الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 3الرجوع إلى "الفكر"

رد و إيضاح

Share

نستسمحك حضرة المعقب الكريم في ان تتفهم هذه الاجابة عن ردودك التي لم تكن لتاخذ منا اي اهتمام لو لا الرغبة الملحة في اغتنام كل فرصة سانحة لتوكيد ما ذهبنا اليه من رأي في ابي القاسم وانتاجه العظيم ، ولتوكيد هذا الايمان الراسخ وهذا المعتقد المكين الذي كنا وما زلنا نعلنه ازاء ادب الشابي .

اننا سوف لانضمن اجابتنا هذه مناقشة السيد المعقب في تلخيصه المشوه وعرضه المخل لما تحددنا به من رأى في كتابتنا عن تجربة الشابى ؛ كما اننا سوف لا نحاول الوقوف معه في خصوص فهمه للوجهة التى نقدنا منها طرائق البحث واساليب الدرس التقليدي للانتاج الادبي على العموم ، وانما كل الذي سندرجه في هذه الاجابة العاجلة هو مجرد دفع لهذه الاوهام التي اريد الصاقها بحقائق تكاد تكون عيانية لا يرى المجادل فيها والمعترض عليها الا مكابرا او خاطئا .

الوهم الاول

فهم السيد المعقب ان معتقد الشابي فى وحدة الوجود ذلك المعتقد الفني الصناعى البحت ، ذلك المعتقد الادبي الفلسفي ، هو معتقد ديني صوفي ومن هنا جاءت نقوله ومحفوظاته لتتبنى عنى توضيحه لحضرات القراء الكرام الذين لا اظنهم الا مجازين مجهوده باجر واحد لا باجرين طالما قد اخطأ في الحدس ولم يصب في فهمه لوحدة الوجود التي وقع تبيانها منا وتوضيحها بالشكل الصريح

واننا لا نريد احالة السيد المعقب الى المقال حتى يعيد فيه " السلكة الثانية " عله يهتدي لمحتواه مليا ويتفهم المقصود منه في شيء من الامعان والتروي بل هذه مقتطفات تفيه بالحاجة نقتطفها من المقال لنبين بها للسيد المعقب ان الفكرة المرجعة وقع تفسيرها وتوضيحها من جهة ومن اخرى لنعطي برهانا على وهمه الخاطئ في تبنيه لتوضيح شىء لم يرد شىء يشير اليه فى مقالنا قطعا

" فالشابي في مواقف الاخفاق والانهيار مثلما هو فى مواقف النصر والتوفيق يؤول ويعود الى العالم المطلق الى الطبيعة تلك الام التي يجد في الاستسلام

اليها والانساق مع نواميس كينونتها كل ما يتطلع اليه المكتئب من عميم السلوى وبشائر الائتناس ، فهو يستودع احزانه ويستقبل نشوته في اتحاده باصله واللجوء الى عوالمه الزاخرة التي حوت كل شيء ، انه بامكانه النيل منها والظفر منها بكل مطمح طالما هو يعتقد وان صلته بها وراثية ازلية - فهو على ما نراه يجد في اتحاده او توحده بالطبيعة في صورها المواتية لحالته ، الموافقة لمزاجه المتقلب خير حل لاصرعته النفسية والفكرية التى يكابدها - فهو في معالجته للمواضيع المختلفة يستوحي خرائد فنه وعرائس شعره من طبيعة هذه الفكرة الموجهة التى تملي عليه تفسير ما يعترضه من معضلات الوجود ومشاكله بما قد يشابهها او يدانيها من صوره الاخرى فالوجود الابدي هو بهذا المعنى مصدر وحيه ومنبع الهامه ، والاعتقاد في الوجود الابدي في وحدته الازلية الخالدة هو الذي جعل الشابي يلتجىء اليه

بحثا عن متشابه الصور ومتقابل الاحداث حتى يفسر بعضها ببعض ويعالج بفنه موضوعا من مواضيعه فى تمثله ذهنيا كان لو كان عين الموضوع الذي له به كبير الشبه ووطيد الاتصال - فالشابي بفكرته المرجعية اصبحنا ننظر لكل عمل من اعماله على انه متمخض عن عملية نفسية تستدعي منه اتحاده بالوجود ففي هذه العملية الاتحادية اجواء الالهام والابداع وآفاق الخلق والتعبير "

هذه فقرة اوردناها في مقالنا أليس فيها توضيح للفكرة المرجعية يا حضرة المعقب ؟ ! . . . انها صناعية فنية . . انها فكرة ائتلافية تحدد معرفتنا لطبيعة التجربة الشعرية التي انتهى اليها الشابي في اطارها التكاملي . . انها فكرة ليست من قبل المستدعيات الفكرية التي توحيها آراء شاعرنا نفسه في موقف من مواقف تجربته بل هي جوهر آرائه وام فكره وتاج اعماله الادبية كلها

" فالشابي في هذه القصيدة يجسم لنا المجردات تمشيا مع معتقده المبدئي في صناعة الشعر ذلك المعتقد القائل بان اي موقف واي حدث له ما يناظره ويشابهه في الوجود الأكبر او الطبيعة وما على الفنان او الشاعر الا ان يتحسس هذه النظائر والاشباه في الاتحاد الذهني او التصوري بعوالم الطبيعة التي هى صور متشابهة على الرغم مما يبدو عليها من جسيم التناقض والتعارض - ففي هذا الاتجاه يرى الشابي على ما هو واضح من شعره ، امكانية الخلق الفني وامكانية الاجادة والابداع وامكانية تلقي الوحي الابدي "

هذا مقطع آخر اليس فيه تفسير للفكرة المرجعية التي هي ليست بصوفية كما وهمت سيدي المعقب المحترم بل هي كما ترى فكرة فنية صناعية عنها يتملى الشاعر وحيه ومستدعياته الشعرية ثم لتحاول اعادة قراءة هذه الجمل الاخرى التي هي غنية عن التعليق في انها توضح توضيحا صريحا مقصودنا الذي هو معتقد الشابي نفسه في هذه الوحدة الوجودية او هو رايه المرجعي فى كل انتاجه .

" فالشابي في تداعيه الفكري الشعري - كما يبدو من خلال قصائده - لم يكن الا متأثرا بهذه الفكرة الفنية التي تدفع به الى الشعور بعناصر الوجود واحداثه في اطار تلك الوحدة المتماسكة التي تجعل هذا الشيء مفسرا بذاك ، وهذا الحدث منظور اليه في صورة ائتلافية اقترانية مع ما يقاربه او يشابهه او يطابقه من صور الوجود واحداثه اللانهائية " .

اليس في هذا الكفاية لتوضيح هذه الفكرة المرجعية يا حضرة المعقب الحصيف أفلا تتدبر ؟ ! ثم اننا نراك في حرج من تخلف المراجع عليك وتباعد المصادر والمستندات عنك ففي ما حرجك والموقف لا يتطلب منك الا اعمال الذهن في ما هو بين يديك من تراث الشابي نفسه .

فنحن اذ ذهبنا إلى ما لم يهتد الى تعلقه السيد المعقب لم نستند الى ما تواتر عن الشابي بين اصدقائه الاكارم او ما خص به بعضهم من كوامن نفسه ودفين اسراره بل اعتمدنا مقولاته وآثاره التي وجدناها مناهل ثرة وحياة متجددة بما جعلنا نستلهم اسرارها مباشرة في شيء من الوثوق والاعتداد بانتاج ابي القاسم وبانفسنا . على ان اصدقاء الشابي المحترمين لم يكتبوا ولم يتفرغوا لعذر او آخر ليسجلوا لنا كل ما بانفسهم ازاء صديقهم ثم هم ليسوا بافصح ولا بادق تبيانا لما هو بقرارة نفسه من لسان نثره وترجمان شعره الذين حويا كل شيء وافصحا عن كل شيء .

ثم ما هذا النقد المعوج في مؤاخذتك لنا من حيث اننا ذهبنا فى رأينا ازاء الشابي الى وجهة لم يأت على السنة اصدقاء الشابي او في كتاباتهم عنه اي اشارة اليها فهذا ما لا قائل به فلماذا ومتى كان المنتظر من النقاد هو مسايرتهم او موافقتهم للسابقين عليه - فمتى بدا له من الرأي ما لا يوافق فيه جميع الاسبقين عليه فليس معنى هذا انه الخاطىء وغيره المصيب - فالمعاصرة الزمنية والمصافحة اليدوية لا تعني شيئا

في عرف معاصرة الراي للراي ومصافحة القلب للقلب فلقد تكاثر اصدقاء الشابي عند ما اصبح الجيل قادرا على فهم آرائه وفك رمزيته ومصافحة قلبه النابض بالحياة اما في العهد الذي قضى وانقضى فلا اذن سمعت ولا عين رات ولا بصيرة عقلت سوى عدد ضئيل وضئيل جدا استطاع ان يحلق في اجواء الشابي واستحق صداقته بحق وحق له بالتبع لذلك ان يغار عليه وان يستبسل في الذود عن مباديه ومراميه

الوهم الثاني

آخذنا السيد المعقب على اننا التزمنا بمبدا في بداية المقال ثم لم نلبث حتى نقضناه وتخطيناه في اثناء التحرير . هذا المبدأ هو القول لا بوحدة القضية فقط بل بوحدة الانتاج كله يرى السيد في تعقيبه اننا لم نتحدد بهذا الالتزام عندما اخذنا بيتا شعريا مفردا ودليلنا به على صحة ما ذهبنا اليه من راي في اعتقاد الشابي بوحدة الوجود كفكرة مرجعية لكل مواقف تجربته - لا ياحضرة المعقب هذا ما لا يوافقك عليه كل ذي صحة عقلية سليمة ذلك لاننا اوردنا في مقالنا ما اهملت قراءته او انك قرأته ونسيته او تناسيته عند كتابة التعقيب - فكل ما اوردناه من دلائل وشواهد عديدة ومتنوعة من شعر الشعراء لم يكن التنصيص عليها وذكرها بغير التدليل على صدق راينا في المعتقد الفني للشابي الذي حللناه ووضحناه فقد جئنا بكل الشواهد المذكورة على سبيل المثال لما هو موجود او مطرد الوجود في كل اثر من آثار الشابي النثرية والشعرية على السواء - فقد لخص السيد المعقب الفكر المحورية - كما يسميها - بما يتعارض مع مؤاخذته لنا فهو يذهب الى اننا قلنا بان هذه الفكرة المرجعية هي ليست ام تجربة الشابي فقط بل هي ركاز عملية تداعيه الفكري في كل انتاجه ثم هو يحبر بقلمه ان هذه الفكرة التي حللت اليها شعر الشابي هى مطردة الوجود في كل عمل ادبي فكيف به ينعتني بتخطى مبدأ القول بوحدة الانتاج في الاستدلال ببيت مفرد على معتقد نحن قلنا اولا وآخرا انه مطرد الوجود والملامح في كل اثر ادبي على الاطلاق . ان السيد المعقب يقتطع مثلا من امثلة التدليل على ما هو شائع الوجود في كل التراث الادبى للشاعر ويزعم اننا قد تملينا رأينا في الشابي من بيت مفرد . لا ابدا ، اننا اوردنا كل ما اوردنا من شعر الشابي في مقالنا من باب الاستشهاد على ما هو موجود بكل شعره ونثره على الاطلاق - ففى مقالنا عددنا ما لا يقل عن خمسة عشر موقف للشابي كان فيها متأثرا بما فهمه السيد

المعقب من بيت واحد وعجز عن فهمه من البقية الباقية من الشواهد والادلة بدعوى انه لا يحب ان يتمادى مع السيد الكاتب في استعراض بقية الادلة اذ كلها لا تعدو ان تكون تمنيات شاعر الخ . . . فالسيد المعقب ضرب صفحا عن ادلة لم يقتنع او لم يهتد الى دلالتها في موضوع الاستشهاد الذي لم يتصوره معقبنا اصلا كما ابنا ذلك

الوهم الثالث

التشاؤم عندنا ليس هو كما تعتقد ويعتقد الكثير مجرد مسحة يكتسي بها شعر الشاعر او انتاج الاديب بحيث يرى فيه الدارس صورة قاتمة لمشاعر مؤلمة واحاسيس مرة وليس فى شكاية الشاعر من دهره ومصيره او تبرمه من حظه العاثر ووسطه العاقر عندنا بل هو فكرة الأديب نفسه في عنصري اللذة والالم فاننا بدراستنا لتراث الاديب وقفنا على انه يرى بان لا خيار للانسان في مشكلتي اللذة والالم هكذا تمشيا مع معتقده في وحدة الوجود فلا هو بمعتقد في الالم كما فعل الشاعر " الفريد دي موسي " في قوله " الانسان صانع والالم معلمه " وفي قوله " لا يعرف الانسان حقيقة نفسه الا اذا تألم . ولا شيء كالالم العظيم يجعلنا عظماء " كما انه لم يعتقد في اللذة على انها مبدأ الحياة كما هو موقف " استيوارت ميل " و " سبنسر " وايليا ابي ماضي فيها بل نجد موقفه وسطا بينهما كما ابنا ذلك في مقالنا معززين خطانا بمستندات لا تقبل الشك ولا يأتيها الوهم .

الوهم الرابع

واخيرا لي ملاحظة ازاء ما تدعيه من غيرة على الشابي نظرا لما تربطك به من اواصر الاخوة وروابط الصداقة ، اننا اذا صدقنا انك كنت من هؤلاء الاصدقاء الذين لهم حقا وشائج التآخي مع شاعرنا الفقيد في الفكرة والمذهب الادبى بما لا يستطيع احد نكرانه قلنا اذا صدقنا ذلك فإننا نريد ان نسألك ياحضرة المعقب باعتبارك صديقا او معاصرا للشابي ان تجيبنا من هم اولئك الذين عاصروا الشابي واحتك بهم وكان له في احتكاكه بهم عظيم الخيبة وجسيم البلوى ؟ فهل تقدم للرأي العام احد منهم بوجهه الحقيقي بعد هذا النصر الباهر الذي احرزه ادب الشاعر العظيم ؟ بلى ياحضرة المعقب انهم كثيرون تقدموا . . تقدموا للرأي العام لكن مقنعين بعواطف نقيضة للتي كانوا يعاشرون بها أبا القاسم رحمه الله . تقدموا واعلنوا عن انفسهم بعواطف تشبه عواطف الغريم التي يثيرها موت غريمه او بعواطف تقترب من مشاعر الاعتزاز التي يبديها الند المنافس عند ما يرى اجماع الكل على نصرة نده وعندما يرى في مجرد التعرف على منافسه الاغلب واعلان هذا التعرف كل الفخر وعظيم التقدير والمكانة .

اشترك في نشرتنا البريدية