لقد قرأت حديثا في صحيفة من صحفكم أن الهدف الأسمي لأمم أوروبا هو أن تمدن الصين فإذا كان الأمر كذلك فإن الوسائل التي اتخذت لتحقيق هذه الغاية وسائل فذة ولا شك . ولست آمن نفسي أن أخوض في سيرتها . فأنا واثق من أن السلب والنهب والفوضى والخراب والقتل والاغتصاب أمور لاتوافقون عليها هنا في إنجلترا ، بل إنكم فيما أعتقد تمنعونها ما استطعتم ؛ ولست أرجعها في الواقع إلا إلي الفوضي التي تسود فرقكم من سوء نظامها . إني لا أذكر مثل هذه الأمور في هذا المجال لمجرد إظهار استهجاني لها ، لأن السؤال الذي يتردد في نفسي دائما عندما تتحدثون عن المدنية هو : أي نوع من الرجال أخرجت مدنيتكم للعالم ؟ وهذه الحوادث الأخيرة في الصين لا توحي فيما يلوح بجواب شاف لمثل هذا السؤال ! ولكني لا ألح في طلب هذا الجواب ، فقد تكون المدنية - مدنيتنا ومدنيتكم سواء بسواء - مجرد قشور ، وقد يكون الوحش كامنا في أعماق الإنسان أبدا ، مستعدا دائما لأن ينقض على فريسته متي فتحت له الأبواب بفضل تدبير محكم ، أو فرصة سانحة . إننا في هذا مثلكم على كل حال يحكم علينا بما يحكم عليكم به ، ومآخذنا ومعايبنا في هذا كمآخذكم ومعايبكم ، ترتد إلي أفواه من يعددونها لأنها تنطبق عليهم هم أيضا . من أجل هذا أمر على مثل هذه المناظر من جيشكم مر الكرام ، لأقف أمام أحوال الحياة العادية . والآن أي الرجال نحن برأي الرجال أنتم حتى يحق لكم أن تصفونا بأننا همج متوحشون ؟ نعم أي الرجال نحن ؟ إنه لسؤال عسير على أن أجيب عنه وإني لأقلبه في أفكاري ساعة بعد ساعة ، ويوما بعد يوم ، فلا أجد وسيلة
استطيع بها أن اقدم إليكم شيئا مما يدور في خلدي من أثره أجدي من أن احاول ان أرسم لكم صورة - ان أرسمها صادقا امينا ، فهي ما إن تزال تطاردني وتملك علي نفسي وعقلي كلما سرت في أيام الشتاء في شوارع عاصمتكم السوداء المعتمة
هناك في الشرق البعيد جدا حيث الشمس مشرقة إشراقا لم تروه ، فقد لطختم حتي هذا القليل منه الذي عندكم ، ولو تنعوه بالدخان ؛ هناك علي ضفة النهر العريض يقوم البيت الذي فيه ولدت إنه بيت بين الآلاف من أمثاله ، ولكنها كلها تقوم وسط حدائقها الخاصة ، وكلها قد لونت في بساطة بالأبيض أو الرمادي ، وكلها متواضعة بهجة نظيفة . ولأميال عديدة على طول الوادي الممتد ترتفع أسطح هذه المنازل ملونة بالأزرق أو الأحمر وسط بحر من الخضرة النضرة ، بينما يلمع هنا أو هناك بريق الذهب الذي يكسو قباب معابدنا الطويلة من بين باقات من الشجر الأخضر . والنهر تخترقه القناطر العديدة وقد غص بالقوارب والزوارق يحمل على مجري مائه الرائق الصافي حركة سرور نشيطة من الأسواق الريفية على ضفتيه . فالفلاحون الموفقون المجدون يملأون المنطقة كلها ؛ يملكون الأرض التي يحرثونها ، تلك الأرض التي قد ملكها آباؤهم من قبلهم وحرثوها مثلهم ؛ إنهم يستطيعون أن يقولوا إن الأرض التي يعملون عليها قد صنعوها هم بأيديهم . ولك أن تنظر إليها لتتبين صدق قولهم ، فهذه التلال المجدبة قد أصبحت كلها تتماوج من أسفلها إلي قممها بالخضرة النضرة ، بالقطن والأرز والقصب والبرتقال والشاي ؛ وهذا سفح الوادي قد ازدان بأحزمة فضية من ماء النهر يتساقط من قناة إلي قناة في آلاف من الشلالات اللامعة البراقة ، ثم ينكسر في الفناطيس ليقرقر في المواسير ويغمر الأرض التي تمتصه حتى تنضر وهكذا يوزع بالعدل والقسطاس وبلا ثمن الخصب والخضرة والحياة في سخاء ووفرة . وإنك لتري في كل ساعة وأنت تجتاز
القناطر الصغيرة والطرق الملتوية المتعرجة آثار الأجيال التي خلت ، وإلي جانبها جهود أبنائهم من بعدهم إلى أن تصل إلي حيث يستسلم الإنسان عاجزا أمام الطبيعة ، فتتجلي حرة لم يسيطر عليها أحد . وإذا المنحدرات قد كسيت كساء ورديا ذهبيا لازورديا من الزهور المختلفة الأشكال والآلوان ، زهور فنية قد نمت في وفرة مفعمة بالحياة الفائرة . كم جلست هنا وسط هذا السكون ، سكون بلغ من عمقه أبي كنت أستطيع أن أنصت فيه إلي حفيف ظل الشجر يتحرك علي الأرض كما قال أحد شعرائنا ؛ سكون لا يشوبه إلا أصوات الفلاحين يتنادون من حين إلي حين عبر النهر ، وإلا صوت نواقيس المعابد يشع في الوادي يدعو الناس إلي الصلاة في الفجر والغروب . أي سكون وأي أصوات ! وأي عطر وأي ألوان إن الحواس لتحيا بكل هذا وتنعم به ، بل إنها لترقي بسببه إلي درجة لا يمكن لكم في جوكم الشمالي ان تتبينوها او تدركوها . إن جمال الطبيعة حولنا يتسرب إلى أعماقنا فيشكل الروح والعقل بحيث ينسجمان معه .
فان امتزنا نحن الصينيين بأدابنا وفنوننا وأخلاقنا فالسبب في ذلك واضح لكل ذي عينين . إن الطبيعة حولنا هي التي علمتنا ؟ ونحن في هذا احسن منكم حظا . ولكن مما يعود الفضل فيه إلي ذكائنا وليس إلي حسن حظنا ، اننا كنا مستعدين لأن نتلقي عن الطبيعة درسها ؛ ذلك انه في هذا الوادي الجميل ، كما لا يخفى عليكم ، تعيش آلاف الأنفس لا يحكمهم دستور سوى التقاليد ، ولا يسيرهم قانون سوى قانون الأسرة . إنهم صناعون مهرة نشطوا في صناعتهم . ولكنها الصناعة التي لا تكادون تعرفونها في أوروبا ؛ إنها صناعة الأحرار يعملون فيها لأهلهم ولذويهم ، يعملون فيها على الأرض التي ورثوها عن آبائهم ليسلموها من بعدهم إلي أبنائهم ، وقد أخصبوها بكدهم ورووها بعرق جبينهم . ولا مطمح لهم وراء ذلك ، فلا يعنيهم ان يجمعوا الثروة بحال من الأحوال .
ولئن كان منهم في كل جيل من يترك وطنه ليجوب العالم ، فقد كان يرحل عن الصين وملء صدره أمل لا يخيب في أكثر الأحيان ، ذلك هو أمل العودة إلي وطنه حيث ولد ليقضى أعوامه الأخيرة بين المناظر التي أحبها في شبابه ، والوجود التي كان يعزها في صباه . إنه بين قوم كهؤلاء لا يكون مجال للمنافسات الحقيرة الحادة ؛ فلا سيد ولا مسود في الصين . ولكن المساواة المجسمة الملموسة الحقة هي التي يعتمدون عليها في معاملاتهم ، وهي التي تنظم الصلات بينهم . إن الكد الذي يفيد الجسم والروح ، والراحة الكافية والضيافة الطيبة ، والقناعة التي تدعمت بحكم العادة في نفوسهم ، والتي لا تؤرقها خيالات الأطماع والجشع ، والحس المرهف لكل ما هو جميل ، الذي أوحت به أجمل طبيعة في العالم ونمته ورعته ، والذي يتجلي في السلوك الجميل والمعاملة الرقيقة ، إن لم يجد له منفسا لأن يتجسم في صورة فن خالد ، هي صفات قومي الذين ولدت بينهم . أيمكن أن تكون الذكري قد حابتهم ؟ قد تكون أيمكن أن يكون الخيال قد أضفي جماله على مراتع الصبا ؟ من يدري ؟ ولكن أوقن بشيء واحد ، ذلك أن حياة كتلك التي وصفتها ، حياة قامت على أساس العمل في الأرض ، وبنيت على قواعد المساواة الحقة والعدل التام ، توجد فعلا في الصين ، بل إنها لتملأ الصين طولا وعرضا في ازدهار ونشاط ، فماذا عندكم يا هؤلاء الذين تريدون أن تمديوننا ، مما تستطيعون أن تقدموه إلينا عوضا عن هذه الحياة ؟ واحسرتاه ! إنه باسم هذا الدين قد ارتكبتم ما لا يستطاع وصفه أأخلاقكم ! تري اين نجدها ؟ نعم اين أخلاقكم تلك ؟ أذكاؤكم ؟ وإلي أين قادكم ؟ أين منكم في إنجلترا صورة يمكنكم أن تقدموها لنقارن بينها وبين ما رسمت لكم من الصين ؟
هذا هو السؤال الذي سأحاول ان اجيب عنه .

