جينى هو كبير شعراء الألمان غير مدافع وأسمى أدبائهم مكانة ، وأبعدهم شهرة ، وهو عندهم نظير شكسبير في الأدب الإنجليزى ، وصنو دانتى في الأدب الإيطالي ، وروايته المسماة " وليام مايستر " التي أعرض لها اليوم لمجرد التعريف بها والإشارة إليها في طليعة أعماله الثرية ، وأكبر قصصه ورواياته . ومن أدلها على تفكيراته الفلسفية . وحكمته العملية ، وموقفه إزاء الحياة وتجاربها ومختلف أحوالها؛ وليست هذه الرواية من أقوى رواياته جاذبية وأشدها تشويقا بالرغم من أنها اكثرها احتواء على حكمته ، وأنمها على شخصيته ؛ وهي ليست من الروابات التي يطالعك جمالها من أول نظرة ، ولا من الكتب التي تستسلم لك وتبيحك أسرارها وكنوزها لأول وهلة ، وبغير كد ولا تعب ؛ ولابد للإنسان أن يتمهل وبتريث في قراءتها ، ويطيل النظر في مضامينها حتى يستطيع أن يستشرف آفاقها ، وترفع له الحجب عن روعتها وبهائها ، ويتجلى له ما بها من غوالى الدر ، ومنثور الحكم ، وناضج التجارب ، وعميق الآراء والنظرات .
ولقد تعذر فهمها والتوى سرها على بعض كبار الكتاب والنقاد ، فعابها وسخر منها الكاتب الإنجليزي القدير البارع دى كونسي ، ولم يتحمس في الدفاع عنها جورج هنري لويز أول من كتب ترجمة حياة جيني كتابة مفصلة مستوفاة حافلة شائفة ؛ وقد ترجم هذه الرواية إلى الإنجليزية ترجمة مثالية الرجل الذي أبلي أعظم بلاء في الإشادة بأدب جيني ، وأكد علو مكانته وجلالة شأنه ودافع عنه أحر دفاع وأقواه ؛ وهذا الرجل هو الكاتب البريطاني العظيم توماس كارلايل ؛ والرسائل التي كان يكتبها كارلايل لزوجته السيدة جين ولسن أثناء إقباله على ترجمتها تدل على تبرمه ببعض مناحيها ، وضيقه بها ، ولكن لم يمض على ذلك خمس سنوات حتى تبين . مزاياها ، وأثنى عليها ثناء مستطابا في أحد فصوله الأدبية الدائمة الممتعة.
وموضوع هذه الرواية هو اختيار الوظيفة التي يضطلع بأعبائها الإنسان ، ويتوفر عليها ، ويقف جهوده على إجادتها وإتقانها ، والدرس الذي نتعلمه من هذه الرواية هو أنه من ألزم ما يلزم لنا أن تكون حياتنا وحدة متصلة ، ونقمة منسجمة ، وذلك بأن توقفها على تحقيق غاية من الغايات ، وإصابة هدف من الأهداف ، بحماسة ومثابرة وصبر ومطاولة حتى ينقاد لنا المستصعب ويقرب البعيد ، وفي مستطاعنا أن نلمح هذه الغابة من خلال إدراكنا المواهب والملكات والاستعدادات والقابليات التى جادت بها علينا الطبيعة ، ومنحتنا إياها لتعيننا على أداء هذه الأغراض ، إذا أحسنا الاختيار ، وأجدنا اختبار قوانا ، وتعرف ملكاتنا . وليست الحياة في رأي جبتي وسيلة المتعة ، وإنما هي وسيلة لإشباع القابليات المركوزة في نفوسنا ، وهي تختلف باختلاف الأشخاص ومدى استعدادهم
وقد كانت الكلمتان السحريتان اللتان أثارتا شباب القرن الثامن عشر في ألمانيا هما كلمة " الحرية " وكلمة " الطبيعة "وكان جيني في شبابه من قادة تلك الثورة ، وكانت هذه الثورة ترمي إلى الحصول على الحرية التي لا حد لها سواء في الأدب أو الحياة ، وكانت تحاول ذلك بوثبة واحدة ، وهذه الوثبة هي العودة إلى الطبيعة التى تغني بها روسو وأفاض في الحديث عنها ، ولكن كلمة الطبيعة مزدوجة المعنى ، فهناك العالم الذي يحيط بنا بما فيه من جبال وتلال ، وأودية وأنهار ، وبحار وسماء ، وشمس ساطعة ، ونجوم زاهرة لامعة . وهناك العالم الداخلي المستقر في نفوسنا ؛ فالعودة إلى الطبيعة إذا معناها مناجاة قوي الطبيعة الخارجية وكذلك الاستماع إلى وحي نفوسنا ، وقد فسرت العودة إلى الطبيعة في أول الأمر بمعنى الشعور بالطبيعة ، والتفطن لجمالها وروعتها ، ثم فسرت بعد ذلك بمعنى الإعراض عن التقاليد المتبعة ، والتعويل على وحى النفس وفيض الخاطر ، فلننظر إلى نفوسنا ونكتب ، ففي قلوبنا ونفوسنا أصول الفن
الصادق وقواعده ، لا في كتب أرسطو وهوراس وبوالو ، ولنقتصر على استشارة شعورنا الداخلى بالجمال .
وثورة القلب والإرادة في طلب الحرية الحقيقية أو الحرية الوهمية أخذت مظهرين ، مظهر القوة العارمة والأنانية الطاغية المخلوعة العنان . ومظهر الأنانية العاطفية المفرطة الحساسية الموكلة بالرغبات البعيدة والأماني العسيرة التحقيق وقد عبر جيني عن هذين المظهرين في طرائفه الأدبية ، فمثل في تمثيليته المسماه" جونز فون برليخنجن " المثل الأعلى لمظهر القوة في طلب الحرية والانطلاق ، وصور فيها الإرادة الصارمة التى تغالب الظروف ، وتعلو في الضرورات ، ممثلة في شخصية بطل التمثيلية ، وفي رواية أحزان ورنر مثل لنا الأنانية العاطفية أو الجانب السلبي للإرادة الذي يتأثر بالظروف ، وتهزمه ملابسات الأحوال .
ثم طويت أيام الشباب المضطرب الثائر وأدرك جبني أن الحرية التي كثر الكلام عنها لا تنال بوثبة واحدة وضربة مفردة ، وأن العودة إلى الطبيعة إن كانت لازمة فإن دراسة فن الحياة كذلك أمر لازم لا محيد عنه ؛ وتكاثرت واجباته وتبعاته . وأصبحت رغبات ورنر غير المحدودة لا تعينه على مواجهة الحياة وتثبيت أقدامه ، وأصبحت كذلك يد فون برليخنجن الحديدية لا تسعفه في حل خيوط المشكلات التي يستدعي موقفه معالجتها وحلها ، وتراءى له أن حماسة ورنر وقوة برليخنجن إذا استعملت باعتدال واتزان فقد يأتي ذلك بالخير والنفع ، وانه يمكن تحقيق الحرية بطريق أضمن وأوفى وهو طريق العمل المتواصل ، والصبر الدائب ، ومن ثم الأنتقال من رواية ورنر وتمثيلية جونز فون برليخنجن إلى " رواية وليام مايستر " وهو بمثابة الانتقال من مثل أعلى يبنى على الرمال ، ويخبط في الظلام وعواتم الأحلام ، إلى مثل أبي يبني في الضوء ويقوم على أساس متين ثابت .
وقد بدأ جيني كتابة رواية ( وليم مايستر ) في السنوات الأولى من حياته في بلاط ويملر ، ولكن صرفته عن المضي في تأليفها و إنجازها الشواغل ، وقد أرجأ إتمامها إلى ما بعد عودته من رحلته إلى إيطاليا ، ولما استأنف العودة إلى كتابتها كانت ثورة القرن الثامن عشر السياسية قد بلغت الذروة . وكانت كلمة الطبيعة وكلمة الحرية ما زالتا ترددان ولكن اصبح لهما معنى رهيب ، فقد كان دنتون قد خر صريعا في باريز الثائرة ، وأصبح روبسيير تلميذ روسو
المعجب به هو كاهن الثورة الأعلي ، ونفر جيني من الاتجاه العنيف الذي اتجهت إليه الثورة ، وأصبح يري أن الحرية السياسية لكي تتحقق ولأجل أن لا تكون وهما من الأوهام الباطلة وادعاء زائفا ، لابد أن يتقدمها تحرير الأفراد من ميولهم الوضيعة ومحاولاتهم العابثة الضائعة ؛ وقد شاركه في هذا الرأي ضريبه في الأدب الألماني وصديقه شار ، فالحرية لا تنال بالعنف والشدة والأمعان في الفظاعات والمنكرات ، وإنما تنال عن طريق التربية الصحيحة والتثقيف ؛ وقد تبدو هذه التربية شديدة الوطأة كابحة ضاغطة ، ولكنها تخدم الحرية في النهاية لأنها تنقذنا من الاضطراب والتورط في الأخطاء.
ورواية وليام مايستر تكاد تكون رواية بلا بطل ، يبدو فيها وليام مايستر فلا يجتذبنا نحوه ولا يثير اهتمامنا كما أثاره ورنر بطل رواية ( أحزان ورنر) . ووليام أقل خيالا من ورنر وأنزل شاعرية ، ولكنه غامض الأهداف مثل ورنر ، منطو على نفسه ، ضعيف الشعور بواجباته نحو غيره من الناس ، يقضي وقته في الأحلام غير المجدية ، ولكن يمكن أن تصقل شخصيته ويستخرج منه رجل نافع لنفسه وللناس ، لأن فيه عناصر التقدم وقابلية النماء . ولكن الطريق طويل شاق والخدع والأضاليل تطالعة من منعطفاته ، والإغراءات التي تعدل به عن الطريق السوى كثيرة ، ولا مفر له من الوقوع في الخطا ليعرف الخطأ ويأمن غائلته ؛ وقد بين جيني في رواية أحران ورنر سوء خاتمة المثالي الحالم الذي لا يريد أن يتنازل عن احلامه المسرفة وبترك رغباته غير المعتدلة ؛ وفي رواية فالمو أظهر لما جيني كيف استطاع الرجل الحازم المستنير أنطونيو انقاذ الشاعر المثالي الحالم فالمو الذي عجز عن إنقاذ نفسه . أما في رواية وليام مايستر فإن الرجل المستغرق في الأحلام السائر في الأوهام يذهب نشأته ويحل بحثه في نفس وليام مايستر الرجل الذي هذيته التجارب ، وقومت اعوجاجه الحوادث ، وهو لم يتعلم ذلك في المعاهد والجامعات ، وإنما تعلمه من دروس الحياة العملية ، وتجاربها وعبرها ؛ وبذلك استطاع أن يخرج من سجن الأوهام المضلة والأحلام الفارغة .
* وقد نشأ وليام غلاما حالما يبني القلاع في الهواء ، فأبى أن يعمل مع أبيه في تجارته ، ورأي أنه أكبر من أن يشغل نفسه بالاهتمامات المنزلية وشئون الحياة العائلية الصغيرة . وأحب الفتاة مارينا . وظن أن هذا الحب قد ارتفع به إلى السماوات وأدخله الجنات ، ولكن سرعان
ماتخونه أحلامه ، وتخذله خيالاته ، فقد داخله الشك في سلوك مارينا ، فانهارت أمانيه . ويرينا جيني إلى جانب وليام صديقه ورنر ، وهو في مثل سنه ، ولكنه رجل عمل وحزم ، يقبل على عمله في التجارة بهمة وعزيمة ، ويجد متعة فيما يضيفه إلى رصيده ورأس ماله . وحينما توازن بين حياة وليام وحياة ورنر ، نرى أن ورنر يفوق صاحبه وليام من نواح عدة ، وأن نصيبه من الرجولة أوفر ، ولكننا نرى من ناحية اخري أن ورنر قد ظن وسائل الحياة غاية . فهو غير سائر في طريق التقدم السوي .
ثم يلقى وليام شخصا غريبا ليس لديه سابق معرفة ، وكان هذا الشخص يبحث عن حانة يبيت بها ، ويتجاذبان في الطريق أطراف الحديث ، ويتضح لوليام أن هذا الشخص الغريب يعلم الكثير من أموره ويعرف ماضيه ؛ ويحاول الغريب أن يوضح لصاحبه الشاب الناشئ خطر المعيشة المعلقة بالمصادفات ، ويسترعى نظره إلي أهمية تحديد الغرض . ووضوح التفكير ، وقوة الإرادة والاعتزام ، ويقول له هذا الغريب في خلال الحديث : " إني ليعجبني الرجل الذي يعرف ما ينفعه وما ينفع الناس والذي يعمل على وضع حد لنزواته وما تنزع إليه نفسه ، وحظ كل إنسان في يديه كالفنان الذي يملك المادة الخامة التي يستطيع أن يصنع منها الصورة التي يريدها ، ولكن في هذا الفن - كما في سائر الفنون - تولد معنا القدرة والقابلية ، ولكن القدرة لا تنقدح شرارتها ولا تؤتي ثمرتها إلا بالمثابرة وطول الممارسة ، وبمضى الغريب في طريقه وينسى وليام نصيحته ، وتؤثر فيه خيانة مرينا وتهز نفسه هزا عنيفا ، ولكن البقية الباقية في نفسه من الفضيلة تجعله يتماسك ويتغلب على الصدمة ، ويسترد العافية ، ويترك الاهتمام بأمر المسرح ، ويقبل على العمل مع والده في تجارته ؛ ولكن هذا التحول لم يكن لأنه عرف الواجب الإنساني وقدر رسالته في الحياة ، وإنما كان باعثه اليأس ، ولذا أخذت تنبت في قلبه أوهام أخرى ، ولكن لم تكن لها قوة الأوهام الأولى ، كانت من الأوهام التى يمكن العمل على تحقيقها ، فقد علمته تجارب الحياة أن يلائم بين آماله وبين قدرته ، وما يزال جيني يتنقل ببطله في ميادين التجارب حتي يتعلم علما ليس بالظن أن الحياة الحقة هي الحياة التي تقوم على العمل والتجارب ؛ ويعى درس ما يسميه جيني الأنواع الثلاثة من الاحترام ، وهي احترامنا لمن هم أسمى منا ،
واحترامنا لمن هم حولنا ، واحترامنا لمن هم دوننا ، وينشأ من هذه الأنواع الثلاثة النوع الرابع من الاحترام وهو احترام النفس .
وجد فهذه إلمامة سريعة بهذه الرواية التي تعد من أهم مؤلفات جيني ، وبدائع الأدب الألماني لا تغني بطبيعة الحال عن قراءتها . وإنما تسترعي الالتفات لأهميتها بين مؤلفات جيني بوجه خاص وبين الروايات العالمية الشهيرة بوجه عام .
