من دأب الزائرات في بعض الممالك الإسلامية أن يلبسن كَوْثاً (1) أحمر يخلعنه لدى باب حجرة الزائرين ليراه الرجال فلا يدخلوها ما دمن فيها. وهذه قصة الزوج المسكين صادق علي، الذي رأى الكوث الأحمر فلم يستطع أن يلج باب الحجرة ليلقى زوجه بعد سفر طويل عبر الصحراء الملتهبة المتلظية، وما حل بصاحب الكوث من دمار
زبيدة ابنة الصائغ فتاة جميلة بارعة الحسن ساحرة اللفتات، تميس كالغصن الرطب في الروضة الفيحاء، وتبسم كالزهرة الناضرة في الخميلة الغناء. . . لم تكد تبلغ من العمر سنتها الثانية عشرة حتى حبسها أبوها في ظلام الخدر، وأسبل على بدرها السافر خمار الأسر، كما تعود الشرقيون أن يفعلوا ببناتهم إذا ما بلغن هذه السن المبكرة، التي تعد فيها الفتاة لزواج مبكر كذلك، بينما يكون بناتنا (في إنجلترا) يتلاعبن في الحدائق، ويتثقفن في المدارس، دون أن تبدو عليهن بداوات الأنوثة الفائرة الثائرة، التي هي أول إرهاصات الزواج
وكان جميع موسري المدينة ينتظرون اكتمال شباب الفتاة
ليخطبوها من أبيها لأبناهم، وكان كل منهم حريصاً أشد الحرص على أن يفوز بها لأبنه دون جميع الناس. وكانت حمرة الخوخ التي تتأرج بالعطر من خديها، وتفتير النرجس الذي ينفث السحر من عينيها، ثم هذه القسمات التي تتحوى حول فمها الدقيق الرقيق. . . كان جميع ذلك مخلوقاً للحب، موقوفاً على الهوى، غير ميسر إلا لشباب غض مثله ريان كما إنه ريان
وتقدم الأباء إلى الصائغ يخطبون زبيدة، ولكن الصائغ كان يغلو في تقدير مهرها ليتخلص ممن لا يراه كفءاً لها، وطمعاً منه ألا يكون أحد قد قبض لأبنته مهراً أكثر من مهر زبيدة. ولم لا؟ أليست زبيدة أجمل فتيات المدينة وأرشقهن وأوفرهن فتنة وأخفهن روحاً؟ وهي مع ذاك كاتبة قارئة تحفظ قدراً غير قليل من آيات الله وحديث الرسول وقصائد الشعراء، ثم هي تجيد الإنشاد والغناء حتى لا يغني مثلها بلبل، ولا يجيد أن يرسل مثل نغمها ناي ولا عود. . . أضف إلى ذلك كله مهارة فائقة في الحياكة وأشغال الإبرة وشواغل المنزل. . .
وكان أغنى أغنياء المدينة - صادق علي - رجلاً شيخاً، أشرف على الستين، وكان صديقاً للصائغ، يقضي كل يوم شطراً من فراغه عنده؛ وكانت أسعد لحظاته تلك التي يرى فيها زبيدة الصغيرة تلهو بعرائسها أو تبعث بِبِلْيها، وهي مشرقة أمام الدكان بين أترابها كالقمر الحالم بين الأنجم الحَسْرى. . . ولم يكن أحد يفكر في أن هذا الشيخ الذي أوهنه الكبر قد ثوى في فؤاده من حب زبيدة ما لم يثو في أفئدة الشبان اليوافع؛ وأنه صمم على أن يشتري هذا الجمال وذاك الكمال بذهبه الذي لا يكاثره في ضخامته أحد. . . فلما تقدم خاطبا زبيدة إلى أبيها، هش الرجل وبش، وعده فخراً أي فخر أن يصهر إلى صادق علي ذي الكنوز والضياع والأملاك الشاسعة، والقصور المنيفة العامرة
وذعرت زبيدة أيما ذعر لما صعقها أبوها بهذا النبأ. وكيف لا تذعر وهي تعرف الرجل أحسن المعرفة، وطالما قدمت له أقداح الشاي المعطر، وفناجيل القهوة العربية، في دكان أبيها؟ وكيف لا تذعر، وهي يعز عليها أن يذبل شبابها الفينان، في هاتين اليدين المثلوجتين، وتحت ظلال تلك الشيبة الناصعة، وهذا البدن المهزول المعروق. . . إن سنيها الثلاث عشرة لتنوء تحت كلكل السنين الستين التي يرزح تحتها هذا الرجل. . . وإن حمرة الخوخ وتفتير النرجس وقسمات الخدين وجنة بدنها الخصب الناضج، لأعز من أن تشرك صادق علي في قبره القريب! فلم لا تفزع الفتاة من النبأ المزعج الذي فجأها به والدها في أمسية شقية فتقول له:
- أبتاه! عمرك الله ماذا تقول؟ ما أظنك إلا ساخراً بي! إن صادق علي رجل عادل، وأحسبه لا يرتضي هذا الظلم الذي يوشك أن يحل بي، فهو شيخ عجوز طاعن في السن، وأنا بعد فتاة صغيرة لم تكد تنقضي طفولتي، فأين أنا وأين هو. . . لا لا يا أبي. . .
فيتلطف أبوها ويقول: (هذا حق، إلا أنه يا ابنتي رجل موسر غني ضخم الثراء، وقد مهرك مهراً لم تمهر بمثله فتاة في المدينة؛ وهو مع هذا يحبك وسيحرص عليك كروحه، وحين تصبحين زوجة سيحترمك الجميع وتكونين على رأس السيدات قاطبة. . . ثم هو برغم سنه قوي فتي مفتول العضل، غض الإهاب موفور الشباب. . .
فتعبس الفتاة وتقول شاكية: (أوه يا أبي! ولكني لا أستطيع أن أحبه. . . هل ضقت بي ذرعاً يا أبي فتريد أن تقذف بي ولما أستمتع بعد بشبابي؟! دعني أعش معكم قليلاً يا أبتاه! دعني أستمتع بالشباب الحلو، وأهنأ بأفاويق الصبا الغريض!
وأتقد عينا الأب الجشع بالغضب، وهم أن يبطش بزبيدة المسكينة التي تقدمت في سذاجة وخوف، فطوقت أباها بذراعيها اللدنتين، وأسندت رأسها الصغير إلى صدره الكبير، وانطلقت تبكي
- أسكتي يا ابنتي! إن الفتاة العاقلة المهذبة هي التي لا تضطر أباها إلى أخذها بالشدة، بل ما على الوالد إلا أن يأمر، وما عليها إلا أن تطيع. إنني لست كهؤلاء الآباء الذين نشأوا أبناءهم على احترام العصا، ولكنني أرجو ألا أضطر إليها إذا ركبت رأسك ولم تصيخي ولم تسمعي!
وأزلزل قلب الفتاة، وذكرت ما كان يعاملها أبوها به من اللطف والظرف والرقة والرفق، وأنه ما ساءها قط بضرب ولا تأنيب، وأنها، وما تزال، كانت كل شيء له في هذه الحياة، لأنه لم يكن له ولد غيرها، وأنه طالما جلب لها اللعب، وترضاها بالدمى. . . فسكنت وقالت: (عفواً يا أبي. . .) وسر الرجل التاجر، وقبل أبنته وقال: (الآن أنت ابنتي حقاً. . . أنت زبيدة المؤدبة المهذبة المطيعة. . . غداً يحضر صادق علي فينثر ذهبه تحت قدميك، ولا يمضي شهر حتى تزفي إليه
وكان لزبيدة خادمة نوبية أبنوسية السواد، وكانت بها حفية وعليها عطوفا، فأهرعت إليها زبيدة تقول:
- فاطمة! فاطمة! هل علمت؟ لقد أمر أبي أن أتزوج من صادق علي العجوز الغني الأرمل الذي سنه أضعاف سني؟! وهو يقول إنني سأزف إليه قبل شهر، فهل رأيت؟ آه يا فاطمة أنا لا أطيق هذا! ساعديني بربك حتى أنجو من هذا العذاب
- آه يا صغيرتي العزيزة! لا بد أن تتم مشيئة أبيك! حقاً إن صادق علي رجل عجوز أرمل، ولكنه غني واسع الغنى، ! وستنعمين عنده بما لا تحلم به فتاة
فجحظت عينا زبيدة، وقالت للنوبية المشئومة: - حتى أنت يا فاطمة! وسري الذي ألقيته إليك أمس؟ هل نسيته؟ فوضعت النوبية إصبعها الأبنوسي في فمها المرجاني، وأنشأت
تقول: - صه! أسكتي يا صغيرتي! إياك أن تنبسي بهذا الهذر بعد فقد يذهب به طائر سوء إلى من تكرهين أن يعلمه. . . حقاً، أنا لم أنسى ما قصصت عليّ من غرام عمران الشاب صاحب الناي. . . ولكن هذا العبث لابد أن ينتهي الآن، ويجب ألا تلتقيا بعد !اليوم
- بيد أنني أحبه يا فاطمة! إنه جميل ويافع. . . وعزفه أحب إليّ وأحلى من غناء النسيم في أفنان شجرات اللوز، وصفاء عينيه أوقع في النفس من صفاء الماء النمير في الغدير. . . إن له لملمساً ناعماً كأوراق الورد يا فاطمة! أواه لو أنني زففت إليه بدلاً من صادق علي!
- حسبك! إنك إذن كنت تلقينه! والله لو علمت بهذا لفضحتك عند والدك منذ أسابيع!
وهكذا اسودت الدنيا بأسرها في فؤاد الفتاة، فلقد كانت ترجو أن تعينها فاطمة على بلواها، فانعكست الآية، وأنتشر ليل أحزانها من وجه النوبيه البغيض
لقد أحبت زبيدة عمران، وأحب عمران زبيدة، لأنهما نشآ في مهد الطفولة الناعم، وشبا على غرار الشباب الغريض، فبارك الله قلبيهما، ومشى عليهما بيده الرحيمة الطاهرة. ولما وقفا مرة قبيل حجاب زبيدة، تحت ظلال أشجار البرتقال في حديقة بيت الصائغ، نقل الأرج الحلو شذى حبهما من قلب إلى قلب، وعرفا لأول مرة سر الوجود، ونظر بعضهما إلى بعض نظرات عميقة جديدة مغرورقة بالدموع، تنسكب من أغوار الفؤاد لا من أطراف العين. . . وظلت أشجار البرتقال هيكلهما الحبيب، يتناجيان في ظله ويتشاكيان، هي في الثالثة عشرة أو في فجر الرابعة عشرة؛ وهو في الثامنة عشرة، أسود العينين، مسبل الشعر، وضاح الجبين؛ ثغره الباسم كالأقحوانة، وخده المكسو بالخمل مهيأ للقبل، وشبابه اليانع كنضرة الحديقة، وماءة حسنة تسكب نداها في روح زبيدة، القسمة الوسيمة، المفتان الحسان التي لها هذا الفم وذاك الجسم. . . تبارك الله!. . .
يا للقضاء الساخر! لقد قطف الحبيبان جنا القبلة الأولى. . . القبلة الشهية السحرية التي غيرت معالم الأرض، ودارت برأسيهما حولها. . . في صبيحة اليوم الأسود الذي تكلم فيه الصائغ مع فتاته، فصعقها بالنبأ المشئوم
لقد باتت زبيدة ليلة يا لها من ليلة، تتقلب على فراش من الشوك، وتجتر صنوفاً مهلكة من الهموم، وتطيف برأسها المتقد شهب من الأفكار تقذف روحها بالصواعق. . . حتى إذا انبلج الفجر، وأنفلق الصباح، وثبت كالقطاة من سريرها الكئيب وطوت الدرج دون أن تنتعل حذاء يقي قدميها المعبودتين، وذلك
مخافة أن توقظ أحداً من النُّوام الأشقياء، ثم انفلتت إلى الحديقة قبل أن يهتف المؤذن هتاف الصباح الرهيب: (الله أكبر! الله أكبر!) وقبل أن تنتثر أوراق الورد على جبين المشرق. . . ومضت إلى الهيكل. . . بيت المقدس الحبيب. . . إلى شجرات البرتقال، ووقفت ثمة ترتقب عمران الذي كان منها على موعد. . . ولم تبال بقطرات الندى التي كانت تهل معطرة بفغمة الورد، وعبير أزهار اللوز، وروح الزئبق والياسمين، لأنها ملائكة الحب تجبر القلوب الكسيرة، وتمسح الدمع من عيون العشاق. . .
وأقبل عمران في ظلام البعد يسكب في آذان الطبيعة النائمة موسيقاه، ويساعد المؤذن التقى بنايه الفردوسي، فتصحو البرايا وتهتف مع المؤذن ومع عمران: (الله أكبر)
وروع عمران ما رأى من وجوم حبيبته، وما لمح من لؤلؤ دمعها الذي يوشك أن ينهمر: (ماذا؟ زبيدة! ما لك يا حبيبتي؟ لقد كنا بخير أمس! فماذا؟ ما بالك باهتة هكذا كأننا في أخريات رمضان؟) ولفت زبيدة ذراعيها الحبيبين حول عنق فتاها، وجعلت تصعد آهاتها وتقول: (آه يا حبيبي! لقد كان ما لم يكن في الحسبان. لقد خطبت! وقضى أبي أن أزف إلى صادق علي العجوز الأرمل بعد شهر من الزمان!)
وتصدع قلب الوامق المحب، وبكى، وبكت معه زبيدة؛ وطفقا ينعيان أحلامهما، ويتغنيان آلامهما، ولا يدريان ماذا يصنعان. وكان الفجر الحزين يبكي معهما بدموع الندى
وجلسا على العشب المبلل ساعة، وزبيدة نائمة غارة في صدر حبيبها، وكلما حاول عمران أن يتكلم انحبس منطقه وتكلمت جفونه، ولم يملك إلا أن يغمر حبيبته بالقبل، يطبعها في شعرها المغدودن، وفوق جبينها الشاحب، وعلى صدرها المرتجف، حتى ذر قرن ذكاء، وآذنتهما بالفراق، فهب الفتى المتبول يعانق زبيدة وزبيدة تعانقه، ويقبلها وتقبله. . . ثم افترقا. . . هي كالشبح في ظلال الأشجار إلى القصر الرهيب، وهو كسير القلب، مهيض الجناح. . . إلى. . . الصحراء، لا يدري أيان يذهب
وجعلوا يسمنون زبيدة فيقدمون لها كرات الشهد معجونة بالأفاويه، ويدسمون لها السمان، ويبالغون في انتقاء الآكال. . .
ولكن زبيدة مع ذاك جعلت تشحب وتشحب، ويذبل جسمها ويضوي، وأبوها القاسي يرى ذلك فيحزن، ثم يواسيها بكلمة جافة فتبدي له الرضى. حتى إذا كانت ليلة الزفاف، وخرجت الفتاة من الحمام، وسيقت إلى سجن زوجها، أخذت تودع الحديقة عن كثب، وترمق هيكل الحب المقدس تحت ظلال البرتقال، وتذرف العبرات الحرار، وفاطمة الخبيثة تشهد ولا تتصدع، بل تبسم وتتفكه. . . وتزغرد وتغني. . .
ومضت الأيام. . . ولم يأل صادق علي جهداً في ملاطفة زبيدة ومداعبتها، ولم يترك حلية من ذهب أو ماس أو لؤلؤ إلا اشتراها لها مهما كان ثمنها. . . ولكن الفتاة كانت مع ذاك تشحب وتشحب، ويشتد شحوبها. . . لأنها لم تنس عمرانها الفتى الجميل الذي زاد جماله وتضاعف حبه بازدياد كراهتها لصادق علي. . .
ولم يكن الشيخ العجوز يسمح لزبيدة بمغادرة باب القصر. . . حتى ولو إلى الحديقة الواسعة الفيحاء التي تحيط به، فكانت تصعد إلى السطح، لتتنسم أخبار حبيبها في أديم السماء، ولتنشق عبير الحب القديم على أجنحة الذكريات!
فبينا هي على السطح يوماً إذا بها تسمع موسيقى حلوة في حديقة القصر، وإذا الموسيقى إرنان ناي كناي حبيبها. . . فأطلت لترى من صاحب الناي، فوجدت بستانياً يجمع الأوراق المتناثرة فوق عشب الحديقة. . . وكأنما جذبته روحها اللهفانة فرفع رأسه إلى السطح. . . والتقت الأعين. . . وعرف كل حبيبه
لقد عمل عمران بستانياً لدى صادق علي. . . لينشق الهواء الذي تنشق منه سالبة لبه، وساكنة قلبه. . . وهو مع ذاك لا يحلم بلقائها. . .!
ودارت الأرض مرة أخرى. . . واستيقظت آمال وأحلام! وكان يحس عمران هذه اللحظة السعيدة التي يرى فيها كل أصيل وجه حبيبته، وتلتقي عيناه بعينيها. . . لكن الحب أجرأ من هذا وأشجع. . . وهو لا يبالي أن يسلك سبل الجحيم ليصنع ما صنع يَاوْلو وفرنشيسكارا (1) . . . فتبدلت النظرة فصارت ابتسامة ثم تمتمة، ثم تلويحاً بأعواد من الياسمين. . . ثم محاولة لقاء. . .
ولقي صادق زوجته فشدهه منها تبدل حالها وتدفق الدم الشاب الفتي في خديها. . . وأخبرها أنه مزمع سفراً طويلاً في الصحراء قد لا يعود منه قبل أسبوع، لأن الشيطان نزغ بين نفر من أقاربه، فهو ذاهب لإصلاح ذات بينهم، وإحلال الصفاء محل الجفاء فيهم؛ ثم أوصاها بالقصر، وحذرها - في تلطف - من مغادرة بابه، حتى يؤوب. . . ووعدته أن تكون عند ظنه بها، وفية له، حفية به، عاملة على ما فيه رضاه!
وسافر صادق علي. . . واستطاعت زبيدة أن ترسم الخطة للقاء عمران. . . وكلمته حين أمنت مكر الخدم وقت غدائهم، خلال (مشربية) مشرفة على الحديقة، فاتفقا أن يزورها في زي امرأة (!) وأن يعد لذلك كوثاً أحمر وملاءة سوداء ونقاباً. . . وأن يتخذ اسماً مستعاراً، وليكن (مرسينه) . . . ولم يكن أحد من الخدم يعرف من هي هذه السيدة مرسينه التي تريد لقاء سيدتهم، ولكنهم لم يشكوا قط في إحدى زائرات القصر، ولهذا كانت الخادم، بعد إذ تقدم أكواب الشاي المعطر، أو أقداح القهوة العربية، للسيدة مرسينه، تنسحب من الطابق كله. . . فيخلوا الجو للحبيبين المشوقين!!
ومضى الأسبوع على أحسن حال بينهما من تساقي الحب وتشاكي الهوى، وبلّ أوار القلوب، ثم جاء رسول من لدن صادق علي يحمل رسالة من مولاه، أن قد شجر خلاف آخر، وأنه قاض أسبوعاً آخر عند أهله. . .
وفرح عمران أيما فرح. . . وطفر قلب زبيدة. . . وما كان أجمل عمران وهو يبث حبه إلى فتاته، وهو يعانقها في شدة وحرارة ويقول: (أسبوع أخر؟ وما سبعة أيام يا زهرة حياتي وننفصل بعدها، وتقبل الشفتان الكريهتان فتقطف القبل الحلوة المعسولة من فمك الرقيق الدقيق، وينحط الصدر البغيض الميت فوق صدرك الناهد الأغيد، وتنقلب السلاسل الذهبية التي تربط قلبينا بأغصان الورد فتؤذي قلبك بأصفاد من حديد؟!)
بيد أن صادق علي أنجز أعماله في ثلاثة أيام أو نحوها، وأقبل يحث المطي عبر الصحراء، فوصل قبل ميعاده. . . وصل والمحبان يرشفان كؤوس الهوى، ويتبادلان سلافة الحب، فلما أقبل
الزوج مشوقاً إلى لقاء زوجه، نظر فوجد الكوث الأحمر لدى الباب، فلبث قليلاً، وجعل يروح ويجيء، وينتظر بجدع أنفه أن ينصرف الزائر فلا ينصرف. . ثم يسأل الخادم فيعلم أنها امرأة تدعى مرسينة (تطيل اللبث يا مولاي عند سيدتي، وتحضر إلى هنا كل يوم. . . و. . . و. . .)
ويمضي الرجل المسكين فيدخل إلى الحمام ليذهب عنه غبار السفر ويصعد الخادم فيرهف سمعه، وينصت ليسمع حديث من في الغرفة. . . ولكنه بدلاً من أن يسمع حديثاً ترن في أذنيه قبل فضية، وآهات موجعات. . . ثم ينصت. . . فيسمع شكوى ونجوى. . . وسباباً مقذعا، فيعلم السر. . . ويسقط في يده: (تالله لو علم مولاي لذبح حبيبها أمام عينيها)
وفضل الخادم أن ينقذ الموقف، فنقر بإصبعه على الباب واستوى عمران وأستتر. . . - أدخل! - سيدتي. . . لقد عاد مولاي صادق علي فجأة. . . وهو يريد أن يراك! وارتبكت زبيدة، وأسقط في يدي عمران - لا بأس. . . أذهب أنت! وتبادل الحبيبان القبل مع ذاك، ثم فتحت له زبيدة شباك (المشربية) فانفتل منه وقد لبس الكوث الأحمر
وخرجت زبيدة لتلقى زوجها وهي مطمئنة آمنة. . . ولكن ساعة بأكملها مضت دون أن يخرج من الحمام. . . ومضت ساعة أخرى. . . وأرخى الليل سدوله. . . وأمرت الخدم فأوقدوا السرج. . . وآثرت أن تذهب إلى الحمام لتلقى زوجها. . . وما كادت تفعل حتى برز صادق علي من إحدى الغرف وقد بدل ثيابه، فعانق زبيدة عناقاً حاراً وطفق يغمرها بقبل لا جنية ! ولا مشتهاة
- قط ما عرفت الشوق كما عرفته في هذا السفر يا زبيدة! - . . .؟. . . - لقد أحضرت لك هدايا وألطافاً جمة. . . يا غلام! أحضر السلال والحقائب وأحضر الغلام السلال والحقائب، وطفق صادق علي يحل الأربطة، ويخرج عقود اللؤلؤ وأقراط الذهب وأساور الفضة،
ثم يضع كل ذلك موضعه من عنق زبيدة وجيدها وأذنيها وذراعيها. . . ثم فتح حقيبة وأخرج ثوباً ثميناً موشى فخلعه عليها فبدت فيه كامرأة هرون الرشيد! - هذا جميل. . . أشكرك - وأجمل منه الهدية التالية. . . يا غلام. . . أحضر السفط!
وأحضر الغلام السفط الكبير فقال صادق علي: - أما والله لا يفتح السفط إلا زبيدة. . . فارتجفت يدا زبيدة كأن فيهما كهرباء، وفتحت السفط، ثم جعلت تخرج ما فيه من طرف وتحف. . . ولكنها اقشعرت فجأة، حينما اصطدمت يداها بكوث أحمر. . . ثم بثوب فيه شيء ثقيل. . .
ماذا. . . وا حرباه!! رأس عمران الجميل. . . الرأس الذي كان يرسل عينيه الساحرتين الدعجاوين في عينيها الوامقتين المشغوفتين. . .! الرأس الذي كان لسانه يصوغ أحلى عبارات الغزل! الرأس الذي كان فمه ينفخ في الناي فترقص الملائكة. . . - زبيدة!! أحزينة أنت! - اقتلني. . . اقتلني يا صادق! - لا. . . بل أعاقبك بأشد من القتل! ستعيشين لي!
انظري! هاتان الشفتان المرتعشتان ستنطبقان على شفتيك برغمك. . . لا شفتا عمران! وهذا الوجه المكلثم المجعد الشائه سيزعجك دائماً. . . وهذا الصدر الثقيل سيضايقك أبداً. . . ستكونين لي بعد عمران يا زبيدة! لن يشركني فيك أحد بعد اليوم! أليس كذلك؟ ها ها. . . ها. . .)
ولفت الدنيا برأس زبيدة، ولكن فكرة طافت بدماغها فجأة فجثت تحت قدمي صادق علي، وطفقت تتوسل وتتضرع، وتلف يديها على وسطه، حتى إذا لمست خنجره، انتزعته بقوة، ثم أغمدته في صدرها. . .
- لا لأن أكون لك أيها المسخ، وسأكون إلى الأبد لعمران. . . سأضل وفية لك يا عمران. . . لك وحدك. . . يا. . . عمران!. . .
الشباب للشباب يا شرق. . . وإلا. . . فالكوث الأحمر يعمل عمله
