كان الركب على الطريق فى آخر غزاة يشهدها محمد فى صحابته ، وكان طريق القوم غير ما ألفوا ، وعدوهم غير من لقوا حتى اليوم من عدو ؛ إن وجههم اليوم إلى (( تبوك )) وإنهم ليقصدون إلى قتال بنى الأصفر ؛ وما بنو الأصفر ؟ إنهم ليعرفونهم اسما وخبرا وما لقوهم قط فى معركة ولا اشتجرت رماحهم فى ميدان ، فلولا أن الأمر أمر محمد فبما يوحى إليه من ربه لخارت قلوب ووهنت عزائم . . .
. . . ومضى المسلمون على وجوههم فى المفازة الجرداء لا تكاد تحملهم رواحلهم من التعب والحر والظمأ ، فلا
ينزلون منزلا على طريق إلا تخلف منهم معتذر بعلة . فانهم لينقصون ولا يزيدون . وقال وديعة بن ثابت لأصحابه فى بعض منازل الطريق :
(( أتحسبون جلاد بنى الأصفر كقتال العرب بعضهم بعضا ! والله لكأنا بكم غدا مقرنين فى الحبال ، إرجاءا وترهيبا للمؤمنين ! )) .
قال صاحبه :
(( صه ! . . . وددت أنك لم تقلها وأنى لم أسمع .. إنك - فيما أعلم - لتضمر شرا ، وإن الله ليضمر لك. . . ! )) .
وارتدت الكلمة إلى فم قائلها فلم ينبس بعد وعلت وجهه فترة . . .
وهمس رجل فى أذن صاحبه
(( إنى لأعرف النفاق فى كثير ممن ترى من أخ وابن عم. . . ! )) .
قال : (( بلى ، وإنما لنلبسهم على ما نعرف فيهم وإنهم ليلبسوننا ؛ ما من ذلك بد حتى تبلع ما أراد الله من أمر . . . ! )) .
...وعصفت الريح حتى لتقتلع الرجل من بين صحابته فتقذف به إلى الجبل لا يدرون أين مضت ، ولا يدرى ، فتأوه الفتى السلمى وهو يقول : (( أين منى عريش عمرة ، قد رشته وبردت لى فيه ماء فى ظل الحائط الفينان بالمدينة ، من هذا الصج والحر والريح ! )) .
فتبسم صاحبه وهو يقول : (( كذلك أنتم يا بنى سلمة ، إنكم لتؤثرون الظل والماء البارد والوجه المليح على الجهاد لله وعلى طاعة رسول الله ! )) .
فانهض السلمى غضبان يقول : (( وى ! أتعيرنى من أجل كلمة ابتعها الحنين إلى امرأتى وأهلى ، وإنك لتعلم مكانة بنى سلمة من الأنصار ! )) .
فزادت ابتسامة صاحبه طولا وعرضا وأجاب : (( بلى ، وأعرف مكانة كعب بن مالك السلمى الأنصارى . . . إنه ليحسن أن يقول :
قد علم الجميع أنى كعب وأننى مت تشب الحرب
ماض على الهول جرىء صلب
معى حسام كالعقيق عضب
بكف ماض ليس فيه عيب
ندككم حتى يذل الصعب !
إنه ليحسن أن يقول ذلك ، فإذا دعا الداعى إلى الجهاد فلا كعب هناك ، وما هو إلا شعر شاعر . . . ! )) .
وقطع بالفتى السلمى فلم يجب ، وأطرق إلى الأرض خزيان . . .
وقال محمد وقد نزل منزله من تبوك : (( ما فعل كعب ؟ )) .
قال رجل : (( يا رسول الله ، حبسه برداء ونظره فى عطفيه ! )) .
قال معاذ بن جبل : (( بئس ما قلت ! والله ما علمنا عنه يا رسول الله إلا خيرا ... ... )) .
وتبسم محمد تبسم المغضب ، وسكت ...
وكان كعب بن مالك فتى فى الثلاثين ، ريان العود ، ناضر الشباب ، جرىء القلب ، قد أعطى البيان والفتوة وجراءة اللسان واليد ؛ وإنه لثالث ثلاثة من شعراء النبى ، وأنه ليسمونه من دون صاحبيه : (( شاعر الحرب )) ! فأى شأن قعد به عن الخروج وهو من هو . . ؟
... لقد هم ولم يفعل ، وصحت نيته ثم تراخى ، وكانت وسائله ميسرة ولكن فى طبعه استرخاء ؛ وإنه لطبع شاعر ، فلما استكمل عزمته وتهيأ للخروج جاءه النبأ أن محمدا وأصحابه على طريق الإياب موفورين فأسقط فى يده ؛ لم يكن عن جبن قعود ، ولا عن عجز أو تردد ، ولكن هكذا أريد له . . .
واتخذ النبى صلى الله عليه وسلم مجلسه من المسجد فى المدينة ، وجاء المخلفون من المنافقين يعتذرون إليه ويحلفون ، فقبل النبى منهم واستغفر لهم ؛ ومثل كعب بين يدى النبى ، ونازعته نفسه إلى الكذب فلم يجد له به طاقة ، فأطرق إلى الأرض خزيان لم يجد معتذرا ، وصمت كان لم يكن له لسان ولا بيان وإنه لشاعر الأنصار ومحاميها فى الخصام...
قال محمد وقد طال صمت كعب وإطراقه :(( ما خلفك ؟ ألم تكن قد ابتعت ظهرك ؟ )) .
قال كعب : (( بلى ، إنى والله لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا لرابت أن سأخرج من سخطه بعذر ،
ولقد أعطيت جدلا ، ولكنى والله لقد علمت لئن حدثتك اليوم حديث كذب ترضى به عنى ، ليوشكن الله أن يسخطك على ؛ ولئن حدثتك حديث صدق تجد على فيه , إنى لأرجو فيه عفو الله . لا والله ما كان لى عذر ! والله ما كنت قط أقوى ولا أيسر منى حين تخلفت عنك ...! )) .
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( . . أما هذا فقد صدق ! فقم حتى يقضى الله فيك ! )) .
وتمت عدة المعتذرين من المخلفين بضعة وثمانين نفرا ، أما ثمانون فقد وجدوا ما يقولون فنالوا ظاهر المغفرة ، وأما كعب بن مالك واثنان معه فآثروا ألا يكذبوا على الله ورسوله فأقروا ، متحملين ما لا يطاق من غضب المسلمين وقطيعة محمد وأصحابه ؛ وجفاهم الناس لا يكلمهم أحد ولا يكلمون أحدا يجدون جوابا عنده ؛ ولزم الشيخان مرارة بن الربيع وهلال بن أمية دارهما يستغفران الله فى وحدتهما الموحشة باكبين قد بلل الدمع موضع سجودهما ، ولا تتحرك شفاههما همسا إلا بذكر الله وطلب مغفرته ؛ وأما كعب . . ياله من نفسه ! ... إنه لشاب فى مستقبل العمر وموقور النشاط ؛ فما له طاقة بأن يلزم مكانا لا يبرحه وإنه ليجد الحركة فى يديه ورجليه وإن لم يتحرك ، وما له طاقة بالصمت وإن لم يرد عليه أحد جوابا ، فإنه ليضطرب فى الأسواق ليشهد الناس ، فرارا من الوحدة الموحشة ، فما تكاد عين مسلم تقع عليه حتى يغضى معرضا عنه : يأبى المسلمون أن يبادلوه النظر أو يردوا له التحية . . . ؛ وطالت به جفوة الناس وقطيعتهم ، حتى لقد أنكر الأرض فما هى التى يعرف ؛ وضاقت عليه نفسه ؛ فلما ثقل عليه ما يلقى مضى يلتمس الأسباب إلى ابن عمه أبى قتادة - وإنه منذ كان لصقيه وأحب الناس إليه - بحسبه واجدا عنده من الأنس بعض ما يفتقد ، وكأن لم يجد نفسه أهلا لولوج بابه فتسور إليه جدار بستانه ؛ ونظر
إليه صديقه أبو قتادة يهبط عن الجدار فأعرض عنه وفى عينيه إغضاء وفى نفسه ألم ؛ وخطا إليه كعب فاستقبله يقول وفى صوته ضراعة وذلة : (( أنشدك بالله يا أبا قتادة ! هل تعلمنى أحب الله ورسوله ؟ )) ولكن أبا قتادة يغضى فلا يجيب ، ويكررها كعب فلا يلقى من أبى قتادة غير الإغضاء ، والصمت ، ويعيدها ثالثة فما يرد إليه أبو قتادة جوابه ولكنه يقول وفى صوته أسف : (( الله ورسوله أعلم ! )) .
وينصرف كعب أسوان تفيض عيناه بالدمع : حتى أنت يا أبا قتادة !
ويتحدث الناس فى شان كعب ولا يتحدث أحد منهم إليه ؛ فإن نبأه لتتقاذفه البيداء منزلا بعد منزل حتى يبلغ الشام ؛ ويبتسم ملك غسان ويقول لبطانته : هذا رجل من أصحاب محمد ناله منه الضر ، فإنا لنملك أن نصطنعه بما نقدم إليه من بر وبما نعيد إليه من الأنس وبشاشة الحياة . ثم يدفع كتابا منه إلى نبطى من أنباطه ليذهب به إلى كعب بن مالك يدعوه إليه ليأنس فى بلاطه بما لا يجد بعضه أو قريبا منه عند أهله وخاصته ، ويحبب إليه مفارقة المدينة التى نبذه أهلها وأحلوه بينهم دار الهوان . ويبلع كعبا كتاب ملك غسان ، فلا يجد منه الأنس والطمأنينة وراحة النفس ، وإنما يجد مضاعفة الهم والألم وعذاب الضمير . أتراه قد بلغ هذه المنزلة حتى يساومه مشرك على دينه ؟ واحسر يا ! . ويمضى إلى التنور فيشعل به كتاب الملك وفى صدره ناره وفى رأسه دخانه ..
. . . ويقبل على امرأته وعلى شفتيه ابتسامة يأمل أن يجد مثلها على شفتيها ، ولكن امرأته لا تبتسم له ولا تجيب نظرته بنظرة . ماذا ؟ حتى زوجته ! . . فماذا بقى له ؟ . . . لقد فقد دنياه وآخرته معا ؛ فلا هو هنا ولا هو هناك ؟ ولكنه لم ييأس بعد من رحمة الله ؛ فإنه
ليغدو ويروح إلى المسجد ، ولكنه لا يقبل على صلاته بالقلب الخالص والنفس الواعية ، وإنه فى موقفه من الصلاة ليسترق السمع والنظر ، ليرى ويسمع : هل ينظر إليه أحد ؟ هل يتحدث إليه أحد ؟ . . . ثم ينفتل من صلاته ليقبل على الناس بالتحية فلا يجد رد التحية ، كأن لم يخرج صوت من شفتين ؛ أتراه لم يسمع بها من طول ما تعود الحديث إلى نفسه فى وحدته المنقطعة فلا صوت له ؟ !
وأيقن المسكين أن قد قطع به ، فاستسلم لأمر الله ، واعتزل الناس إلى خيمة ابتناها فى ظهر (( سلع )) من جبال المدينة ، يبلغه صوت الناس ولا يبلغهم صوته ، وكأنما احتقر لنفسه فى رأس شاهقة قبرا لا يزوره زائر من عدو أو حبيب !
وتمت عدة الأيام خمسين ، وما فى الخيمة على ظهر سلع إلا شاب قد ثقلت عليه أيامه حتى ما يكاد يرفع رأسه إلا ضارعا بيدين إلى السماء يسأل الله المغفرة والعفو ، فلو أنها خمسون عاما لكان أقوم عودا وأصلب قامة ، فإنه لفى ركوعه ذات يوم يدعو ربه ، إذ سمع صوت صارخ أو فى على ظهر سلع يقول بأعلى صوته : (( يا كعب بن مالك ، أبشر ... ! ))
وسبق النداء المنادى ؛ فما هو إلا أن بلغ مسمع كعب حتى خر ساجدا لله ثم نهض مستقيم العود يرقب على البعد فارسا يركض إليه ليتلو عليه قول الله :
(( لقد تاب الله على النبى والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه فى ساعة العسرة من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم ثم تاب عليهم إنه بهم رءوف رحيم ، وعلى الثلاثة الذين خلفوا حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم انفسهم وظنوا ألا ملجأ من الله إلا إليه ثم تاب عليهم ليتوبوا ، إن الله هو التواب الرحيم ... ))
وشفع له صدقه حين انكشف كذب المعتذرين من أهل النفاق وظنوا أنهم مستطيعون أن يخدعوا الله ورسوله .
قال كعب بن مالك :
(( فلما مثلت بين يدى النبى قلت : يا رسول الله ، إن من توبتى أن أنخلع من مالى صدقة إلى الله وإلى رسوله ! ))
قال : (( أمسيك عليك بعض مالك فهو خير لك ! )) قال كعب (( حسبى أن أمسك من مالى سهمى الذى بخيبر )) .
ثم قال : (( إن الله إنما نجانى بالصدق ، وإن من توبتى ألا أحدث إلا صدقا ما عشت ! ))
وعاش كعب بن مالك بعدها بضعا وأربعين سنة لم يكذب كذبة ؛ وكان يقول كلما ذكرها :
(( والله ما أعلم أحدا من المسلمين أبلاه الله فى صدق الحديث منذ ذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن مما أبلانى ، والله ما أنعم الله على من نعمة قط بعد أن هدانى للإسلام أعظم فى نفسى من صدق لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، ألا أكون كذبته فأهلك كما هلك الذين كذبوا ... ... ))
