في مثل هذه الأيام من عام ١٩٣٣ اشتد بي الحنين إلى الارتحال ، وتصادف أن قرأت إعلانا في إحدى الجرائد ، عن رحلة بالسيارات ، تستغرق أسبوعا ، نظمتها إحدى شركات السياحة ، لزيارة آثار " البطرا " عاصمة النبط ، بشرق الأردن . فحجزت لي مقعدا ، وقيدت اسمي في قائمة المشتركين .
وقبل موعد الرحلة بيومين ، دعتنا الشركة إلي حفلة تعارف بمكتبها بالقاهرة . وتواقد الأعضاء في الميعاد فرادي وجماعات ، حتى اكتظ بهم المكان ، وكانوا كلهم من السائحين ، الذين جاءوا إلى مصر ، من مختلف الأقطار .
وبعد أن تناولنا الشاي والحلوى . واستمعنا إلى آخر التعليمات ، نهض مدير الشركة وقدم لنا رجلا طويل القامة ، ضخم الجثة ، أصلع الرأس ، مفتول شعر الشاربين ، تقبل الظل ، بليد الحركة . قال عنه إنه الخواجة (تلحمى) رئيس الرحلة ، ووكيل الشركة ، وأطنب في إطراء خصاله . وطول باعه في تنظيم الرحلات وقيادتها .
وفي اليوم المعين ، غادرنا القاهرة ، تقلنا تسع سيارات ، تقدمنا سيارة القيادة ، وتتبعها باقي السيارات ، في صف طويل . ولعب منظرها ، وهي تدرج هكذا في شوارع القاهرة ، بعقل الخواجة تلحمى ، فوقف بطوله الفارغ في سيارته ، يلوح في الهواء ، بعلم أحمر كبير ؛ فأثار بعمله هذا فضول المارة واستغرابهم ، كما جر إلى تدخل البوليس .
وصلنا السويس متأخرين في المساء واضطررنا للنزول في أكثر من فندق للمبيت ، فتفرقنا هنا وهناك في أنحاء متباعدة ، مما جعل جمعنا في صباح اليوم التالي ، لنستأنف السير ، أمرا شاقا متعبا . وفي الضحى عبرنا القناة ، ودخلنا برية سيناء ، ثم ارتقينا نقب (مثلا) وانحدرنا إلى وادي الحاج ، ثم اعتلينا هضبة التيه عند جبل صدر الحيطان . كان كل شئ حتى الساعة يسير وفق المرام ، ولكن لم نكد نرقى الهضبة ، ونوغل في الصحراء ، حتى قامت
الصعوبات ، وتوالت المتاعب ، فتوقفت السيارات عن المسير عند مفترق الطرق ، لقيام نفاش حاد بين الحواجة تلحمي وسائق سيارته ، حول أي هذه الطرق يوصل إلى (نخل) (١) ، وطال وقوفنا ، ولم ينته النقاش بينهما إلى رأي ، وتدخل الأعضاء ، فصرح لهم تلحمى بأنه يجهل الطريق ، وانه لم يسبق له أن قام بمثل هذه الرحلة في هذه البقاع ، وانه يعتمد في معرفة السبل ، ومحطات المبيت ، على سائق سيارته المدعو نور ، وتملص نور بدوره ، وقال :
إن خبرته بهذه الجهات قليلة ، وإنه لم يسبق له أن سلك هذا الطريق إلا مرة واحدة ، وكان ذلك من زمن بعيد .
فكان لهذه التصريحات في نفوس الأعضاء رد فعل شديد ، فثارت خواطرهم واضطربوا ، فرأيت من واجبي أن اتقدم بالنصيحة ، واستعنت بخريطة كانت معي على تعرف الاتجاه . وأرشدت نور إلى الطريق السوي ، فهدأت ثائرة القوم واغتبطوا ، وتقدم الركب في طريق (نخل) فبلغناها عند الظهر . وبعد استراحة قصيرة ، واصلنا السير إلى بئر التمد ، ثم إلى مفترق الطرق عند مشاش (الكنتلا) (٢) فوصلناه في المساء ، وكان القمر في أوج نوره ، ساطعا يملأ الصحراء ضياء وبهجة ، فأوقفنا السيارات ، وانطلقت بسارتي ، وسعي الطبيب وزوجته ، شريكاي في السيارة ، نرتاد الوديان ، للبحث عن استراحة مصلحة الحدود . وبعد بحث طويل ، وجدنا الاستراحة على قمة ربوة عالية ، مشرفة على واد فسيح ، ولكن كان قد سبقنا في النزول فيها نفر
من ضباط الإنجليز ، فعدنا أدراجنا آسفين . لحرماننا من نوم مريح هنئ . في تلك الليلة الباردة ، وفي العودة ضلننا الطريق ، وأخذنا نخبط في الوادي خبط عشواء ، فاقتحمنا سور حديقة . وارتطمنا بحاجز بئر ، وكادت سيارتنا تسقط فيه . ولم نعد لمعسكرنا إلا عند منتصف الليل ؛ فوجدنا رفقاءنا مستغرقين في النوم ، متكدسين هم ومتاعهم في خيمة واحدة ؛ من غير نظام أو ترتيب ، وقصدنا صندوق الطعام لتناول العشاء فوجدناه فارغا ، وحاولنا زحزحة الرفاق قليلا لتحظي زوجة الطبيب بمكان في الخيمة ؛ فلم نفلح فارتمينا نحن الثلاثة على الرمل وتمددنا في العراء ، وغلبنا النعاس فنمنا حتى الفجر . واستيقظنا ونحن ترتجف من طل الليل وشدة القر.
تابعنا السير في الصباح ، من غير أن نذوق طعاما ، أو نشرب (شايا) لنفاد كل ما كان قد اشتراه تلحمي من السويس في وجبة العشاء بالأمس . ووصلنا (سطح العقبة) (١ ) بعد ساعتين مجهدين ، نشكو من الجوع واعتلال المزاج ، فعرض علينا نور - سائق سيارة تلحمي - أن يبيعنا فتجان الشاي مع قطعتين من السكر بخمسة فروش ، والقطعتين من "البسكويت" مع قليل من " المربي " بعشرة قروش وادعي تلحمي أن نور كان قد أحضر هذه الأشياء لاستعماله الخاص؛ فوافقنا مرغمين ، وانتهزها تلحمي فرصة ، فنصب سوقا باع فيه واشترى ، وابتز نقودنا من غير حياء .
ثم اجتزنا العقبة ووصلنا شاطئ الخليج عند الظهر ، واستقبل الرفقاء البحر بالصياح والتهليل ، ثم تعروا من ملابسهم ، رجالا ونساء ، إلا من بعض ما يستر ، وارتموا في الماء يستحمون ويسبحون .
وجلست على صخرة بالقرب من الشاطئ ، أمتع النظر بمشاهد البحر والجبل ، ووقفت بجاني زوجة الطبيب تنظر إلى المستحمين ، وهي ثائرة تبرطم" تصب اللعنات ، على هذا الزمن الذي غاض فيه الحياء وسألتني بانكار : هل يجوز أن تنزل النساء إلى الماء هكذا عراة في مكان واحد مع الرجال ؟
فقلت لها : إنا في الخلاء ، وهن جميعا متقدمات في السن ومتزوجات .
فقالت : صه يا صاحبي . إننا في انجلترا لا نسمح بمثل هذا الفجور .
وبينما نحن في مثل هذا الحديث ، إذ تطلعت السيدة ، فوجدت زوجها قد تسلل إلى الشاطئ ، وشرع في خلع ملابسه ؛ فصرخت وقالت : انظر ! ألا ترى زوجي ! هذا الأحمق العجوز الذي جاوز الستين ، إنه هو الآخر يهم بنزول الماء ليحظى ببعض النظرات ، ألا تبا للرجال ، ثم تركتني وانطلقت مهرولة إليه ، حتى إذا بلغت الشاطئ ، أمسكت بكتفيه ، وأخذت تسحبه من الماء ، وهي تصيح به : ماذا أعجبك منهن أيها الأبله وأخذ هو حاول الإفلات منها ، ولكنها تخلبت عليه ، فانصاع لها ، وخرج ، بين قهقهة الجماعة وضحكاتهم .
لم يترك الرفقاء البحر ونستأنف السير إلا بعد أن انهكهم التعب ، ووصلنا بلدة العقبة قبل العصر بقليل .
لقد كان سلوك الرفاق في العقبة - وكلهم من الكبار- ضربا من عبث الصغار ، إنهم لمعذورون ، لقد كانوا يؤملون أن يجدوا فيها ، بعد هذه الرحلة الشاقة في جبال سيناء . بعض ما اعتادوه في المدن من أسباب الترفيه ، ولكن خاب أملهم . فالعقبة بلد فقير صغير ، ليس فيه مطعم ، ولا مقهى ولا شئ غير البحر والرمل والنخيل .
قضينا الليلة في العقبة ، ولم نكد نجمع الشمل في اليوم التالي ، وتركب السيارات ، ونستعد للرحيل ، حتى فوجئنا بتمرد السائقين ، فوقف نور البربري ليخطب فيهم ، وقال : تذكروا أيها الإخوان أن الطريق إلى (معان) يخترق جبال الحجاز. وسنلتقي في الوديان بجنود ابن السعود ، وسيسألوننا ونجيب ، ولن يتركونا من غير حساب ؛ فوويل لكم من سيوف ابن السعود ، فهل فيكم من يرغب أن يعود إلى بيته من هذه الرحلة . وهو أكتع وأعرج وأعمى ومجدوع الأنف ؟ فأجابوا جميعا بالنفي ، ثم التفت إلينا ، وقال : أيها السادة : ألا ترون أن نختصر الطريق ونعود من هنا
سلتين ؛ فما معان والبطرا والعقبة إلا سواء : رمل وزلط وجبال . فاتقوا الله ، ويكفينا ما شربناه من الغلب في سيناء .
تخرج الوقف بعد هذا الكلام وتعقد . وبينما نحن مجتمعون نحاول الوصول إلى حل ، والسائقون جلوس على الشاطئ في انتظار النتيجة ، إذا بنا نسمع صراخا مروعا ، دوي عالية في الفضاء وإذا بالسائقين يتفرقون مذعورين ، ويهرعون إلى السيارات ، وإذا بنا نتابعهم فنركب السيارات كذلك ، وإذا بالسيارات تندفع إلى الأمام في الطريق المرسوم الذي يؤدي إلى معان .
جرى كل ذلك في لحظات ، ولم نتبين السر فيما حدث ، وفي الطريق قص علينا حسن السوداني - سائق سيارتنا - ما حصل على الشاطئ . فقال : إنه بينما نور ينكش بيده في شق ، خرج من الشقي " أبو جلمبو " كبير ، وارتمي علي صدره ، وتعلق بطيات ملابسه ، ثم اندس بين جسمه وقميصه ؛ فارتاع للسكين ، وصرخ ، وأخذ يقفز في الهواء ، ويدور على نفسه ، ويلطم جسمه بكلتا يديه كالمجنون ، وتولانا نحن رعب شديد ، فجرينا من غير وعي وركبنا السيارات .
دخلنا وادي (اليتم) عند اصفرار الشمس . ثم أقبل الليل ، وأظم الوادي ، وعصفت الريح ، واشتد البرد ، وبدت الحبال قائمة موحشة ، ولم نصل (قويره) (١) إلا قبل منتصف الليل . فنصبنا خيامنا على سفح الجبل ، ولم يتسع لنا الوقت لطهى الحروف . الذي كنا قد أعددناه في العقبة لعشائنا . فعلقناه في الهواء الطلق لفطور الصباح ، وآوينا إلي الخيام ، وعبثاً حاولنا النوم . فالجوع والتعب والبرد وصلابة الأرض من تحتنا حالت دون ذلك ، وقمنا في الصباح نبحث عن الحروف . فإذا الذئاب قد سطت عليه أثناء الليل وهربت به إلى الجبال .
غادرنا (قويره) في الصباح ، ثم ارتقينا جبال (السراء) وعند الظهر ظهرت معان بمنازلها البيضاء . على حدود بادية الشام ، وسط بقعة جرداء ، لا نخيل حولها ولا زرع .
كان اليوم عطلة ، وأسواق معان مغلقة ، فداخلتنا الخبرة لنفاد مئونتنا . فجلسنا على قهوة ، وانطلق الخواجة تلحمى يجوب الأزقة والحارات باحثا عن حل ، وطالت غيبته فغادرنا معان قاصدين (البطرا) قبل أن يدهمنا المساء ، وتركناه ليلحق بنا بعد أن يحصل على حاجتنا من الطعام والبنزين ، وفي الأصيل أشرفنا علي وادي موسى العظيم ، ثم نزلنا في طريق شديد الأنحدار ، ووقفت بنا السيارات علي مرحلة من الوادي ، ثم ركبنا خيولا هزيلة صغيرة للأعراب . لتنقلنا باقي الطريق إلى البطرا ، فوصلناها عند الغروب ، وجلسنا في ساحة المدينة أمام أحد الكهوف في انتظار الخواجه تلحمى ، وطال بنا الانتظار ، واستبد بنا الجوع . ثم اشتد البرد ونزل الصقيع . فأوينا إلي معبد منقور في الصخر ، وأشعلنا العشب الجاف لنصطلي ، فكدنا نختنق من تكاثف الدخان ورائحة الحريق ، ولكنا فضلنا البقاء حيث كنا مع الاختناق على الخروج إلي الهواء الطلق لهبوط درجة الحرارة في العراء إلى ما تحت الصفر .
وأخيرا أقبل الخواجه تلحمى ، وكان معصوب الرأس مخدوش الأنف . راكبا فرسا تسير الهوينا ، وقد تدلت ساقاه على جانب السرج ، وزحفت قدماء على الأرض .
يسنده أعرابيان من الأمام والخلف ، وهو يئن و ويتألم . لإصابته في حادث لسيارته ، أثناء الطريق ، فحملقنا فيه ، وتركزت ابصارنا عليه . وكان من حسن حظه في تلك الليلة ، أن حمل لنا سمه من معان ، سلة كبيرة كانت تفوح منها في الجو رائحة الكعك والفطير والشواء . فنسى القوم تلحمى وإصابته وما كانوا يضمرونه له من وعيد وانقضوا على السلة ، فخطفوها من يده وقطعوا رباطها ، وأخرجوا محتوياتها ، ثم انهمكوا في التهام أكلة دسممة شهية لم يتذوقوا مثلها ، منذ أن غادروا القاهرة من أربعة أيام .
كان صباح اليوم التالي منعشا جميلا ، وشروق الشمس على رءوس الجبال بديعا ساحرا ، فاستعدنا نشاطنا ، ونسينا متاعب الطريق ، وذهبنا مبكرين لزيارة الآثار .
