المؤلف حلبي ، والناشر حلبي ، والكتاب عن مدينة حلب .
وفي ذلك يقول الناشر في المقدمة : " وما نريد من وراء هذا العمل إلا خدمة الوطن واللغة والتاريخ ، فنؤدي زكاة العلم ، ونرد إلى حلب فضل ما أهدت حلب إلينا ، ونقوم لها بما وجب علينا " ، وهذا ضرب من الوفاء محمود ، ولعل حب الوطن هو الذي دفع الدكتور سامي الدهان إلى العناية بتاريخ البلد الذي نشأ فيه ؛ فإذا بلغ الحب مرتبة الهوي حث الهمم ودفع إلى التفاني والفناء .
وحلب ، ولا ريب ، مدينة عظيمة ، وتقع عظمتها في تاريخها ، إذ كانت لتوسطها بين الشرق والغرب مركزا للتجارة ، وسوقا للأدب ، وذخرا للحضارة ، وكانت التجارة ولا تزال مصدر خيرها ، وأصل شرها كذلك ، إذ طمع فيها الغزاة في كل عصر ، وفتك بأهلها الجند ؛ فوضعوا السيف في رقاب الرجال ، وسبوا الأطفال والنساء ، وهدموا الدور وخربوا القصور ولكن موقعها الفريد كان يدفع الملوك والأمراء إلى إعادة بنائها وتجديد عمارتها ؛ فترجع إليها مكانتها من المال والعلم والسلطان .
حكي لي أديب شاعر حلبى الأرومة قال : أغلب سكان حلب تجار ، يستقبلون الوافدين عليهم من الشرق والغرب ، وفي بيت كل واحد منهم مكتبة عامرة ؛ فإذا فرغ التاجر من عمله تزود من الكتب علما وأدبا .
وكان جد هذه الأسرة - تعنى ابن العديم - تاجرا استوطن حلب في القرن الثالث ، وشغل أولاده فيها بعد مناصب القضاء والإمامة والتحديث .
وكانت هذه هي حال ابن العديم من العلم والأدب ، لقي في حلب ياقوتا الحموي صاحب معجم الأدباء ، وابن خلكان صاحب الوفيات ، وجمال الدين القفطي صاحب أخيار الحكماء
وجاء ابن العديم إلي مصر سنة ستمائة وأربع وأربعين في سفارة فاجتمع بالعلماء والشعراء ، ولم تقتصر سفارته على مصر بل ذهب رسولا من الملك الناصر صاحب الشام إلى الخليفة المستعصم ، وقدم إلى مصر مرة أخرى سنة ٦٥٧ رسولا من صاحب دمشق يستنجد المصريين على قتال التتار حين اقترب قدومهم إلى الشام ، وجاوز هولاكو الفرات ، واقترب من مدينة حلب . وبعد أن هزم قطن هولاكو في " عين جالوت " سنة ٦٥٨ ، وأجلى التتار عن الشام ، عاد ابن العديم إلى حلب ، ولكنه شهد فيها الخراب والدماء والوحشة ، فعاد إلى القاهرة حيث توفي سنة ٦٦٠ ؛ قال الناشر : " ودفن من يومه بسفح المقطم " ، وسمعت أن قبره في الجبل مع ابن الفارض ، ولم أتحقق من ذلك .
ولابن العديم كتاب كبير في تاريخ حلب اسمه " بغية الطلب " ينوي الدكتور سامي نشره قريبا ، وقد رتبه المؤلف على الحروف ، ثم اختصره ونهج فيه نهجا آخر ، إذ بدأ بذكر اسم حلب واختلاف الروايات في ذلك ، ثم عرض لتاريخها أيام اليونان والرومان على وجه الإنجليز ، ثم ذكر الفتح الإسلامي وولاتها في عصر الخلفاء الراشدين ، وتحدث عنها أيام الأمويين والعباسين . وفي عهد الطولونيين . والأخشيديين ، وسار على هذا المنهج إلى عام التاريخ بمصره . .
وقد سماه بالزيده كناية عن الخلاصة ، ودلالة على أن هذه الخلاصة ثمينة أو سمينة ، لما بين الزيدة والحلب من تاسب . وعندنا أن اختيار ابن العديم الزيدة ووقوعه على هذا اللفظ لم يكن عفو الخاطر ، وإذ كان يحب الطيب من الطعام ، وله من جملة مؤلفاته "الوصلة إلى الحبيب في وصف الطيبات والطيب" يبحث فيه عن "الشهوة والمأكل والمشرب والطيب والمسك والعنبر . وعمل الأدوية . ويعالج طبيع السفرجل والتفاح والدجاج . . ومن هذا الكتاب عدة نسخ خطية .
وليست مكانة الزيدة في منزلة مؤلفها فقط ، بل لأن الكتاب يروي أخبارا ويحقق آثارا لا تجدها في كتاب آخر . فهو يذكر مشاهداته الخاصة ، وبذلك يكون التاريخ حبا مائلا ناطقا .
مثال ذلك عندما تحدث عن عزيز الدولة أبي الشجاع فانك وكان والي حلب من قبيل المصريين ، وهو الذي مدحه المتنبى في قصيدة له ، قال : " وعزيز الدولة هنا هو الذي جدد القصر تحت قلمة حلب ، وتناهى في عمارته . . وهو الذي أمر بعمارة القناديل الفضة للمسجد الجامع ، وهي باقية إلى الآن . واسمه عليها ، يريد في زمن ابن العديم
ويستدل ابن العديم على تاريخ الأوائل بالنظر في النقود القديمة وتحقيق ما كتب على ظاهرها . وهذه طريقة المحدثين من علماء الآثار . قال في صفحة ٦٠ : " ورأيت فلوسا عتيقة ، فتتبعت ما عليها مكتوب ، فإذا أحد الجانبين مكتوب عنه : " ضرب هذا الفلس بمدينة حلب سنة ست وأربعين ومائة " . وعلى الجانب الآخر : " مما أمر به الأمير صالح بن على أكرمه الله " .
ويصل ابن العديم بين أسماء الأماكن وأسماء الولاة ، ويصف هذه الأماكن . قال عند الكلام على الخليفة المعتضد إنه "ولي بحلب من قبل ابنه الحسن بن على المعروف بكوره الخراساني ، وإليه تنسب دار كوره . التي داخل باب الجنان بحلب . والحمام المجاورة لها . وقد خربت الآن ولم يبق لها أثر " .
وإذا كنا نري ابن العديم يسلك مسلك المحققين من المؤرخين فيعتمد على الوثائق والآثار والنقوش والخرائب . فإنه يجرى مجري أغلب مؤرخي العرب ، فيذكر الروايات
القديمة دون تمحيص كأنها ثقة لا يرتقي الشك إليها . جاء في افتتاح الكتاب عند ذكر حلب وسبب تسميتها واشتقاقها " اسم حلب عربي لا شك فيه ؟ . وقد علق الناشر الفاضل على هذا الرأي فأحال علي ما ذكره صاحب معجم البلدان في تقريبه الكلمة من العبرانية أو السريانية ، وإلى بحوث المستشرقين في ذلك . وماذا كان اسمها في اللغة الأكادية والمصرية القديمة .
وقد عرف الغربيون منزلة الكتاب . فنقل كثير من المستشرقين في القرن التاسع عشر إلي اللغة اللاتينية بعض أجزائه . منهم برترو ، وفمربتالح . وموللر ، ودى مينار . وسلفستر دى ساسي ، فكان ما نقلوه من المراجع الهامة في التأريخ للحروب الصليبية .
ولا نشك في أن نشر هذا الكتاب في اللغة العربية سوف يلقى ضوءا جديدا على التاريخ الإسلامي ، وبخاصة في العصر الذي عاش فيه المؤلف ، بل وفي العصور التي سبقته لأنه يستقي عن مصادر أصبحت مع الأسف مفقودة .
وقد عني الدكتور سامي الدهان بنشر الكتاب نشرا علميا مع التحقيق الدقيق . ولا يستطيع أن يقدر عمله حق قدره إلا من عانى صناعة النشر .
وقد استوقفتنا بعض عبارات لا تفض من هذا العمل الجليل .
في صفحة ١٦ : وسوريا هي الشام الأولى . . وقال في نفس الصفحة كان الملك الأول علي سوريا وبابل .... وفي نفس الصفحة . . . وبها آثار قديمة يقال لها سورية .
فلماذا رسم سورية رسمين أحدهما بالألف والآخر بالتاء المربوطة مع أنه رسمها ص ٣٥ ، ٣٦ الرسم الصحيح وهو "سورية ".
وفي ص ٢٢ " ولما عاد كسري عن الشام ، قام هرقل ابن فوق بن مروفس..." قال الناشر في الهامش : " حرنا في رد هذا الإسم إلى أسله الأعجمى" ثم ذكر أن المستشرق الذي ترجم مروج الذهب المسعودي رسمه Mautice . يقول وهذا هو النطق الفرنسي للأسم اللاتينى Matcus : ويسميه العرب مرقس ، أو مارقوس ، كما ذكر الشهرستاني .
وفي ص ٣٣ جاء ذكر عزل عمر لخالد بن الوليد وكان اميرا على فنسرين ، تحت إمرة أبي عبيدة الذي كان والي عمر على الشام . وكان خالد قد أجاز الأشعث بن قيس بعشرة آلاف درهم . فبلغ ذلك عمر ، فكتب إلي أبي عبيدة " أن يقيم خالدا ويعقله بعمامته وينزع عنه قلنسوته . حتى يعلمكم من اين أجاز الأشعث ؟ أمن ماله ؟ أم من إصابة أصابها ! فإن زعم أنها من إصابة أصابها فقد أفر بحياته . وإن زعم أنها من ماله فقد أسرف . وأعزله على كل حال ، واضمم إليك عمله . فكتب أبو عبيدة إلي خالد فقدم عليه . ثم جمع الناس ، وجلس لهم على المنبر . فقام البريد فقال : " يا خالد أمن مالك أجزت بعشرة آلاف أم من إصابة ؟ " . إلي أن أجاب خالد أنه من ماله فأعيدت إليه قلنسوته . وبقي خالد متحيرا لا يدري أمعزول أم غير معزول . " وجعل أبو عبيدة يكرمه ويزيده تفخيما ولا يخبره ، حتى إذ طال على عمر أن يقدم ظن الذي قد كان . فكتب إليه
بالوصول " .ونرى أن صواب العبارة ليستقيم المعنى "حتى إذا طلبه عمر أن يقدم . ." ذلك لأن العبارة السابقة تفيد حيرة خالد ، وجهله نبة الخليفة ، فلما طلبه عمر أن يقدم عرف المصير .
وقد رسم الناشر الإخشيذ بالذال المعجمة . كما جاء في النحوم الزاهرة لابن تغري بردي ، وهكذا ضبطت في نسخته الخطية ، ولو أن بعض المحدثين يرجحون أنها بالدال لا بالذال ونأخذ على الناشر أنه عدل عن هذا الضبط ، تمني بالذال ، في بعض المواضع ، ولعل ذلك من الخطأ المطبعي . ولكن العنوان الذي كتبه بالخط الفارسي الكبير خلا من نقطة الدال .
وبعد فهذه هنات هينة لا تنقص من رونق الكتاب فالجهد المبذول فيه جدير بكل تقدير وإعجاب .
