جرت العادة أن ينسب اختراع الرياضيات إلى المصريين واليابانيين . وهم من يرجع تاريخهم إلى ستة آلاف أو سبعة آلاف عام ،
ولكن إذا عرفنا أن الرياضيات قد ولدت يوم بدأ الناس يعرفون شيئا قليلا عن العلاقة بين العدد والهندسة وجب أن نقول إن الرياضيات قد وجدت قبل مولد تلك الأمم القديمة ، بل وجب أن نؤمن أن تاريخها يرجع إلى السلالات الأولى ، سلالات العصر الحجري الحديث ، بل إلى سلالات العصر الحجري القديم . ويؤكد العالم شارلس دارون " أن " الذاكرة " و التصور " وهما من لوازم العقل الرياضي قد تبين وجودهما لدى الحيوانات العليا .
وإنه ليمكن التسليم بأن الإنسان في مراحله الأولى قد وعى أثارة من المعارف الرياضية وراثة عن أسلافه الأولين من الحيوانات .
والإنسان حتى في مراحله البدائية بعد أعجوبة رياضية إذا قورن بالقردة العليا . ذلك بأنه هو البادئ بترقية لغة الكلام .
ولما خطا الإنسان خطوة أخرى في سبيل التقدم بدأ يعرف شيئا عن حجم الأشياء وشكلها ، وبدأ فوق ذلك بإدخال عنصر جديد يعمل على رقي الكائنات الحية .
هذا العنصر الجديد هو " العمل " والإنسان بالعمل قد أقحم نفسه في ميدان جديد اشتدت فيه المعركة ، وحمي وطيس النضال بينه وبين قوى الطبيعة .
وهو بذلك قد بدأ يعمل على تغيير ما أوجدته الطبيعة ، وعلى تغيير ما بنفسه تبعا لذلك ، فاخترع الآلات ، وبذلك ارتقى خطوة في سبيل التقدم الاجتماعي ، ويرجع تاريخ هذا التقدم إلى بضع مئات الألوف من السنين ، وذلك يوم بدأ يعرف شيئا عن العلاقات التي تربط بين الأعداد والأحاد . وإننا لنستعين علماء التاريخ الطبيعي للأجناس البشرية لكي نعرف شيئا عن تلك المعارف الإنسانية الأولى ، وهؤلاء
العلماء يقولون : إن القبائل البدائية التي كانت تسكن " استراليا " و " بولينيزيا " كان أفرادها صيادين في البر والبحر ، ولم يكونوا على علم بالزراعة ، وكانت آلاتهم جد بسيطة ، بل كانوا لا يعرفون القوس والنشاب ، اللذين كان يعرفهما أفراد بعض قبائل العصر الحجري القديم .
ولكن تلك القبائل كانت قد سبقت فعرفت بدايات الطريقة العددية . وكانت لغاتهم تحتوي على كلمتين تعبران عن العددين : " واحد " و " اثنين " .
وكثير من نبغائهم كانوا يستطيعون العد إلى العددين : " ثلاثة " و " أربعة " . وكانوا يقولون عن الرقم الأول إنه مجموع واحد واثنين ، وعن الرقم الثاني إنه مجموع اثنين واثنين .
وكان هذا العد آخر ما وصلت إليه براعتهم العلمية . ويقال إن قليلا منهم كانوا يعرفون اصطلاحا خاصا يطلقونه على العدد " ثلاثة " وهذه المعرفة تبين لنا مدى التقدم العظيم الذي جاوزت به تلك القلة طريقة الأعداد الزوجية إلى الأعداد الفردية .
وأفراد بعض القبائل الاسترالية كانوا يعبرون عن العدد " واحد " بكلمة مال " وعن العدد " اثنين بكلمة بيولان " وعن العدد " ثلاثة " بكلمة " جوليا " ، وعن العدد " أربعة " بالكلمتين " بيولان بيولان " . أي اثنين زائدا اثنين . وعن العدد خمسة بالكلمتين بولان - جوليا " أى اثنين زائدا ثلاثة . وعن العدد " ستة " بالكلمتين " جوليا - جوليا " أى ثلاثة زائدا ثلاثة
ولما انتقل أفراد القبائل البدائية من طور جمع الطعام إلى طور انتاج الطعام زاد تقديرهم لفائدة القيم العددية ولفائدة العلم بالعلاقة بين تلك القيم وبين ابعاد القضاء . وهي معارف تعد حادثا عظيما في سبيل تحرير الإنسان من ريقة الجهل . وهي تمثل لنا المرحلة التى انتقل فيها الإنسان من
العصر الحجري القديم إلى العصر الحجري الحديث . وهو الانتقال الذي تم في أقطار عديدة من أقطار الأرض في عصور مختلفة يرجع تاريخها إلى عشرة آلاف عام .
وما إن استقر المقام بإنسان العصر الحجري مزارعا بدائيا . وبانيا للأكواخ والقرى - وفقا لتفكيره يومذاك - حتى بدأ يصنع الفخار ، ويصهر المعادن ، ويحترف النجارة ، والنسج ، والخبز ، وصنع المشروبات المخمرة ، كما بدأ يصنع الآلات اللازمة لتلك الصناعات .
وتلك الصناعات لم تكن واسعة الانتشار . فالهنود الحمر لم يكونوا يعرفون شيئا عن العربات إلى أن حل بديارهم الأقوام البيض .
ولما تقدمت الشئون التجارية زادت حاجة الأقوام إلى المعارف الحسابية لكي يعرفوا عدد السمك للصيد . وعدد القطعان من المعز والضأن ومقدار محاصيل الأرض . ولكي يعرفوا أيضا أصول المقايضة والمعاوضة . وليعرفوا كذلك عدد السنين .
ولا شك أن الإنسان قد بدأ تعلم الحساب بالعد على أصابعه . وكذلك لا شك في أن العد بالطريقة الخمسية أو بالطريقة العشرية لم يتخذ طريقه إلى الظهور إلا بعد أن تقدمت الحضارة تقدما نسبيا . فالأقوام البدائيون كانت وسيلة العد عندهم أن يحملوا الأشياء المراد عدها أكواما منفصلة . كل كومة منها اثنان أو أربعة أو ستة . وكانت من طرائق التغيير والتبديل عندهم أن يلجأوا إلى الأكوام الثلاثة .
وقد وصف واحد من علماء الأجناس الصعوبة التي كان يلاقيها الإنسان البدائي وهو يجري عملياته الحسابية بالعد على الأصابع فقال : إذا سأل هذا الإنسان سائل : كم يوما يسير المسافر ليبلغ مكانا ما ؟ فترى هذا الإنسان قد أرتج عليه القول . ذلك لأنه يجهل كل فكرة عددية جهلا مطبقا .
وذلك أيضا لأنه لا يعرف عددا هو أكبر من العدد ثلاثة . فإذا أراد أن يقول " أربعة " اتخذ من أصابعه آلة حاسبة كأحدث ما يستعمله الحاسبون اليوم . فإذا أراد أن يقول " ستة " ثم عليه الأمر . وسدت عليه المسالك . ذلك
لأن اليد الواحدة التي تمسكها الأخرى فتعد عليها ليس بها إلا خمس أصابع .
وعلى الرغم من ذلك فإن القوم البدائيين قلما كانوا يفقدون ثورا من ثيرانهم ؛ ذلك لأنهم كانوا يعرفون أن ثورا قد فقد يفقدان صورة وجهه التي يعرفونها جد المعرفة . .
وقد بدأ اليونان القدماء بالعد على يد واحدة ، ثم ارتقوا إلى العد على أصابع كلتا اليدين ، ثم إلى العد على أصابع اليدين والقدمين ، ومن ثم نشأت الرموز التى تعرف بها الأرقام : خمسة ، ثم عشرة ، ثم عشرون .
ثم ارتقى الأقوام في العد والحساب ، وبخاصة أولئك الأقوام الرعاة ، الذين كانوا يملكون قطعانا كثيرة من الماشية ، وكذلك أولئك الأقوام الذين كانوا يعنون بالزراعة ، وقد كانوا في حاجة إلى معرفة عدد الأيام والشهور .
والأقوام البدائيون يحبون الأرقام حبا جما ، وتدفعهم إلى ذلك الحب رغبتهم في المبالغة في تقدير ما يملكون من قطعان الماشية ، وكذلك المبالغة - تفاخرا واختيالا - في تقدير عدد من قتلوا من خصومهم ، ومن ذبحوا من أعاديهم .
ويوم عرف الناس أن يضعوا رمزا خاصا للرقمين ) خمسة ( و ) عشرة ( بدأ علم الحساب يثبت وجوده .
وكان الناس أول أمرهم إذا أرادوا أن يقولوا أربعة عشر قالوا : خمسة عشر إلا واحدا ، وإذا أرادوا أن يقولوا ثلاثين ( ذالوا : أربعين إلا عشرة .
وعرف الناس عملية ) الضرب ( يوم عرفوا أن عشرين هي عشرة مضاعفة ، بدلا من عشرة زائدة عشرة .
ولما أخذ هذا التقدم الحسابي مكانه واستقر بدأ الناس يوجهون عنايتهم إلى ) قياس ( الأشياء ، فاتخذوا من أجزاء أجسامهم وحدات قياسية كالإصبع ، والقدم ، والكف ، والذراع ، كما اتخذوا الأصداف والدلاء ذات الأشكال والحجوم المتساوية وحدات للكيل والميزان
(من الإنجليزية)
