اجتهدت في رسالتي السابقة ان ابين الفروق البارزة بين مدنيتنا ومدنيتكم ، هذه الفروق التي ادت اخيرا إلي النزاع بيننا . ولقد برزت الحوادث الأخيرة فكرة اننا نحن المعتدون في هذا النزاع ، ولكن الواقع ان لا شئ أبعد عن الحقيقة من هذا ، لاننا لو تركنا لانفسنا ما سعينا قط إلي الإتصال بالغرب ، فليس ثمة ما يحفزنا إلي شئ من هذا . إننا لا نريد ان نبدل عقائد الناس ، ولا تريد أن نتجر معهم . إننا نعتقد ولا شك ان ديننا اقرب إلي المنطق من دينكم ، وان أخلاقنا أرقي من أخلاقكم ، وان نظمنا أدنى إلي الكمال من نظمكم ، ولكنا في الوقت نفسه ندرك ان ما يناسبنا نحن قد لا يناسب غيرنا من الناس . ولا يخيل
إلينا بحال من الأحوال أن علينا رسالة نحو العالم - ننقذه من الشر أو ندعوه إلي الرقي . وابعد من هذا ان نتصور أن مثل هذه الرسالة يمكن أن تؤدي بالسيف والنار نحن قوم راضون قانعون ، نحمد الله إذا استطعنا ان نحل مشاكلنا نحن دون درن ان نثقل انفسنا فوق هذا بمشاكل غيرنا
وإذا كنا غير مضطرين لان نتدخل في أموركم برغبة الدعوة إلي ديننا فنحن كذلك غير مضطرين إلي التدخل في أموركم بضغط حاجاتنا التجارية إننا في غني عن غيرنا سياسيا واقتصاديا ، فالذي ننتجه نستهلكه ، والذي نستهلكه هو ما ننتجه . إننا لا نحتاج إلي إنتاج الامم الاخري ولا نسعى إليه ، بل إننا نؤمن ان جانب الظلم في إشهار الحرب على غيرنا بقصد فتح أسواقهم التجارية لا يقل خطرا عن جانب التهور في مثل هذا العمل . إن المجتمع الذي يريد لنفسه أن يكون ثابتا من الناحية السياسية لا بد - فيما نعتقد أن يكون مستقلا اقتصاديا ، بل أكثر من هذا ، إننا
نري أن التوسع في التجارة الخارجية يقود حتما إلي التدهور الاجتماعي .
ومن هذا ترون أن مبدأنا في هذه المسألة كمبدئنا في كل شئ آخر ، يخالف مبدأكم كل المخالفة . فأنتم لا تؤمنون أن دينكم وحده هو الدين الحق فحسب ، ولكنكم تعتقدون في الوقت نفسه أنه من واجبكم أن تفرضوا هذا الدين علي الأمم الآخرى فرضا ولو بحد السيف . وإن كان هذا الاعتقاد في وجوب نشر دينكم يدفعكم إلي الاعتداء علي غيركم ، فإن هنالك دافعا آخر أقوي منه وأشد خطرا ؛ ذلك أن مجتمعكم من الناحية الاقتصادية قد بني علي نحو يجعله باستمرار على حافة الهلاك جوعا . فأنتم لا تستطيعون إنتاج ما تحتاجون إلي استهلاكه ، وفي الوقت نفسه لا تستطيعون استهلاك ما أنتم مضطرون إلي إنتاجه . إن المسألة بالنسبة إليكم مسألة حياة أو موت ، لا بد لكم من أن توجدوا أسواقا تتخلصون فيها من إنتاجكم وتحصلون منها على قوتكم وخاماتكم . والصين أليق ما تكون لتحقيق هذا أو قد تكون كذلك . وفتح هذه السوق هو ، في الحقيقة ، الدافع في كل معاملاتكم معنا في هذه السنوات الأخيرة وإن اجتهدتم في حجب هذا الدافع بقناع شفاف أما حكم مثل هذه السياسة من الناحية الخلقية ، أو حتي من ناحية العدل المحض ، فإني لا أتعرض له ، إنها سياسة تمليها الحاجة المادية ما في ذلك شك ، وعلي هذا الأساس أري أنه من العبث أن نناقشها ، كل ما أريده الآن هو أن أعرض وجهة نظرنا نحن في هذه السياسة ، وأن أبين لكم الدوافع التي تدفعنا إلي احتقار اعتدائكم
إنه لعجيب حقا ، فيما يري التاجر البريطاني العادي ، أن نعترض نحن ما تسمونه انتم بفتح منابع الثروة القومية . إن التاجر البريطاني العادي ينظر إلي كل شئ كما اعتاد أن يفعل دائما من وجهة نظر المكسب والخسارة ، وهو يعتقد انه ما دام قد ثبت ان طريقا من الطرق تعود
حتما إلي ازدياد الثروة ، فإن معنى هذا أن مثل هذه الطريق يجب أن تسلك . وهو مقتنع أن فتح أبواب الصين للأموال الأجنبية والتجارة الخارجية يؤدي بلا شك إلي نماء الثروة ، فيستنتج من ذلك أنه من صالحنا إذن أن نرحب بمشروعاته بدل أن نقاومها . وهو محق بلا شك إذا أخذنا بوجهة نظره ، ولكن وجهة نظرنا تختلف عن هذه جد الاختلاف . فقد اعتدنا قبل أن نسلك أي طريق ، أو قبل أن نتخذ أي قرار في سياستنا ، أن نقدر عواقب الأمر لا من حيث مجرد أثرها في مجموع ثروتنا ، ولكن من حيث ما يختلف عن هذا كل الاختلاف ، من حيث أثرها في كياننا الاجتماعي . فأنتم أنتم تنظرون دائما إلي وسائل الحياة ، بينما ننظر نحن إلى الحياة نفسها ، إلى صفتها وإلي قيمتها . وعندما تطالبوننا كما تفعلون في الواقع ، أن نقلب مجتمعنا رأسا على عقب ، بأن نتحول من أمة زراعية إلى أمة تجارية صناعية ، وأن نضحي باستقلالنا السياسي والاقتصادي في سبيل رخاء مزعوم ، وأن نحدث ثورة لا في صناعتنا فحسب ولكن في معاملاتنا وأخلاقنا ونظمنا ، عندما تفعلون ذلك لا أقل من أن تعذرونا إذا وقفنا وقفة لننظر نظرة فاحصة متأنية إلي الآثار التي أحدثها عندكم بالفعل هذا الذي تريدون منا أن ندخله في الصين .
وإن استعراض هذه الآثار لا تشجعنا ، واسمحوا لنا أن نراها كذلك . إنكم كالأمير في القصص الخرافي ، قد أطلقتم جن المنافسة من قمقمه لا لشيء إلا لتتبينوا انكم لسم بمستطيعين السيطرة عليه . إن تشريعكم طوال السنوات المائة الأخيرة ما هو إلا محاولة لتنظيم الاضطراب في نظامكم الاقتصادي إن فقراءكم وعجزتكم وسكارا كم ومرضاكم ومسنيكم يثقلون كاهلكم ويؤرقون نومكم . لقد فصمتم كل ما بينكم من عري إنسانية ، وقطعتم كل ما بينكم من صلات شخصية ، وإنكم لتحاولون عبثا ان تجملوا نشاط الدولة ، هذا الكائن الغامض المبهم ، يحل
محلها . إن الصفة البارزة في مدنيتكم هي عدم المسؤولية لقد أطلقتم قوي لا سلطان لكم عليها . إن الآلة التي صنعتموها عادت فافترستكم ، ففي كل ناحية من نواحي العمل ، وفي كل قسم من أقسامه ، نراكم تستبدلون الفرد بالشركة ، والعامل بالآلة ، وهمكم الأول أن تقسموا الحصص وأما رخاء العامل فليس لأحد أن يعني به إلا الدولة ! وحتي هذا نري أن الدولة عاجزة عن أن تقوم به ، فالعوامل التي تتحكم في هذا الرخاء لا سلطان للدولة عليها . إنكم تعتمدون على كل ما يطرأ علي العرض والطلب من تقلبات ، ولكنكم لا تملكون أن تحددوا هذه التقلبات أو حتي أن تحتاطوا لها إن تلف محصول أو تغيير تعريفة في قطر بعيد يقلقل صناعة الملايين الذين يبعدون عنه آلاف الأميال إنكم تحت رحمة عبقرية مخترع ، أو حظ متأمل ، أو هوية امرأة ، لا بل إنكم تحت رحمة آلاتكم نفسها إن رأس مالكم كائن حي يلح دائما في طلب القوت جوعوه ينقلب عليكم ليخنقكم ويزهق أرواحكم ! إنكم تنتجون لا لأنكم تريدون ذلك ، ولكن لأنكم مضطرون إلي أن تنتجوا ! وتستهلكون لا ما ترغبون في استهلاكه ولكن ما قد فرض عليكم استهلاكه إن التاريخ لم يشهد تجارة مكبلة بالأغلال كتلك التي تسمونها التجارة الحرة ويا ليتها كانت مكبلة بأغلال أوحي بها العقل كلا ، إنها أغلال الأهواء المتزاحمة المتكاثفة التي يقف العقل أمامها عاجزا مشدوها !
هذا هو اقتصادكم الداخل كما تتكشف صورته للرجل الصيني ؛ ولا تتكشف علاقاتكم الخارجية عن صورة أقل استثارة لليأس من هذه لقد كان ينظر منذ خمسين عاما إلى الاتصال التجاري بين الأمم على أنه سيتوج عصرا ذهبيا من السلم والأمن ، ولا يزال بينكم فيما يلوح من يري هذا الرأي ويتعلق بهذا المعتقد ، ولكن لم أر معتقدا يناقضه الواقع والحقيقة كما يناقضان هذا ! فالتنافس علي الأسواق التجارية مدعاة للحرب لا للسلم ، وسبب اقوي
في الدفع إليها لا البعد عنها ؟ بل إنه لم يكن في الماضي سبب يعادله من حيث قوته في الدفع إلي الحرب ، فلا اطماع الامراء شيء بالنسبة إليه ، ولا تعصب القساوسة مما يقاس به . إن أهل أوروبا يتكالبون على أي بقعة بكر من بقاع الكرة الأرضية وينقضون عليها كالآساد الجائعة . ولقد قصروا ، إلى الآن ، مشروعاتهم الاستغلالية علي هؤلاء الذين عدوهم خارج نطاق حدودهم ولكنهم وهم يقسمون الغنيمة بينهم ينظر بعضهم إلى بعض بعين الغيرة والحسد ابدا . وعاجلا أو آجلا عند ما ينفد ما يقسم بينهم سينقض بعضهم على بعض . إن هذا هو السبب الأصلي والسر الحقيقي في تسلحكم إنكم إما أن تفترسوا وإما ان تفترسوا ، وهذه هي العلاقات التجارية بالذات التي رؤي انها ستقرب فيما بينكم وتربطكم بوثاق السلم ، هذه هي وقد جعلت كلا منكم أعدي أعداء الآخرين ستقربكم بما يكفي لإشعال حرب الإفناء بينكم
ولست ، في وصفي لمدنيتكم بما وصفتها به ، مدفوعا بتعصب وطني جاهل ولست اعتقد قط ان اهل اوروبا هم بالطبع والسليقة شر من أهل الصين او اشد منهم جهالة . لا شئ من هذا بل على العكس منه ، فإنه من المعتقدات الأساسية في مذهبنا ان الطبيعة الإنسانية هي هي أ كانت ، وانها هي الأحوال والظروف التي تجعلها إن خيرة وإن شريرة ، فإذا كان النقص في نظام اقتصادكم الداخلي والخارحي قد بلغ الحد الذي نواه قد انحدر إليه ، فالسبب في ذلك فيما نري يجب ان يلتمس لا في نقص طبيعي في خلقكم القومي ، ولكن في نفس هذه النظم السياسية والاجتماعية التي تحرضوننا علي اتباعها في بلادنا .
أتعجبون بعد هذا أن نقاوم بكل ما نملك أثركم فينا ؟ أتعجبون أن الأذكياء منا ، وهم يأسفون على العنف الذي عومل به بعض عملائكم بيننا ، يشعرون ان هذا كله لا يمكن أن يعد شيئا إذا قيس بالشر المستطار الذي لا يمكن أن يطاق ، والذي سنصطليه لو ان مشروعكم فينا قد نجح ؟

