الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 88الرجوع إلى "الرسالة"

رسائل سفت بيف

Share

صدرت أخيراً مجموعة من رسائل سنت بيف العامة،  وهي قسم من رسائله التي لم تنشر، والتي تملأ نحو عشرة مجلدات،  وتولى إصدارها مسيو جان بونرو مقرونة بمختلف الشروح  والبيانات. ومسيو بونرو هو اليوم أعرف الناس بسانت بيف  وتراثه الأدبي. ويكفي أن نعرف سانت بيف بكلمة، هي أنه  أستاذ النقد في الأدب الفرنسي، ويعتبره بعضهم إمام النقد في  جميع الآداب والعصور وتشمل هذه المجموعة الأولى رسائله  العامة بين سنتي ١٨١٨ و ١٨٣٥، وهو بالنسبة لسنت بيف عهد  التكوين الأول منذ مقدمه إلى باريس صبياً في الخامسة عشرة حتى  التحاقه بتحرير مجلة   (العالمين)  وتوليه باب النقد فيها. وفي  هذه الفترة الحافلة درس سنت بيف الطب، وبرز في الصحافة،

ونشر كتابه عن الشعر الفرنسي في القرن السادس عشر، وأنجز  قسماً عظيماً من رسائله النقدية، وأخرج كتابه عن شعر يوسف  ديلورم وروايته   (الهيام) ، ثم تطورت حياته الأدبية واستقرت  حول النقد الأدبي. وفي هذا العهد أيضاً تعرف سنت بيف  بأقطاب الأدب في عصره مثل دي فيني ولامرتين وهوجو  وبيرانجيه وشاتو بريان، ولكن العلائق الودية لم تطل كثيراً بينه  وبين أحد منهم، لأن مهمته كناقد أدبي، وتوغله في ذلك الميدان  وصرامته وحدة قلمه، لم تفسح مجالاً لمثل هذه الصداقة الخاصة،

وهنا تلقى رسائل سنت بيف أكبر ضوء على هذه العلائق  والصداقات، وتبين لنا إلى أي حد كان النقادة الأشهر حريصاً  على رأيه واستقلاله؛ بيد أنها تكشف عن ناحية أخرى من  صفات سنت بيف، فهو لم يكن رقيق الطبع، ولم تكن روحه  ترتفع إلى مستوى ذهنه من السمو والصقل؛ والواقع أن هذه  الرسائل الخاصة ليست مما يؤيد عظمة سنت بيف، وإن كانت  تفسر لنا كثيراً من خواص روحه المعقدة، ففيها يبدو لنا قليل  اكرم، قليل الصراحة، مسرفاً في الحقد؛ ولعله لم يكن لينفذ  إلى فكر الغير ومواهبه وأسراره إلا لأنه كان كثير الحقد والبغض

ولئن كان سنت بيف بديعاً لا يجار في تصويره وتحليله للقدماء،  فان أحكامه على معظم معاصريه كانت تتأثر في الغالب بعواطفه  الشخصية، وليس أدل على ذلك من قسوته في الحكم على الفرد  دي فيني، وبلزاك، وشاتوبريان، ولامرتين

ذلك أن سنت بيف كان نكد الروح، وقد كان قبيح الهيئة،  وكان في حاجة لأن يحب، وكان رقيق الحاسة، معقد العواطف،  ولم يلق نجاحاً في الحب ولا في المكتبة كشاعر وكاتب وقصصي،  هذا بينما كانت تحيط به عبقريات سعيدة، محققة الأماني  والرغبات، تغنم كتبها تأييد الجمهور. ويروي أنه قال ذات يوم  إذ يشاد أمامه بعبقرية دوموسيه:   (لست أقل شعرية منه) . ولم  يكن سنت بيف يجهل معايبه، بل كان يفطن إليها ويشقي بها،  بيد أنه يجب أن نعترف بأنه كان يسمو دائماً بمثله الأعلى كناقد  ومؤرخ للآداب، وأنه لم يكن يدخر وسعاً في خدمة هذا المثل  بإخلاص، وهذا هو السر في عظمة تراثه الخالد

ولعل أهم ما تفصح عنه هذه الرسائل الجديدة لسنت بيف هو  علاقته مع فكتور هوجو؛ وقد اتخذت تلك العلائق صورة  مأساة حقيقية. والمأساة معروفة؛ ولكن الرسائل تلقي عليها  ضوءاً جديداً. وخلاصته أن سنت بيف وهوجو جمعتهما منذ  سنة ١٨٢٧ مدى ثلاثة أعوام صداقة خالصة لم تشبها شائبة،  ولكن سنت بيف تغير فجأة. ذلك أنه شعر أنه يهوى امرأة  صديقه؛ وهنالك رسالة عجيبة تفصح عن حالة سنت بيف النفسية  في أوائل سنة ١٨٣٠، وهي رسالة عنيفة صارمة ينذر فيها سنت  بيف بأنه لن يكتب عن رواية   (هرناني)  التي ستمثل يومئذ،    (وهرناني من تأليف هوجو) ، وأنه لم يعد يحتمل جو الصداقة  والشاعرية الذي يعيش فيه مع أصدقائه مذ تظاهر هوجو بأنه  زعيم مدرسة، وغص منزله بالمعجبين والأنصار حتى أصبح مكاناً  عاماً، والظاهر أنه قد وقعت بين الصديقين على أثر ذلك محادثة  اعترف فيها سنت بيف لصديقه بأنه يحب زوجه. وقد كان هوجو  في تلك المسألة جواداً كريم النفس، فاستقبل هجر صديقه  بأدب، مؤكداً له أنه سيلقي فيه دائماً أخاً وصديقاً. واعتكف

سنت بيف مستسلماً إلى الحقد والأسف والغيرة، مصوباً سهمه  لكل من لقيه في طريقه؛ وعكف هوجو على مكاتبته، يعزيه  وبروح عنه؛ ومضت ثلاثة أعوام، وسنت بيف ماض في طريقه،  وكلما التقى الرجلان آنسا تلك المرارة التي غشيت صداقتهما؛  وأخيراً ألقى سنت بيف قناعه، وأعلن الخصومة على صديقه،  فإستسلم هوجو للقدر. ولكن الذي لم يكن يعلمه هو أن زوجته  كانت تثابر خفية على رؤية سنت بيف في الأماكن المهجورة،  كالكنائس وغيرها، وكانت تتنزه معه في عربة. وما يزال  التاريخ يتساءل: هل كانت أديل هوجو زوجاً خائنة؟ والرأي  المرجح هو أن أديل كانت تبادل سنت بيف حبه، ولا سيما منذ سنة ١٨٣٢، أي مذ غدا زوجها عاشقاً لجولييت درديه. وقد  ضاعت رسائل أديل لسنت بيف، ولكن سنت بيف كان يحتفظ  بصور بعضها؛ وفيها تتحدث أديل عن حبهما. ولقد أيد لوي  بارتو في كتابه   (غرام شاعر)  زلة أديل ودلل عليها

وإن في رسائل هوجو مع ذلك ما يدعو حقاً إلى التأثر، فقد  لبث يجهل كل شيء مدى أعوام، وتطبع رسائله إلى سنت بيف  بساطة وثقة ومودة مؤثرة، فلما ظهرت الحقيقة ووقعت  الفضيحة كانت شديدة على نفسه، ومع ذلك فان أديل هوجو  لبثت حيناً بعد ذلك ترى سنت بيف وتحاول أن توفق بين  الصديقين القديمين، وذلك شاهد في رأى البعض على براءة أديل  وطهرها. أكانت تسعى إلى مثل هذا الوفاق لو كانت امرأة خؤوناً؟

اشترك في نشرتنا البريدية