الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 632الرجوع إلى "الرسالة"

رسالة الفن, 13_ الفن

Share

يا لها من إشارة بارعة ! أيمكن أن يكون ولاء أعظم وأوقع في النفس من أن يرجع بمعاصر إلى طيات الماضى حيث يقرنه إلى رجل من رجالاته الأفذاذ الذين لمع نجمهم وتألق تألقاً فريداً ثم يبلغ منه التأثر المجرد شعوره بالاتصال الحى بهذا العبقرى الشبيه بإنصاف الآلهة ( يوسان ) . وعاود رودان حديثه قائلا :

لم يرض يوفى دى شافان عن التمثال الذي عملته ، وكان ذلك من أمر ما غصني في حياتي الفنية . لقد ظن أتى صنعت له تمثالا مسخاً . ومع هذا فأتى مؤمن أني أودعت في التمثال كل الماس والإجلال الذي شعرت به محود ) .

ودفعنى يوقى دى شافان إلى التفكير في تمثال جان بول لوران Jean Paul lauren الذي يوجد باللكسمبورج أيضاً إنه ذو رأس مستدير ووجه يهم بالحركة ، ويفيض  منه الحماس يكاد لا يتردد فيه نفس - إنه من مواطنى الجنوب ، عتيق غير مصقول تظهر عيناه كأنهما مأهولتان بأخيلة بعيدة ذلك هو مصور العصور التي كانت أدنى إلى الهمجية حيث كان الرجال أقوياء زاخرى العواطف . قال رودان :

كان لوران من أقدم أصدقائي . وقفت له كمثال لواحد من الميروفيين (۱) الذين كانوا يعاونون ساعة موت القديسة جنيفياف ، وذلك بلوحته الموجودة الآن بالبانتيون ( كانت محبته لى خالصة على الدوام. وهو الذي تحصل لى على الأذن بعمل رهائن كاليه . ومع

أن الصفقة لم تعد على بنفع مادى إذ أتى قدمت ستة من التماثيل المعدنية بالثمن الذى عرض لواحد منها فقط ، فإني مدين له بالامتنان العظيم العميق لأنه حفزتى لخلق عمل من أجل أعمالي .

وكم كان سرورى عظيما بأن أعمل له تمثالا . ولكنه عتب على عتاباً رقيقاً لأننى أظهرته بهم مفتوح ، فأجبته بأني رأيت من تصميم جمجمته أنه ربما انحدر من سلالة القوط الأسبان . وأن هذا الضرب من الناس يمتاز بكبر الفك الأسفل . وإنني لست على بينة مما إذا كان اقتنع بصحة ملاحظتي العلمية التي ترتكز على علم الأجناس »

وأبصرت في تلك اللحظة بتمثال لفا لجويير Falguière انه متوقد ، ذو خلق ثائر ، بوجهه كثير من التجاعيد والفجر كأنه أرض اجتاحتها المواصف. أما شاربه فشارب امرى متذمر ، وأما شعره فكت قصير . قال عنه رودان إنه كان ثوراً صغيراً . لاحظت فيه غلظ الرقبة حيث تبدو أثناء الجلد وتضاعيفه كأنها غيب الماشية ، وكذلك جبهته المربعة . أما رأسه فائل عنيد ، على وشك أن يشيح بحركة إلى الأمام . حقاً إنه ثور صغير ! كثيراً ما كان رودان يتمثل بتشبيهات من المملكة الجيوانية . فمثلا إذا كان الإنسان ذا رقبة طويلة وحركات آلية فهو الطائر يتذبذب يمنة ويسرة ، وإذا كان جد ظريف كثير الحركات الرشيقة فهو كلب الملك شارل وهكذا . ومن شأن هذه التشبيهات أن تسهل العمل لمن يبحث وفى تقسيم سحن الناس وسيماهم أقساماً عامة . ثم طفق رودان يشرح لى الظروف التي أدت به إلى فالجويير قال :

كان ذلك عندما رفضت جمعية الآداب قبول. تمثالى « بلزاك » أصر فالجويير الذي تولى عمل تمثال آخر لبلزاك من بعدى على أن يبين لي بحافز من صداقته أنه لم يضلع بتاتاً مع أولئك الذين أرادوا النض من قدرى وسمعتى . فدفعني حديه إلى عمل تمثال له . وعند ما انتهيت منه ورآه قدره تقديراً وعده موزاً عظيما . وإني لأعلم أنه كان يدفع عنه نقد الناقدين في حضرته . وفي مقابل ذلك عمل لى تمثالا بدوره فجاء جد ظريف » .

وعندما كنت أهم بالانصراف وقعت عينى على نسخة شبهية1) لتمثال برتلو (Berthelot ) الذي عمله رودان قبل وفاة الكيميائي العظيم بسنة واحدة فقط

كان العلامة الكبير يبدو كأنه مطمئن إلى تأدية رسالته . إنه يتأمل . إنه منطو على نفسه ، وحيداً بواجه العقائد البالية المتداعية ، وحيدا قبالة الطبيعة التي قد إلى بعض أغوار أسرارها ولكنها ما زالت جد غامضة ؛ وحيداً على حدود الآفاق الغير محدودة . جبينه معذب ، وعيناه المسبلتان مليئتان بالهموم وكأن هذا الرأس الجميل رمز للفكر المصرى وقد ازدحم بالعلم والمرقة وأضناه التفكير ، ينتهى به الأمر إلى التساؤل « وما جدوى كل ذلك ؟ .

احتشدت برأسى الآن كل تلك التماثيل التي كنت أعجب بها والتي كان يتكلم عنها رودان ، وقد بدت لي كأنها وثائق قيمة عن عصرنا الحاضر ثم قلت ا إذا كان رودون كتب مذكراته عن القرن الثامن عشر ، فقد كتبت أنت مثلها عن أواخر القرن التاسع عشر . أما أسلوبك

فأخف وأغلظ من أسلوب سلفك ، وأما تعاييرك فأقل رشاقة ، ولكنها طبيعية صادقة - إذا جاز لي أن أقول ذلك إن الشك. والإلحاد الذى كان واضحاً بينا فى القرن الثامن عشر ، والذي كان مليئاً بالتهكم والسخرية أصبح فيك اليوم عنيفاً حاداً . كانت أشخاص أودون أميل إلى الاجتماع والتمازح والتنادر ، أما أشخاصك ، فأكثر انصرافاً إلى أنفسهم . كانت أشخاص أودون تنتقد عورات أنظمة الحكم ، أما أشخاصك فيظهرون كأنهم يتساءلون عن قيم الحياة الإنسانية نفسها ويشعرون بالآلام والرغائب التي لم تتحقق »

فأجابني رودان رداً على ذلك : نقد بذلت كل ما في وسمى ، لم أكذب ولم أغرر بمعاصرى قط . لم ترق تماثيلي في أعين الناس ، لأنها على جانب كبير من الإخلاص ، ولكن مما لا ريب فيه أن بها حسنة واحدة هي الصدق ، فليعوضهم هذا من الجمال (انتہی)

اشترك في نشرتنا البريدية