الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 286الرجوع إلى "الثقافة"

رسائل صينية، الرسالة الرابعة

Share

لقد اخترت أن أصور جماعة من الفلاحين حينما حاولت  أن أرسم لكم صورة حقة من الحياة في الصين ، لأنه في مثل تلك الجماعة أجد المثل الصادق الأمين لأثر مدنيتنا فينا . إن في الصين مدنا - ولاشك - مدنا مخيفة لا تقل وحشية عن مدنكم أنتم في إنجلترا ، ولكنها عندنا مجرد طفيليات تنمو علي جسم الدولة ، والدولة لا يزال كيانها الأصلي زراعي محض . والحال في هذا عندكم تخالف ما عندنا كل المخالفة ، فليس عندكم ما يستحق أن يسمي حياة ريفية كل ما عندكم مساحات واسعة من الأرض المهملة ؛ وعدد وفير من المستنقعات من جهة ، ومن جهة أخري قصور وحدائق وعمال رثة ثيابهم ، حقير مأواهم ، بائس أجرهم ؛ ثم قري حزينة ، ومزارع في طريق الاضمحلال والفناء وحقارة وبلي ، وشر وقسوة ؛ هذه هي الصورة التي ترسمونها أنتم لمناطقكم الريفية . كل شئ ليس من المدينة في إنجلترا لا مرد له من أحد أمرين : إما أن يعيش طفيليا علي حياة المدن ، وإما أن يقف على حافة الموت السحيق . فإذا كنت أريد أن أرسم صورة عادلة منزهة عن الأغراض لما أتت به مدنيتكم من ثمار ، فلا بد لي من أن أشيح بوجهي عن حياة الريف عندكم لأوليه شطر حياة المدن . فإذا ما فعلت ذلك فأنا لا أسارع بإحراز نصر سريع هين ، بأن أقف مغرضا أمام هذه المظاهر من مدنكم التي لا تقلون عني تسليما بها بل استحياء منها . إن هذه الأحياء الفقيرة الخاصة بالبؤساء ، وحانات الخمر وملاجيء الفقراء والسجون ؛ إنها كلها لحقائق مرة بلا شك ولكنكم قد أقمتم أنفسكم لمحاربة هذا الشر التي تمثله تلك الظواهر في مدنكم ؛ ولست أشك في أن جهودكم في هذا المضمار يمكن أن تكلل بغير

قليل من النجاح . وما دام الأمر كذلك فإني أفضل أن أعالج هنا فيما أرسمه من مدنيتكم هذا الهدف الذي تسيرون إليه ، فيما يبدو ، عند ما تكونون قد قمتم بخير ما يمكن أن تقوموا به من جهود . هذه الثمرة الصادقة لمدنيتكم ؛ هذا الرجل المتوسط العادي الذي تسمونه محترما ، إنه هو الذي أريد أن أرسم وأن أصف ، فهو هو النتيجة الطبيعية المحتومة لأثر مدنيتكم فيكم . أي الرجال هو إذن ؟ كم أتردد وأنا أحمل نفسي على أن تجيب عن هذا السؤال فأنا غريب بينكم قد نعمت بكرمكم ، وأنا أحجم عن أن أكافيء معروفكم بالجحود وقلة الذوق . ولكني اقدر في الوقت نفسه أنه إذا كان هناك ما يمكن أن اخدمكم به ، فإني لا أري شيئا أقوم من أن أردكم إلى بعض الحقائق . حقائق هامة جدا فيما يبدو لي ، ولكنكم قد تعاميتم عنها تعاميا شاذا فريدا . إن أقدامكم على حافة طريق ضالة ، وأرانى مضطرا لأن أحذركم منها . ولئن كان تحذيري لكم لا جدوي فيه ، فما يمنعني هذا من أن أقدمه بروح الصداقة ، بل أن أرجو أن تتقبلوه مني بنفس هذا الروح .

تري ماذا أري وأنا احاول أن أتبين الأثر الذي تركه في نفسي هذا الرجل الإنجليزي العادي ، اثرا يعتمد على دراسة سنوات عديدة قضيتها بينكم . إني لاري رجلا قد جفا الطبيعة فجفته ، ولم ينقذه بعد ذلك الفن ؛ رجلا متعلما ولكنه ليس مثقفا ولا مهذبا ؛ لديه استعداد قوي لأن يتلقى ، ولكنه عاجز عن ان يفكر ؛ قد ربي علي مبادئ دين لا يؤمن به في الواقع ، لأنه يراه معارضا على طول الخط في كل علاقات الحياة من حوله ؛ وهو يشعر شعورا خفيا أنه من الحيطة والتعقل أن يخفي الإلحاد ، الذي ليس عند من الذكاء ما يسمح له بأن يعلنه تحت قناع من التدين . إن دينه مجرد تقاليد ، وإخطر من ذلك ان أخلاقه هي الآخر لا تقل عن دينه في كونها هي ايضا مجرد تقاليد فالإحسان ، والطهارة ، وإنكار الذات ، وتحقير

الدنيا والزهد في ملاذها ، كل هذه كلمات يتغذي عليها منذ طفولته ، ولقد ظلت كل هذه الصفات مجرد كلمات في حياته ، لانه لم ير حوله احدا يعمل بها ، ولم يدر بخلده قط أن يعمل بها هو نفسه . فإن كان أثر هذه الكلمات كافيا في ان يجعل منه مرائيا مزمنا في الرياء ، فانها لم تقو بعد على ان تبين له صورة هذا المرائي الذي قد صار إليه بفضلها وبينما يري نفسه محروما من سند دستور خلقي حق يتجلى في حياة الجماعة التى هو عضو فيها ، تراه قد خدع بعبادة زائفة لمثل أعلى خائر ضعيف . ولما كان قد ترك تركا نهائيا لغرائزه تسيره كيف شاءت ، فإنه قد قنع بأن يسير حياته  كما يسير الذي حوله من الآخرين ، وان يكرس نفسه للغايات المادية بعد ان اغفل الروح في حياته ، وبذلك اصبح مجرد  أداة ؛ ومن مثل هذه الأدوات يتجمع مجتمعكم

 هذه آثاركم تدل عليكم ، فإن انتصاراتكم في الفنون الآلية ما هي في حقيقة الأمر إلا الظاهر الذي تسترون به فشلكم في كل ما يتطلب الحواس الروحية لإدراكه . إنكم تستطيعون أن تصنعوا الآلات من أي نوع كانت ، وان تستعملوها بفن قد بلغ حد الكمال ، ولكنكم عاجزون عن أن تغنوا بيتا ، أو تؤلفوا قصيدة ، أو ترسموا صورة ؛ بل إنكم عاجزون عن أن تتعبدوا في حرارة ، أو تتطلعوا في شوق وهذه هي شوارعكم ، إنها صفوف وصفوف من صناديق صغيرة متراصة مكدسة لا يفترق كل منها عن الآخر في شئ ، ينقصها كل ما هو أساسي ، بينما قد أثقلت بكل ما هو كمالي تافه هذا هو ما تسمونه عندكم فن العمارة . أما ادبكم فهو الجرائد اليومية بسيلها المتدفق بالتفاهات الجامدة ، والحوادث والألغاز والنكات وفضائح  البوليس وأما السنما فهي مجرد قصص ملون لكل ما هو مبتذل ، وقد اصلح من شأنه كيفما اتفق بعض الهواة ، فافتقرت إلي العبقرية افتقارها إلي السنن  الفنية . إن حواسكم الخارجية كحواسكم الباطنية قد خمدت وماتت ، فأنتم لا تبصرون ولا تسمعون . إن المنطق قد

ألغي كل ما لديكم من تفهم وبصيرة ، وأصبحت حياتكم كلها استقراء ومنطقا أبديا لا ينتهي ، ولكنه منطق يعتمد على مقدمات لم تتبينوها ولم تمحصوها ، وهو يقود ايضا إلي نتائج  لم تريدوها ولم تتوقعوها . وهكذا في كل شئ ، وفي كل ناحية ،  لا نري عندكم إلا الوسائل ، أما الغايات فإنا لا نراها أبدأ ، والمجتمع نفسه آلة ضخمة ولكنها آلة مختلة معطلة

هذه هي الصورة التي تتراءي لخيالي عن مدنيتكم ولست أزعم انها هكذا تبدو لكل صينبي فطن . فالصينيون على العكس منكم ، قد ركبت طبائعهم بحيث يعجزون عن أن يهاجموا غيرهم . فإذا كنت قد انزلقت إلي هذا الزلل فما كان ذلك مني إلا من أثر استثارتكم القوية لنا . ومع ذلك فإني أحس منذ الآن أني مدين بالاعتذار إليكم ؛ ولكني لا استطيع أن أنكر كلمة واحدة مما قلت ، وما احسبني نادما على شيء مما فعلت ، إذا كانت كلماني قد أوحت ، وهل لي ان آمل ذلك ، إلي بعض قرائي معني جديدا للصيحة التي يسمعونها : " الصين للصينين "

اشترك في نشرتنا البريدية