كنا تسعة من الرفاق من شعوب مختلفة جمعتنا المصادفات فاحسسنا رغبة مشتركة للقيام برحلة إلى قلب شبه جزيرة طور سيناء لزيارة ديرها الشهير (دير سانت كاترين) فاتفقنا على تنفيذ الرغبة رغم ما تنطوى عليه من مشقة ومتاعب جمة ولكنها كانت رغبة ثائرة دفعتنا الى العمل بحماس شديد ساهم فيه الشباب منا والكهل والشيخ على حد سواء- وبعد أن استكملنا عدتنا من مرافق السفر والإقامة وتزودنا بكل ما يلزمنا من معلومات وخرائط. استأجرنا أربع سيارات من نوع معروف بالمتانة ومقاومة الصدمات والرجات العنيفة. ثم جعلنا إحداها لحمل المعدات والأخريات لركوب الجماعة.
تستغرق هذه الرحلة عادة أسبوعا كاملا ثلاثة أيام فى الذهاب ويومين فى الأقامة والتفرج على الدير ومثلهما فى العودة، هذا اذا لم تصادفك عراقيل فى الطريق ولكن كثيراً ما يضيع على المسافر يوم أو بعض يوم فى إصلاح ما قد تصاب به سيارته من عطب أو فى انقاذها من ورطة، فقد تغوص
عجلاتها فى الرمل ولا يتيسر اخراجها منه الا بجهد ومشقة، وتعتبر الكثبان الرملية من أكبر معطلات الأنتقال السريع فى الصحراء. وهى تعترض الطريق فى كثير من الجهات. وكذلك جلاميد الصخر وهي منتشرة فى كثير من الوديان ومجارى السهول، الا أنها أقل خطورة من الكثبان.
والمسافة بين القاهرة والدير نحو ٤٢٥ كيلو مترا يقطعها المسافر عادة فى ثلاث مراحل: المرحلة الأولى من القاهرةإلى السويس، والمرحلة الثانية من السويس الى ابى زنيمة على خليج السويس، والمرحلة الثالثة من أبى زنيمة الى الدير.
غادرنا القاهرةبعد ظهر يوم الخميس ٢٣ أبريل ١٩٣١ بساعتين قاصدين السويس عن طريق الصحراء، فوصلناها فى الاصيل وبتنا فيها. وفي اليوم الثانى عند الفجر عبرنا قنال السويس إلى الضفة الشرقية عند نقطة الشط، وبعد أن فحصنا سياراتنا ورتبنا معداتنا انطلقنا نسير نحو الجنوب فى طريق رملى منبسط -وعن يميننا خليج السويس وعن يسارنا تلال تتدرج فى الارتفاع كلما ابعدت عنا نحو الشرق- وبعد ساعة من الشط مررنا بعيون موسى وهى عبارة عن واحة صغيرة قريبة من الخليج خالية من السكان وبها عين ماء راكدة ونخيل وبعض أشجار اخرى. وعند الظهر قطعنا وادى الغرندل. وهو واد عريض يسير من الشرق إلى الغرب، كثير الشجيرات، وافر الكلأيتوسطه مجرى من الماء العذب. وبعد وادى الغرندل تتغير طبيعة الطريق فيصير صخريا فى كثير من اجزائه كثير التعاريج والالتواءات بين انخفاض وارتفاع، وتقوم فى جهته الغربية سلسلة من جبال عالية تحجب البحر ونسيمه. وقبيل العصر برزت امامنا جبال المنجنيز بلونها الأدكن وعلوها الشاهق. وبعد أن مررنا بوادى الطيب وهو كوادى الغرندل كثير الماء، انعطف الطريق نحو الغرب . وبعد أن اجتزنا مضيقا بين جبلين، انحدرنا نحو البحر الى سهل واسع مواز للخليج تقع أبو زنيمة فى طرفه الجنوبى على مرفأ صغير للسفن وهي عبارة عن قرية صغيرة بها منشئات شركة المنجنيز ومستودعاتها ومساكن
الموظفين والعمال ومسجد ومدرسة أولية ونقطة بوليس ومكتب للبريد والتلغراف ودكان صغير (كانتين) قد يجد فيها المسافر بعض ما يلزمه كالأطعمة المحفوظة والبنزين والسجاير، وبالقرب من الدكان المذكورة مستودع للماء العذب الذى يؤتى به من السويس فى البواخر والشركة تعطيه للمسافر من غير مقابل.
كان وصولنا إلى أبى زنيمة قبل الغروب بساعة فلم نشأ المبيت بها بل تابعنا السير والطريق بعدها لمسافة ليست قصيرة ضيق يسير فوق صخور عالية تشرف على البحر من جهة وتحف بها الجبال من الجهة الاخرى، وعند الغروب وصلنا إلى نقطة بوليس لخفر السواحل واقعه على البحر تبعد عن السويس نحو ١٥٤ كيلومترا فبتنا بالقرب منها.
وفى صباح اليوم الثالث تابعنا السير جنوبا فى الطريق المؤدى الى الطور مبتعدين عن الطريق الشرقى للدير لكثرة رماله الناعمة وهو الذى تسلكه عادة سيارات مصلحة الحدود. وعند الظهر وصلنا الى نقطة تفرع منها طريق يتجه شرقا وهو طريق وادى فيران الموصل الى الدير فتبعناه وبعد ساعة -وكان تقدمنا بطيئا جدا لليونة الارض وكثرة الجلاميد بها- دخلنا
وادى فيران العظيم، وهو من اجمل الوديان التى شاهدتها. طوله نحو ١٢٠ كم، كثير التعاريج وجباله جرانيتية شاهقة ذات الوان متعددة بين
ابيض واسود واحمر، وجوانبها تكاد تكون رأسية وقممها مخروطية تناطح السحاب والوادى كثير العشب والخيرات. وتقع واحة فيران فى منتصفه طولها نحو اربعة كيلومترات، يرويها نبع من الماء الزلال يتفجر من جوانب الصخر، ويسيل فى مجارى تتخلل بساتين الواحة وترويها، والواحة عامرة بالناس والحيوان والمزروعات والحشائش، ففيها من الحيوانات الجمل
والغنم والماعز، ومن المزروعات القمح والشعير والبقول، ومن الاشجار النخيل والليمون المالح والتفاح والنبق والتين والزيتون والسرو والعنب والصبير وغير ذلك من الاشجار البرية التى لا اعرف لها اسماء.
كان وصولنا إلى الواحة قرب الغروب بساعة فنزلنا ضيوفا على الحديقه التابعة للدير وبتنا تلك الليلة بها، وقد رحب بنا الراهب المشرف على الحديقة وزاد فى اكرامنا فهيأ لنا عشاء شهيا مركبا من شاة مشوية وبعض البقول المطبوخة والفواكه المحفوظة.
وبعد العشاء جلست الى الراهب استمع لما يقول وهو من أصل يونانى يتكلم العربية برطانة ولكنها مقبولة مفهومة قال: جئت هذه الواحة موفدا من قبل المطرانية منذ ستة عشر عاما وكنت قد جاوزت الستين فوجدت فيها ما كنت أنشده من العزلة وطيب الاقامة ولا يزيدنى مرور الأيام الا التصاقا بها ومحبة فيها وقد عشت مع هؤلاء البدو الطيبين عيشة عائلية
لم تشب عشرتنا طول هذه المدة أية شائبة، وكل ما أتمناه ان تكون حجرتى الصغيرة هذه -مشيرا الى حجرة تتوسط الحديقة- وهى التى آوتنى طوال هذه السنين فى قيظ الصيف وزمهرير الشتاء، أتمنى ان يكون فيها لحدى كذلك. ثم سكت وأطرق برأسه، وبعد أن تثاءب طويلا اخذ يرتل نشيدا دينيا بصوت خافت ونغمة عذبة شجية طربت لها وأهاجت عواطفى حتى كدت ابكى ثم اتجه الى ناحية فى الحديقة ودعانا نرقب الهلال من بين ربى سربالة فكان مشهداً لم أر أجمل منه.
ومظهر الحديقة وحسن تنسيقها يدلان على ما يبذله هذا الشيخ من عناية ومجهود، ويقوم على خدمتها جماعة من البدو بارشاده وله عندهم مكانة واحترام، وهو يعيش بينهم آمنا مطمئناً ويعيشون فى كنفه مسالمين قانعين، وهو المتصرف فى شئون النبع فلا يسمح لبساتين الأهالى من مائه الا بما يزيد عن حاجة حديقته.
ويشرف على الواحة جبال سربالة بجدرانها القائمة وقممها الضاربة نحو السماء برؤوس مخروطية كالسهام. وقد شاهدنا بين الربى مبان قديمة قيل لنا إنها منازل رومانية أثرية ومن بينها صوامع للرهبان.
وفى صباح اليوم الرابع تابعنا السير بين مناظر طبيعية رائعة خلابة وكان تقدمنا بطيئاً كاليوم السابق لتصعيد الطريق وقبل الظهر مررنا بقبة على ربوة بجانب الوادى قيل لنا إنها مقام نبى الله صالح عليه السلام وبعدها تغيرت معالم الوادى واتجهنا نحو الجنوب ثم مال بنا الطريق نحو الشرق وارتقى بنا فى واد شديد الانحدار، وهناك فى أحضان جبال ثلاثة وعلى ارتفاع ألف متر من سطح البحر أو يزيد، ظهرت لنا حديقة الدير بأشجارها الباسقة ومن خلفها الدير نفسه رابضاً عند سفح جبل موسى كالحصن ثابت الأركان عالى الجدران تعلوه المنازل والابراج. (لها بقية)
