميت بين يدي الفاسل، حتى لو أمره بمعصية لكان عليه أن يعتقد أنها لحيره وأن فعلها متعين عليه. فكان من قواعدهم التسليم المحض، والطاعة العمياء. وقالوا أن الوصول إلى العرفان المطلق لا يكون الا بهذا.
ومن ثم زادوا أمراً آدا في الدين هو أظهر من كل ما عداه قبحاً وهدماً للدين (وهو(٣) زعمهم أن الشريعة شيء والحقيقة شيء آخر، فإذا اقترف أحدهم ذنباً فأنكر عليه منكر قالوا في المجرم أنه من أهل الحقيقة فلا اعتراض عليه، وفي المنكر إنه أهل الشريعة فلا التفات اليه. كأنهم يرون أن الله تعالى أنزل للناس دينين، وأنه يحاسبهم بوجهين، ويعاملهم معاملتين
- حاش لله ولدينه - نعم جاء في كلام بعض الصوفية ذكر الحقيقة مع الشريعة، ومرادهم به أن في كلام الله ورسوله ما يعلو إفهام العامة بما يشير إليه من دقائق الحكم والمعارف التي لا يعرفها الا الراسخون في العلم فحسب العامة من هذا الوقوف عند ظاهره، ومن آتاه الله بسطة في العلم ففهم منه شيئاً أعلى مما تصل إليه إفهام العامة فذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ممن يجد ويجتهد للتزيد من العلم بالله وسننه في خلقه. فهذا ما يسمونه علم الحقيقة لا سواه، وليس فيه شيء يخالف الشريعة أو ينافيها) أهـ
أما ما يموه به المتصوفة على العامة وأشباه العامة بحيلهم ودجلهم لإثبات ما يزعمونه لأنفسهم من كرامات فهو ضرب من ضروب السحر كان يقوم بمثله الكهان من العرب في الجاهلية (وكانت(١) أكثر مخاريق الحلاج من باب المواطآت(٢)) . وموطآت الحلاج هي أنه كان يتفق مع أناس من رجاله على ما يلبسون به على الناس بدعوى الكرامات. وقد اكتشف ذلك في عصره كما بينه التنوخي في جامع التواريخ (نشوار المحاضرة) ومنه أن رجلاً جاء بصفة مسترشد وإنما هو مختبر فقال له الحلاج: تشه على ما شئت فقال: أريد سمكاً طرياً وكانوا في بعض بلاد الجبل البعيدة عن الأنهار والبحر، فدخل بيتاً خالياً من داره وأغلق عليه بابه، وعاد بعد ساعة طويلة وقد خاض وحلاً إلى ركبتيه وبيده سمكة تضطرب وزعم أنه دعا الله فأمره أن يذهب إلى البطائح قال: فمضيت إلى البطائح فخضت الأهواز وهذا الطين منها حتى أخذت هذه. فقال الرجل: تدعني أدخل البيت فإن لم ينكشف لي حيلة فيه آمنت بك. فقال: شأنك. فدخل وبعد عناء وتنقيب اهتدى إلى دار كبيرة فيها بستان عظيم فيه صنوف الفاكهة والثمار والنوار ومنها ما ليس من وقته ولكنه محفوظ بحيلة صناعية، ووجد فيها خزائن مليحة فيها أنواع الأطعمة
الناضجة والحوائج لما يهيأ بسرعة ورأي في الدار بركة ماء مملوءة سمكاً فأخذ واحدة منها وخرج. . . فتبعه الحلاج فرمى بالسمكة وجهه وصدره وهرب. وأقسم الحلاج ليقتلنه إن حدث أحداً بذلك ولو في تخوم الأرض. ولم يحدث بها الرجل الا بعد قتله لعلمه بأنه لو أمر المفتونين به أن يقتله فأنه يفعل). وبعد فلينظر الناظرون إلى أين وصل المسلمين ببركة كالتصوف واعتقاد أهله بغير فهم ولا مراعاة شرع - اتخذوا الشيوخ أندادا، وصار يقصد بزيارة القبور والأضرحة قضاء الحوائج وشفاء المرضى وسعة الرزق بعد أن كانت للعبرة وتذكر القدوة. إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.
(كفر المندرة)
