بيت الأمراء أرسلان في لبنان عريق في النسب والأدب، وأشهرهم في هذا العصر الأمير شكيب أرسلان أحد من انبغتهم الشام من أرباب الأقلام، ويليه في الشهرة الأدبية شقيقاه الأمير عادل والأمير نسيب صاحب هذا الديوان. طبعه في دمشق شقيقه الأمير شكيب وقدم له مقدمة التزم فيها السجع على عادة أهل القرن الماضي، وعلق عليه حواشي وأردفه بترجمة الناظم ونسب العائلة الأرسلانية التي تنتسب إلى الأمير عون المتوفى سنة ١٣ هـ. وكان قد حضر وقعة أجنادين، حضر مع خالد بن الوليد من العراق إلى الشام لنجدة أبي عبيدة بن الجراح، وحضر الأمير مسعود المتوفى سنة ٤٥هـ وقعة اليرموك بألف وخمسمائة من أصحابه، وشهد وقعة قِنَّسرين. وأرومة هذا البيت ترتقي بعد ذلك إلى المنذر بن الملك النعمان الشهير بأبي قابوس ممدوح النابغة الذبياني. وقد فصل الأمير شكيب كل ذلك تفصيلاً وافياً استغرق أكثر من نصف هذا الديوان، وهو في ٢٧٠ صفحة متوسطة القطع، وترجم لمن ورد ذكرهم من القضاة والعدول وغيرهم ممن شهدوا لهذا النسب، وردّ على بعض المؤرخين الذين أغفلوا لمقاصد حزبية ذكر آل أرسلان في بعض المواضع والمواقع، وقديماً قالوا: الناس مصدّقون بأنسابهم.
سمى الأمير أرسلان ديوان أخيه بروض الشقيق، في الجَزْل الرقيق، وذلك لجمعه بين متانة التركيب، ورقة الشعور؛ وفي لفظة الشقيق من التورية ما لا يخفى. وقد أشار إلى أصحاب الأدب الجديد، وهو من أنصار الأدب القديم بقوله: (لا ينبغي لناشئة العرب أن يعدلوا بهذه الأم العربية البرة أماً، ولا يجوز أن يجعلوا
لها من بين اللغات نِداً، بل يجب أن يجعلوها قطب رحى المثافَنة، ويعلموا أنها نعم السند يوم المماتنة. فلا يرتبوا أفكارهم في لغة قبلها، ولا يضلوا في الأبانة عن ذات نفوسهم سبلها، حتى إذا صفت لهم مشارعها، وحنَت عليهم أجارعها، وصارت مَلَكتها جارية مجرى المهج من نفوسهم، نازلة منزلة الأدمغة من رءوسهم، كان لهم أن يستزيدوا من آداب الغرب والشرق ما شاءوا وتطالت إليه عزائمهم، وأن يضموا إلى البلاد العربي القديم طريف البضائع، وأن يضيفوا إلى الإرث العُدُملي الكريم حديث البدائع، مشروطاً في نقلها إلى خزانة العربية، لأجل تمام المقصد واجتناب الهجنة، أن يكون الأسلوب العربي الأصيل ظلها وماءها، وديباجة النطق بالضاد أرضها وسماءها، وأن تكون لغة الكتاب المنزل على أفصح العرب ألفها وياءها. .).
وهاكم نموذجاً من شعر هذا الأمير الشاعر من قصيدة يصف الفقير في ضنكه ويحث الموسر على إعانته، (وهي قصيدة فذة في بابها في وصف الفقر وشدته على المرء واستجلاب الرحمة والتحنان على الفقراء والتحذير من مغبة إرهاقهم) :
رأيت سليل الفقر يعمل في الثرى ... مكباً على محراثه يتلهف
يخدُّ أديم الأرض خداً كأنه ... له قِبَل الغبراء ثار مخلف
كأني به نادته للحرب فاغتدى ... يكرُّ عليها بالحديد ويعطف
كأني به إذ فرق الترب والحصى ... يفتش هل في باطن الأرض منصف
كأني به إذ خط في الأرض قبره ... يهمُّ على جثمانه ثم يصدف
به آية الجهد الذي ليس ناهضاً ... بهِ بشر غض البنان مهفهف
جبين بمرفضِّ الصبيب مضمَّخٌ ... وشعر بملتصِّ الغبار مغلف
وجِيد خفوق الأخدعين كأنما ... تبينت من أوداجه الدم ينطف
رثيت لمكروب سحابة يومه ... إذا قرَّ منه معطف ماج معطف
إذا زلزلته سرعة الخطو أوشكت ... أضالعه في زوره تتقصف
كأن أزيز الجوف عند وجيبه ... حسيسُ هشيم والندى يتوكف
يشقق عنه الثوب فالريح قد غدت ... تصافح منه جلده حين تعصف
وأثبت حَمْىُ الشمس في أم رأسه ... نبالاً فراس العظم منها منقف
تبطن منثور الغبار جفونه ... فضرَّج منها مقلة تتحسف
كأن حماة الشوك في ذيل برده ... طراز حواه العبقري المفوَّف
يمدُّ إلى الجبار كفاً تكدحت ... أناملها والله بالعبد أرأف
ومنها:
وصفت لك الضراء يا صاحب الغنى ... وهل تعرف الضراء من حيث توصف
هي الفقر ما أدراك ما الفقر إنما ... لهاث الردى منه أخف وألطف
حياة بلا أنس وعيش بلا رضى ... فلا الرغد ميسور ولا العمر ينزف
بكيتك يا خلوَ اليدين بأدمعي ... فأنت صريع النائبات المذفف
يروح كثير المال يسحب ذيله ... وأنت المعِّني يا فقير المكلف
ألست الذي شاد الحصون بعزمه ... وناط نجاد السيف للحرب يزحف
وأجرى سفين البحر في اللج ينثني ... ومَّشى قطار النار في البيد يهذف
وقد ملأ الأنبار للخلق ميرةً ... وحاك لهم موشية تتغضف
بلى إن من هان العسير بكده ... على الأرض مفتول الشوى متقشف
أخو فاقة لم يدخل الطيب رأسه ... ولا مسَّ كفيه القضيب المعقف
أفي الحق أن يشقى الفقير بعيشه ... وذو المال في شر الغواية يسرف
وأن يدنف المثرى بأعقاب بطنه ... غداة خفيف الحاذ بالجوع يدنف
أما في كبود العالمين هوادةٌ ... ولا رحمة عند الشدائد تعطف
وهل فقدت بين الأنام قرابة ... يحثُّ بها منهم عديم ومترف
أرى المرء لا يأسو جراحة مملق ... ولو هزَّ فوْديه النصيح المعنف
أراه إذا ما نَعَّم الرغد جسمه ... غدا قلبه يقسو لديه ويصلف
إليكم بني غبراَء تدمى عيونهم ... وليس لهم إلا المياسير مسعف
يمدون نحو المحسنين أكفهم ... وما يستوي المكفيُّ والمتكفف
سألت عزيز المال حين يغوثهم ... من الرمل تحثو أم من البحر تغرف
ألا إنما الحسنى إليهم فريضةٌ ... وفي ذلك الآيات لا تتحرف
فإن طلبوا الإنصاف قيل سماجة ... ومن لك بالمظلوم لا يتنصف
عليكم بكشف العسر عنهم فإنما ... أخو الضر يمسي ضارياً حين يهجف
فلا ترهقوهم بالشقاوة والطوى ... فيبدو منهم بادر لا يكفكف
فإن لم ينالوا بالهوادة حقهم ... ينالوه يوماً والصوارم ترعف
ولا تهملوا حسن الخطاب ولينه ... فإن الخطاب العذب نعم المثقف
لكم عبرة في الغرب من كل فتنة ... تهز الجبال الراسيات وتخسف
فلو كان عيش للمفاليس طيب ... لما قام منهم قائم متطرف
وفي الديوان كسائر الدواوين الشعرية مديح وقصائد في التهنئات، ومقاطع في الغزل والنسيب، وكلها من الشعر الجزْل. رحم الله ناظم عقودها وأمد في حياة ناشرها.
