الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 681الرجوع إلى "الثقافة"

روسو وعقيدته الدينية

Share

] قرأت أن اسقفاً حكيماً وجد في ابروشيته أثناء زيارته لها امرأة عجوزاً كانت " لتصلى " لا تعرف من القول غير " أوه ! " فقال لها : " ايتها الأم الطيبة ، داومى على الصلاة هكذا . فإن صلاتك تفوق صلواتنا فى القوة . فأن هذه الصلاة هى أيضاً صلاتى . [ ( 1)  روسو

أصدر برلمان باريس مرسوما بتاريخ ٩ يونيو عام ١٧٦٢ بالقبض على جان جاك روسو وإحراق مؤلفه "  إيميل " فهرب روسو في ليلة ٩-١٠ يونيو متجهاً صوب سويسرا ، أرض الحرية كما قال ، ومزق " إيميل " فى الحادى عشر وأحرق علناً فى سراى العدل بباريس ، وفى التاسع عشر من نفس الشهر صادرت جمهورية جينيف نفس الكتاب وأحرقته ، وحذت برن حذوها ؛ فكان لزاماً على المفكر المظلوم أن يلجأ إلى فردن ، ثم إلى فال حيث استقر به المقام فى العاشر من يوليو ، ولكن تأبى الأقدار إلا أن يشقى هذا الرجل ويلقى عنتاً ؛ فقد هاجمه رئيس أساقفة باريس ، كريستوف دوبومون ، بمنشور أشار فيه إلى خطورة هذا الرجل ؛ وكان هذا فى الثامن والعشرين من أغسطس ، مما حدا بروسو فى مارس من العام التالي إلى كتابة " رسالة إلى كريستوف دوبومون " ليبرئ نفسه ليس أمام رئيس أساقفة باريس وحسب ، ولكن أمام معارضيه ومهاجميه جميعاً ، ثم جاء دور النائب العمومى ترونشان فى أكنوبر عام ١٧٦٣ حينما كتب ضد روسو " خطابات مكتوبة من الريف " وعليها رد روسو " خطابات مكتوبة من الجبل " فى عام ١٧٦٤ ، ولكنه اضطر بعد عام ، وقد طرد من مولييه مرجوماً بالحجارة . إلى الهرب إلى جزيرة سان بيير ، ثم إلى ستراسبورج ، ثم إلى باريس ومنها إلى لندن ، فيصلها عام ١٧٦٦ ، حيث استضافه لما يقرب من العام دافيد هيوم الفيلسوف الإنجليزى المعروف .

واضطهاد الفكر لا يقتصر على زمان دون زمان ولا على بلد دون بلد ، فطالما أن هناك تفاوتاً فى التفكير . فهناك تفاوت فى الفهم . وليست عقول الناس سواء حتى تقبل شيئاً بعينه أو ترفض شيئاً بذاته . ومن هنا جاء امتياز بعض الناس على بعضهم الآخر ، وهم قلة ، وتفوقهم عليهم . ولكن الذى يدعو إلى التأمل ، التأمل الممزوج بالأسف والإشفاق حقاً ، هو شقاء هذه القلة الممتازة المتفوقة التى وهبها الله عقلا طليقاً وتفكيراً حراً بين قوم لا يريدون أن يعقلوا ولا أن يفكروا ، وكأنهم في تعودهم رأياً قديماً أو عقيدة قديمة قد اكتسبوا مناعة ووقاء ضد ما ينشر عليهم من جديد الآراء والعقائد . فمن الصعب بمكان حقاً أن تفاجئ قوماً بوجهة نظر جديدة فيما تواضعوا عليه من آراء وعقائد ، وتسألهم لا الأخذ بها ، فهذا بعيد الاحتمال كل البعد ، ولكن مجرد العلم بها بحثها . إن البطل حقاً هو من لا يهاب معارضيه في الرأي والعقيدة ، من لا يتخاذل وينكس أمام تسفيههم إياه وسخريتهم به واضطهادهم له .

أما روسو فقد كان بطلا حقاً . فلقد أعلن إقرار إيمانه وهو يحتل أكثر الكتاب الرابع من مؤلفه " إيميل " الذى كان السبب فى تشريده خارج فرنسا ثم خار ج سويسرا ، أعلنه صريحاً واضحاً جلياً وهو يعلم أنه يعارض به رجال الدين فى زمانه كما يناهض به آراء الفلاسفة أو من كانوا يحشرون فى زمرة الفلاسفة والفلسفة منهم براء .

أتعرف أيها القارئ أنسب تشبيه يمكن أن يتفق وتعبير " المعتقدات القديمة " ؟ لقد بحثت كثيراً عن هذا التشبيه فلم أوفق إلا إلى العثور فى رأسي على الآتى : إذا مررت بطريق مقفر ساكن وصادفت فيه بيتاً قديماً مبنياً على طراز عتيق ، عششت في زواياه العناكب وحلقت حوله الخفافيش وسقط عن جدرانه الطلاء . ولم يبق من نوافذه إلا بعضها ، ووققت فى شرفاته الآيلة للسقوط نسوة عجائز صامتات يرتدين السواد ، إذا رأيت هذا النظر فى مجموعه

فقل للتو ، دون أن تتورط فى الخطأ ، إن هذا البيت بمن فيه يشبه إلى حد كبير : المعتقدات القديمة !

وروسو فى بحثه عن " معبوده " ، فى بحثه عن معتقد يلوذ به وياوى إليه ، لم يلجأ ، كما يصنع الناس عادة ، إلى هذا البيت القديم الذى حدثتك عنه والذى لولا ترميمه الدائم لتداعى وانهار ، ليأمن أعاصير الشك التى تنتاب البشرية جمعاء فى ساعة من ساعات قلقها وحيرتها ؛ لا ! فلم يلجأ روسو إلى معتقدات سابقيه ، هذه المعتقدات التى تضافرت الأجيال في بنائها حجراً حجراً ، والتى تذهب أسسها فى الأرض إلى عمق سحيق .

ومع كل ، فلم يهدم روسو هذا البيت القديم المتداعى ، بل تركه كما هو غارقاً فى ظلامه وظلاله ، واتخذ لنفسه قطعة من الأرض فضاء فى جواره تغمرها الشمس ، وبدأ يبني لنفسه بيتاً خاصاً على ذوقه ومزاجه : بدأ يبني فوق صفحة قلبه البسيط النقى معتقده الجديد ، بعيداً عن تأثير معاصريه ، ساخراً من طنطنتهم ولغوهم .

أجل . فعندما أراد روسو أن " يؤمن " نحى جانباً اتصاله بالدولة التى ينتمي إليها ، وتناسى العقيدة التى يدين بها ناسها ، وتجاهل الأرض التى يعيش عليها معهم ، كما أشاح بوجهه عن الفلاسفة الذين ينشرون آراءهم فى وجود الله وخلود النفس وهم متعجرفون ، يدافعون عن آرائهم وإن كانوا فى شك من صحتها غالباً ؛ ولقد قصر روسو أبحاثه على ما يهمه مباشرة مستشيراً فى ذلك النور الباطني ؛ عندئذ وجد روسو أن أولى الأفكار وأكثرها ذييوعاً هى فى الوقت نفسه أبسطها وأكثرها موافقة للعقل ، المسألة كلها إذاً هى مسألة اختيار ، كل ما نحن فى حاجة إليه هو الإيمان ، العقيدة .

أمام عيني ، كما يقول روسو ، أو أمام قلبى ، حقيقتان : إنى موجود ، فى هيئة كائن يشعر ويفكر ويريد ، هذه هى الحقيقة التى لا تقبل مناقشة ولا جدالاً ، إنى أشعر بكينوتى ؛ فأنا أسعد وآلم ، أحب وأكره ، أفكر وأجزم ، ألا يجتمع كل هذا فى كلمة ديكارت الجامعة : إنى أفكر ، إذاً أنا موجود !

ولكن روسو لا يجد نفسه وحيداً فى هذا العالم ، فهناك خلائق أخرى تصطخب من حوله وتعيش كما يعيش وتتوالد وتملأ الدنيا بالحركة الدائمة .

من أين يأتى هذا ال " أنا " الذي هو نفسى وهذا العالم الذى ندركه بالحركات التى نلاحظها فيه ؟ إن التفكير فى " أصل الحركة " قد يعطينا الجواب الشافى لهذا السؤال .

يرى روسو فى الأجسام ظاهرتين أو حالتين : حالة الحركة وحالة السكون ، فهى أحياناً تسكن وأحياناً أخرى تتحرك ، ولكنها لا تبدى حراكاً إذا تركت دون أن يؤثر فيها ما يدفعها إلى الحركة . إذاً ، فالحركة ليست جوهرية للأجسام ، ومن هذا استنتج روسو أن الجسم ، أى جسم ، لا حركة فيه أصلاً ، إنما يستمد حركته من مصدر خارجه. ولكن ، أيتحرك الحيوان والإنسان تبعاً لمؤثر خارجى ؟ لا . ففى الحيوان كما فى الإنسان حركات تلقائية spontanes أى تنبت من تلقاء نفسها دون أن يكون لأى عامل خارجى دخل فيها ، فى الحيوان إرادة تملى عليه الحركة فيتحرك ؛ وفى الانسان إرادة تملى عليه الحركة فيتحرك ، وتملى عليه القول فيتكلم ، وتملى عليه التفكير فيفكر ، بينما الأجسام ، وهى جماد ، تفتقر إلى هذه التلقائية ، إذا فهذا الكون : هذه الشمس وما يدور حولها من أفلاك ، وهذه الكواكب وما يدور حولها من أقمار ... أى هذه المواد والأجسام التى فى ذاتها لا تملك لنفسها حولاً ولا طولاً ... ما الذى يحركها ؟! هنا يقول روسو : " لا يمكننى أن أرى الشمس تدور دون أن أتخيل قوة تدفعها " . فالكون فى نظر روسو جسم ضخم تحركه إرادة قوية . ويقول : " أعتقد إذا أن هناك إرادة تحرك الكون وتحمى الطبيعة .

Je crois done qu une volonte. meut l'univers, et anime la nature وهذه هى أولى خطوات روسو فى طريق إيمانه .

ما معنى " الحركة " أليست تعنى الانتقال من مكان إلى آخر ؟ ولكن كيف ينتقل الجسم من مكان إلى آخر دون توجيه ؟! أيمكن أن يتحرك جسم فى كل الاتجاهات فى نفس الوقت ؟ بديهى : لا . فهو يتحرك فى اتجاه واحد معين . فلئن فرضنا الكون كله كتلة واحدة غير متجزئة ، مكونة من ذرات ... إذاً لوجب انتظام هذه الذرات فى اتجاه واحد ، وإلا اختلطت وتصادمت واختبطت وفسدت حركتها ؛ فأول شرط لانتظام حركة الكون إذاً أن تدور أجرامه

فى اتجاه واحد ، تماماً كالذرات التي تحتويها الكتلة الواحدة غير المتجزئة ، وهى فى الواقع تدور فى اتجاه واحد معين .

فلئن لزم وجود إرادة تحرك الكون ، فهناك حتماً عقل يوجهه . " فإذا كانت المادة المتحركة تدل على إرادة "، هكذا يقول روسو ، فالمادة المتحركة تبعاً لقوانين معينة تدل على عقل Si la matlire mue me montre une volonte, la matiere mue seion certaines lois me montre une intelligence

وهذه هى ثانى خطوات روسو في طريق إيمانه . وروسو يجهل غاية الكون ويجهل السبب في وجوده ، ولكن هل يمنع هذا الجهل من أن يعجب بنظامه ؟ أفإن فاجأنا رجلاً بساعة مفتوحة لم ير مثلها من قبل ، أتنتظر منه غير أن يعجب بها ؛ إنه لا يعرف فيم تستعمل هذه المجموعة من " الأشياء " الدقيقة التى تحتويها العلبة ، ولكنه يرى ، برغم جهله بها أن كل قطعة تتعاون مع القطعة الآخرى فى أداء " شئ " ، وأن " الكل " يعمل معاً عملاً مشتركاً لابد أن له غاية وغرضاً . . وإن غابا عنه .

حركات هذا العالم أو هذا الكون مرسومة ، ليس فيها شئ وليد المصادفة ؛ ليس من السهل تصور قوة عمياء تنظم شئون هذا الكون . يقول روسو : " فلو أنهم أتونى قائلين إن حروف الطباعة وقد ألقيت بالمصادفة فأخرجت ملحمة الإنيادة ، بكامل ترتيبها لما تنازلت وخطوت خطوة واحدة لأحقق هذا الكذب . وقد يقول قائل : إنك تنسى عدد الرميات (jets ). ولكن كم من هذه الرميات تلزم لتجعل التجميع محتملاً ؟ أما أنا ، الذى لا أرى غير رمية واحدة أراهن بما لا نهاية له إلى واحد أن تمرتها ليست قط وليدة المصادفة "، فإذا كان ناظم الإنيادة عقلاً ، فكيف بمنظم الكون ؟.

ينتهى روسو بهاتين الخطوتين فى طريق الإيمان إلى أن هناك كائناً يدير شئون هذا الكون ، فيقول : " هذا الكائن الذى يريد ويقدر ، هذا الكائن الفعال بذاته ، وأخيراً هذا الكائن أياً كان ، الذى يحرك الكون وينظم الأشياء ، أسميه : الله "

ولكن أين الله ؟ وماهو ؟ وما جوهره ؟ لا يدرى روسو عن هذا شيئاً . وهو مقتنع بقصوره . وهو لذلك لا يملك إلا العودة إلى نفسه باحثاً عن مكانه فى نظام الأشياء ، فيرى نفسه

فى الصدارة ، بمقتضى نوعه بلا مراء ، أجل ، فلقد اجتمع فى الإنسان ما يتفوق على الحيوان والجماد فهو بإمكانه ان يرقب كل شئ ، وهو بمقدوره أن يتسلط على ما يريد ومن يريد من الجماد والحيوان دون أن يكون لها أى تأثير عليه . يستعمل الإنسان النار ويعجب بالشمس ويراقب الكائنات وعلائقها . ويشعر بماهية النظام والجمال والفضيلة ، ويتأمل الكون ويسمو بنفسه إلى ماهية اليد التى تهيمن عليه .. . فأين هذا كله من الحيوان ، يله الجماد ؟ ! إن الإنسان سيد مخلوقات الأرض بلا منازع . ولهذا يحق لروسو . كما يحق لكل من خلق إنساناً ، أن يغتبط ويهنئ نفسه على شغله هذا المكان أو المركز المشرف ، ولكن ...

ولكن عندما يلقى روسو بنظره على ما يحيط به يرى تناقضاً تاماً بين " الطبيعة "و "الجنس البشرى". فبينما يرى الطبيعة متناسبة متسقة على اتفاق ووئام ، يرى الجنس البشرى متخبطا مرتبكا ! الحيوان سعيد ، والإنسان شقى إذاً أين القانون الذى يحكمم العالم ؟! يقول روسو هنا : إنى أرى الشر على الأرض .

يرى روسو أن كل أفعال الإنسان ، وبه ما به من تلقائية ، تصدر عنه مباشرة -تسألونى : " كيف أعرف أن هناك حركات تلقائية ؟ أقول لكم : إنى أعرف هذا لأنى أحسه . فأنا أريد تحريك ساعدى فأحركه دون أن يكون لهذه الحركة أية علة غير إرادتى" . إن للإنسان نفسين فهو يريد وهو لا يريد ، وهو يحس نفسه حراً وعبداً فى نفس الآن ؛ وهو يأتى الإثم ثم يندم عليه ؛ وهو كما يقول أوفيد : " إنى أرى الخير وأحبه ولكنى أقترف الشر " . وهو بهذا يصور الإنسان الذى ينير له العقل طريق الحق والخير والجمال ، ولكن ينزل به الضعف وتجذبه شراك اللذة إلى الشر .

الإنسان نفسه هو صانع الخير ، والإنسان نفسه هو صانع الشر . بيده أن يأتى الخير وبيده أن يقترف الشر . الفضيلة والرذيلة أمامه وليس له إلا أن يختار . والدليل على أن الإنسان " يريد " الخير أو علي النقيض " يريد " الشر هو أنه إذا أبى الأول رضي واغتبط ، وإذا اقترف الثانى عذبه ضميره ومزقته نفسه ندماً . كيف يكون الله عادلاً خيرا ، فى نفس الوقت الذي يعمل بإرادته فينا ، من بعضنا شريراً ! لا . إن الإنسان حر فيما يفعل . إن له لإرادة ، قوة دافعة

ذاتية : فى الإنسان تلقائيةspontanes  جوهر غير مادى ، باطنى ، فعال ، يفتقر إليه الحيوان ، تدفعه إلى أن يفعل ما يريد وإلى أن يريد ما يفعل . " عندما أفعل شيئا أحس فى نفسى تماماً أكنت أفعل ما أريد أن أفعله ، أم كنت لا افعل غير الاستسلام لشهواتى " ويخلص روسو من هذا فيقول : " الإنسان إذا حر فى أفعاله ، وهو بوصفه هذا ، يحيه جوهر غير مادى .

L'homme est libre dans ses actions, et, comme tei, anime d'une substance immaterietie وهذه هى ثالث خطوات روسو فى طريق إيمانه

الإنسان حر إذاً فيما يأتى وما يدع ، لا شأن للعناية الإلهية بسوء استعماله للحرية التى منحتها إياه . لقد خلق الإنسان حراً ؛ وهى . أى العناية الإلهية ، من أجل تدعيم حريته لا تتدخل فى تصرفاته ، فهى تتركه وشأنه ، يحصد من الشر الذى يبذره شراً يماثله ، ومن الخير خيراً يفوقه .

" أيها الإنسان ، لا تبحث عن مبدع الشر ، فمبدعه أنت نفسك"

ولكن أمر هذه الدنيا عجيب ! فبينما كان يجدران يكون العادل سعيداً ، نراه يظلم ويضام ، بينما الشرير يفلح وينعم ! وها هو العادل يسخط ويتبرم من هذا الضيم وهذا الظلم اللذين ألحقا به . ولكن لا . فهناك عناية إلهية ترعى هذا الكون ، عناية إلهية عادلة و حكيمة ؛ وهذا ما يدعونا إلى التأمل : إن الفوضى التى نحن فيها ليست إلا فوضى مؤقتة ، كانت تكون فوضى كاملة حقا إذا كانت حياة الفرد تنتهى بموته . ولكن من قال إن حياة الفرد تنتهى بموته؟! إن الفرد يبقى بعد انحلال جسده ، وإن الظلم الذى يأخذ بخناقنا فى هذه الحياة سيتدارك بعدها . " كلما عدت إلى نفسى، استشرتها ، فقرأت هذه الكلمات محفورة فى روحى : كن عادلا فتصبح سعيداً . " ومن هنا يمكنك أن تقول للشرير بانتصار : " لن تنتهى حياتك بموتك " . فهناك وجود آخر يعم فيه العدل ويتدارك الظلم .

أجل . كان روسو يعتقد اعتقاداً جازماً بأن لنا حياتين ، وأن كياننا كيانان : مادى وروحى . أما المادة فتفنى بفناء الجسد ، وأما الروح فتستأنف حياتها بعد موت الجسد . وكان جزمه ببقاء الروح يرجع إلى أنه يقبل كل القبول أن

تتفكك وتنحل المادة التى تكون الجسد ، ولكنه لا يقبل قط فكرة تفكك الروح ، وانحلالها . وهى هذا الجوهر الذي يميز الكائن الحى عما عداء .

الخير والشر أمام الإنسان ، وهو لابد واقع في حيرة بينهما ! فكيف يفرق الإنسان بين الخير والشر ؟ كيف يعرف أن هذا خير فيسلك سلوك الخير وان ذاك شر فيدعه ؟ يقول روسو : " كل ما أحس أنه خير فهو خير ، وكل ما أحس أنه شر فهو شر " ليس هناك غير الضمير فى الإنسان . وهو وحده الكفيل بأن يرشدنا إذا رجعنا إليه . كثيراً ما يخدعنا العقل ، أما الضمير فهيهات أن يخدع . إنه للروح بمثابة الغريزة للجسد . إنه صوت الطبيعة ، ومن يتبع الطبيعة لا يضل .

إذا أردت التفريق بين الخير والشر عليك باستشارة ضميرك لا عقلك . والإنسان يولد ومعه ضميره كما يولد وفيه غرائزه . وقد قال بعض المفكرين المعاصرين لروسو إن الغريزة تكتسب بالتربية والمران . وليدلل روسو على عكس ذلك مثل بحالة كلب وليد : " كيف أسمى هذه الحمية التى يحارب بها كلبى المناجذ التى لا يأكلها قط ، والصبر الذى به يترصدها ساعات كاملة أحياناً ، والمهارة التى بها يقتنصها ويطرحها أرضاً حالما تخرج من جحرها ، ثم يقتلها ويتركها طريحة ، كل هذا ولم يدربه أحد على الصيد أو يعلمه أن هناك مناجذ . . ثم لماذا ، عندما هددت هذا الكلب لأول مرة ، واستلقى على الأرض فى هيئة متوسلة أثارت الشفقة فى نفسى ، هيئة لم يكن ليرضى أن يبقى بها لو أنى ضربته دون أن يرق له قلبى . ماذا ! هل اكتسب كلبى ، وهو بعد صغير لم يكد يولد أفكاراً أخلاقية ؟ "

نحن نرى هذا فى الحيوان ، فكيف ندهش إذا وجدنا مثله فى الإنسان ؟ يقول روسو إن الملاحظة الدقيقة تكشف فينا طبيعتين متعارضتين  تظهران فى مجموعتين من الغرائز أو المصالح المتعارضة ؛ فهناك المصالح أو الغرائز المادية ، ومنها المحافظة على الذات وتنميتها مهما كلفنا ذلك من ثمن ، حتى وإن كانت على حساب الآخرين . السعى لتقوية الذات ، تجنب الألم ، الحصول على اللذة . . هذه هى القاعدة . وهذا هو جزؤنا السافل الحيوانى من طبيعتنا . وهناك مجموعة من المصالح أو الغرائز الأخرى نولد بها كغريزة

الكلب التى يولد بها والتى يطلق عليها روسو اسم المصالح أو الغرائز الأخلاقية ، وهى غرائر تتصادم تماماً مع الغرائز المادية ، وتنقسم الغرائز الأخلاقية إلى قسمين : أولا عاطفة الشفقة ، الشفقة التى يشعر بها حتى المتوحشون من الناس ، والتى تدفعهم ، ليس فقط إلى تجنب القسوة ، ولكن إلى إعانة من هم فى حاجة إلى العون . ثانياً : الضمير الأخلاقى

" أيها الضمير ! أيها الضمير ؛ أيتها الغريزة الإلهية ، أيها الصوت السماوى الخالد ! أيها المرشد الأمين لكائن جاهل محدود الأفق . ولكنه ذكى وحر ؛ أيها القاضى المعصوم من الخير والشر ، الذى يجعل الإنسان شبيهاً بالآلهة ، إنه انت الذى يجعله يسمو بطبيعته وخلقية أفعاله ؛ بدونك لا أشعر بشئ فى ذاتى يرفعنى على الحيوان إلا امتيازى المؤسف فى تخبطى من ضلال إلى ضلال بمساعدة فهم دون قاعدة . وعقل دون مبدأ

هذه كلمة جان جاك روسو الخالدة فى الضمير ، وهى تعنى بهذه اللهجة المتحمسة اعتقاده الراسخ العميق أن العاطفة أسمى من العقل ، لأنها غريزية طبيعية ، وأما العقل فاكتسابى . وعند روسو : كل ما يصدر عن الطبيعة حق معصوم من الضلال لأنه يصدر عن دوافع أصيلة فى النفس الانسانية ، وكل ما يصدر عن العقل قد يبعد عن الصواب لأنه قلب لا يستقر على شىء .  " الضمير يحدثنا بصوت الطبيعة ، وطبيعة الانسان خيرة فى الأصل ، فهو قد ولد على صورة الله خالقه . الانسان خير بطبيعته وولد فى عالم يشمله العدل والخير أصلا ، ولكن عقل الانسان قلب الخير شراً والعدل ظلماً .

وقد كان خليقاً بالإنسان أن ينعم بهذه الحياة فى ظل حكمة الله الصادقة وعقله المدبر الفريد لو أنه تعهد الخير الذى فى قلبه بالرى والإنماء وسبح بالحمد الذى كان قميناً ان يتوجه به إلى الله العلى القدير . وروسو يتأمل نظام الكون ، لا ليفسره على ضوء نظريات باطلة . ولكن ليعجب به إعجاباً لاحد له . وليعبد الخالق الحكيم الذى يوحى بوجوده فيه ، إنه يبادله الحديث فتمتلئ كل قدراته بجوهره الإلهى ، وإذا قلبه يرق لمنته وأنعمه ويحمده على هباته ومنحه .

دين روسو طبيعي . فكل ما عليه ليرقي إلى مشيئة الله هو ان يستشير نوره الباطن فيري نفسه على هديه في طريق

الخير والسلام . ليس على الإنسان إلا أن يتأمل ذاته ويدرسها بإخلاص . فمن مطالبه الطبيعية تصدر رغباته ، وعلى ضميره الباطن يتوقف الخير الذى يئه الله في قلبه .

بقيت نقطة أخيرة ، وهى عدم اعتراف روسو بأديان الرسل والأنبياء الذين يبشرون بها على الأرض ، وقد اقتبس روسو هذه الكلمة من أحد الفكرين : " إن العقائد تحافظ عليها أيد ووسائل بشرية ، وأول دليل على هذا أن الأديان قد تلقاها فى هذه الدنيا ولا يزال يتلقاها فى كل زمان أفراد ؛ إنما الشعب والدولة والمكان هى مصدر الدين : فدين المرء هو الدين الذى يعتنقه المكان الذى نشأ وتربى فيه . فنحن نختن أو نعمد ، أو نكون يهوداً أو مسلمين أو نصارى قبل أن نعرف أننا أناس . فالدين ليس من اختبارنا واختيارنا . " ثم يقتبس روسو كلمة اخرى من مونتانى تحمل نفس المعنى : " نحن مسيحيون لعين السبب الذى نحن من أجله فرنسيون أو ألمان " .

فإذا كان فى إمكان روسو الاتصال مباشرة بالله ، لماذا ينضوى تحت هذا الدين أو ذاك ؟ إذا كانت كل الأديان والعقائد فى جوهرها الاتصال بالله وتمجيده - وهذا حق - لماذا ينتظر روسو أن يصله بالله نبى أو رسول بينما بإمكانه الوصول إلى خالقه مباشرة ؟ !

إن الأديان فى هذا العالم متعددة ، كل نبى يأتى يبشر بدين جديد ، يحاول به هدم الدين الذي بشر به النبى الذى سبقه . آراء متعارضة، أفكار متبابنة ، إيحاءات مختلفة ، يكون نتيجتها على مر العصور أناساً متعارضى الآراء متباينى الأفكار مختلفى الاستجابات لهذه الايحاءات المختلفة ، وهم ينتهون بهذا التعارض والتباين والاختلاف إلى التعصب فى الدين ، وينتهون تبعاً لذلك إلى الدفاع عن مبادئ هذا الدين أو ذاك ، وينسون الله نفسه فى خضم هذا الاضطراب .

إن روسو يرى جمال الكون فيعجب بخالقه ، إنه يتأمل الزهرة على الجبل وفى الحقل فيري فيها الله ؟ يرى الأشجار والأنهر والينابيع الطبيعة عموماً ، فيعجب بهذا كله ، ويرقى بهذا الإعجاب إلى خالقها وخالقه : الله ! لماذا يبحث عمن ينبهه إلى وجوده وهو يراه فى نظام الكون وجمال الطبيعة ؟ !

اشترك في نشرتنا البريدية