- ٤ - بعد أن ترك خير الدين الوزارة وتخلى عن الكفاح وانصرف إلى التأليف خلا الجو لمصطفى خزنه دار ، بثقل كاهل الشعب بمظالمه ومغانمه . والباى محمد الصادق باشا الذى تولى سنة ١٢٧٦ ، رجل لين سهل ناعم لا يحب أن يواجه صعوبة ولا يسمع بمشكلة ، يسلم الأمور لوزيره ولا يسأله عما يفعل ، ولا يهمه منه إلا أن يواليه بالمال الكثير الذى يصرفه فى ترفه . والمجلس النيابى الذى أنشىء وجد فيه مصطفى خزنه دار عائقا لتصرفاته واستبداده ، فألغاه وألغى كل ما تبعه من نظم ، وعادت الأمور إلى مجراها الأول ، واسترد الوزير حريته فى فرض الضرائب وطرق تحصيلها .
ومازال مصطفي خزنه دار يستنزف موارد البلاد حتى نضب معينها فاتجه إلى أوربا يستدين منها . وفى أقل من سبع سنوات بلغ الدين ( ١٥٠ مليون فرنك ) .
ووقعت البلاد فى شر محنة ؛ فمن ناحية ثار الشعب من ضرائب تضاعفت ، بل بلغت فى بعض الاحيان ثلاثة أمثالها ، إلى جور وفساد فى التحصيل والتوزيع أسلم إلى الافلاس ، حتى بلغ الحال آخر الأمر أن لم يكن فى خزانة الدولة مرتبات أسرة الباى ولا مرتبات الموظفين ورجال الجيش ولا فوائد الديون ، وحتى اضطر أوساط الناس إلى اخراج نسائهم لجمع العشب وعرووق الأشجار للاقتيات بها . ومن كان عنده قليل من المال أخفاه حتى لا يصادر وتظاهر بالفقر وكان يغلى الفمح فى الماء ليلا من غير طحن حتى لا يتهم بالرخاء ، وقشا المرض والموت إلى أفظع حد . ومن ناحية أخرى تدخلت الدول الأوربية تريد المحافظة على ديونها . واقترحت فرنسا تشكيل لجنة مالية
ووافقتها انجلترا وإيطاليا ، وصدر مرسوم من الباى سنة ١٢٨٦ بتشيكلها من فرنسيين وانجليز وإيطاليين يرأسها موظف تونسى ، وجعلت مهمتها توحيد الدين وتحديد الفوائد وإدارة المرافق التى خصصت لهذا الدين .
وهكذا كانت رواية واحدة مثلت مرة فى مصر ومرة فى تونس لم يختلف فيها إلا أشخاص الممثلين .
عند ذاك اتجه الباى إلى خير الدين بطلب منه أن يرأس هذه اللجنة فاعتذر ، فألح عليه حتى قبل ، وحمل مهمة شاقة فى الداخل والخارج ، ومنح لقب وزير ، ومن الغريب أن الباى احتفظ بمنصب الوزير الأول لمصطفى خزنه دار ، الذى أسلم البلاد للدمار ! وليس لهذا سبب إلا ضعف الباى وشلله أمامه كما يشل العصفور أمام الثعبان .
واجه خير الدين مشاكل من أعسر الأمور ؛ فاللجنة المالية المختلطة تريد أن تضع يدها على كل شىء فى الدولة ، لأن كل شىء متصل بالمال ، حتى المعلم فى المدرسة والحكم فى المحكمة ، ولو فعلت لأضاعت استقلال البلاد بتاتا .
ومشكلة ثانية هى كيف ينقذ هذا الشعب بعد ما احترق بالجوع والفقر والمرض وفقدان الثقة بالحكومة .
ومشكلة ثالثة وهى بقاء مصطفى خزنه دار رئيسا للوزارة ، وهو الشره فى المال كشرهه ف حب السلطة والجاه . ومن ذاق لذة ذلك لم يتنح عنها اختيارا ، وهو بطبيعته وتاريخه عدو كل إصلاح ، غيور ممن يشاركه جاهه . فأما المشكلة الأولى فاستطاع خير الدين - بالمفاوضات الطويلة مع اللجنة ، ومع الدول - أن يحصر دائرة نفوذها فى موارد محدودة وأن ينظم ميرانية الدولة ويضمن للدائنين دفع الفوائد فى حينها ، إلى غير ذلك من وسائل تعهد بها ونفذها فى ضبط وأمانة .
وأما المشكلة الثانية فقد رأى كثرة الضرائب قد أضاعت الزراعة وجعلت البلاد خرابا . ولم يزرع الناس إذا كان نتاج زرعهم ليس لهم وكان زارعهم وغير زارعهم يستويان فى الفقر ؟ فخفف من الضرائب ، ونظم طرق
تحصيلها ، وأخذ بالشدة من تلاعب فيها ، وشجع غرس الزتيون والنخيل ، فأعفى كل من غرس منهما جديدا من الضرائب عليها مدة عشرين عاما ، وأرجع من فر من الأهالى لكثرة مطالب الحكومة ، وأسقط ما عليهم ، وأمر بالنظر ىي شكايات من نكب من الناس على يد الحكومة السابقة ورد ظلامتهم ، ووضع صندوقا كبير فى ميدان تونس يضع فيه كل متظلم ظلامته وأعفاه من التصريح باسمه ، وجعل مفتاح الصندوق معه ، هو الذى يفتحه بنفسه ، وهو الذى يقرأ الظلامات ووقع عليها بما يراه من تحقيق العدل .
وأما المشكلة الثالثة فقد ظل فى نزال مع مصطفى خزنه دار حتى زادت فظائعه وانكشفت وألح الناس بوجوب عزله وسقط سقطة ضبطتها اللجنة المالية فعزل من منصبه سنة ١٢٩٠ ، وأقام الناس لذلك من الزينات والأفراح فى جميع بلدان القطر ما لم يسمع بمثله ، وأصدر خير الدين قرارا بمحا كمته على مااتهم به فحوكم . والنزم بدفع خمسة وعشرين مليون فرنك .
وبذلك ختمت حياة مصطفى خزنه دار السياسية ، وهى حياة تعد مأساة الأمة ، من ناحية موت الضمير لرجل وكلت إليه شئون البلاد فى أوقات حرجة مليئة بالمطامع الدولية ، ومن ناحية خنوع الشعب لهذا الرجل ومظالمه مدة تزيد على ثلاثين عاما ، من غير أن يكون هناك رأى عام يزلزله وينحيه ، وقوة الاحتمال فى مثل هذه الأحوال رذيلة من أكبر ما تمنى به الشعوب .
من ذلك الحين كان خير الدين هو الوزير الأول ، أطلقت يده فيما يرى من اصلاح ولا يغل يده إلا مطامع الدول . تولى إصلاح القطر من جميع نواحيه ، السياسية والزراعية والتعليمية والاقتصادية والمالية والإدارية والقضائية .
فسلك مع قناصل الدول مسلكا حازما صريحا ، يصغى إلى طلباتهم المعقولة ويرفض غير المعقولة ، مع ذكر الأسباب المفصلة المرفض ، فلا يداهن ولا يرائى ، ولذلك
احترموه ولو خالفوه ، وقد يضعون العقبات فى سبيله باطنا ولكنهم يجاملونه ظاهرا .
وقسم الأراضى الزراعية إلى مناطق ، وتحرى اختيار الأمناء لجلب الضرائب . ومن سهل عليه دفع الضريبة نقدا فعل ، أو محصولا فعل ، ونكل بمن ثبتت عليه الخيانة من الجباة ، ونظم العلاقات بين الملاك والمزارعين وبين الملاك والحكومة . وألغى الضرائب غير المعقولة وغير المستطاعة ، وأبطل الحملات العسكرية لتحصيل الضرائب بالقوة ، لأنها كثيرا ما كانت تؤول إلى أعمال السلب والنهب ، فعادت للناس طمأنينتهم ، وعاد للحكومة هيبتها واحترامها ، وانصرف الناس إلى الزراعة بعد أن كانوا ينصرفون عنها ولما ترك الحكم كانت مساحة الأرض المستغلة مليون هكتار ، وكانت حين تسلم زمام الحكم ستين ألفا.
وفى التعليم أنشأ مدرسة عصرية تعلم فيها العلوم العربية والشرعية ، وبجانبها الثقافة المصرية مع تعليم اللغات التركية والفرنسية والإيطالية ، وأصلح التعليم بجامع الزيتونة ، وجمع الكتب المبعثرة فى المساجد ، وكون بها مكتبة كبيرة ، ووهب لها من عنده ألفا ومائة كتاب مخطوط ، ونظمها تنظيما حديثا ، وحسن مطبعة الدولة ووكل إليها نشر الكتب العلمية والأدبية ، وأصلح إدارة (( الرائد التونسى )) وهى الصحيفة الرسمية للحكومة ، وشجع على نشر المقالات فيها ، وكان ينشر فيها أفكاره السياسية ، وألزم الموظفين بقراءتها ، والتفت إلى الناحية الاقتصادية ، فنظم الجمرك ورفع ضريبة الاستيراد ٥ ٪ وخفض ضريبة الإصدار ، وأنشأ المخافر الجمركية لمنع التهريب . ونظم الوظائف الحكومية وعين مرتباتها كما حدد مرتبات القصر ، ووضع ميزانية الدولة على أساس صحيح ، وضبط المكاتبات فى الدواوين ، وأنشأ السجلات للصادر والوارد ورتبها حتى يسهل الرجوع إليها .
وجد فى إحياء الصناعات المغربية كالنقش على الجص والقباب . وكان يأتى بمهرة الصناع من البلاد ، ويعهد إليهم بتعليم طائفة من الشبان .
ونظم الأوقاف وكانت فوضى فى البيع والشراء وصرف الريع وآلت أعيانها إلى الخراب ، فجمعها فى إدارة واحدة ، وجمل عليها السيد محمد ببرم ومعه مجلس يعينه فى تنظيمها .
ونظر فرأى الناحية التشريعية والقضائية فى البلاد مضطربة ، والأجانب لا يخضعون لقانون البلاد ، وليس من السهل إقناعهم بالخضوع ، إذ ليس فى البلاد قانون ، فكان لكل من المذهب الحنفى والملكى قاض مطلق الحكم فى الحوادث ، وقد يحدث أن الحادثين المتشابهين يقضى فيهما قضاء أن مختلفان . ومن المبادئ التى يدين بها الأجانب أن تكون القوانين معروفة قبل الأحداث ، ليست مجالا للاجتهاد ولا التلاعب ، فعهد خير الدين إلى إخصائيين بدراسة القوانين المعمول بها فى الدولة العثمانية وفى مصر وفى أوربا ، وأن يستخرجوا منها قانونا يناسب القطر التونسى ، واستمرت اللجنة فى عملها ولكن خرج الوزير من الوزارة قبل أن يتم .
وهكذا نقل البلاد من حالة كرب وضيق وظلم وفوضى إلى حالة أمن ورخاء وضبط ونظام ورقى فى كل مرفق من مرافق الحياة ، وكأنه بذلك كان يستملى نهضة مصر فيدخلها معدلة فى بلاده .
أما المشاكل الدولية التى كانت أمامه فمعقدة مشتبكة ملتوية : فرنسا تنظر إلى تونس نظرة الصائد نشر شبكته ، تحاول أن تجد من كل حادثة منفذا لتدخلها ، فإذا لم تجد الحادثة خلقتها خلقا ، وتدعى أن لها الحق فيما لها فيه حق وما ليس لها فيه حق ، وتصطنع الرجال وتمنيهم المناصب الكبيرة حتى منصب الباى ، إذا هم أعانوها وأفسحوا الطريق أمامها لبسط حمايتها .
وإيطاليا ليست أقل من فرنسا مطمعا . ولما حدثت الحرب بين فرنسا وألمانيا سنة ١٢٨٨ ه - ١٨٧١ م ، وخرجت منها فرنسا منهزمة اشتدت مطامع إيطاليا . وجدت فى سعيها لتوسيع نفوذها ، فكانت تونس مسرحا
لتسابق الدولتين ، كل تدبر دسائسها ، وكل تشترى ذمم أنصارها ، وكل توعز إلى جرائدها بما يتفق ومصلحتها .
وسط هذه المطامع والنذر بالخطر رأى خير الدين أن يضرب الدولتين بعضهما ببعض ، وأن يقوى الصلة بين تونس والدولة العثمانية ، لأن تونس لا تستطيع القيام بنفسها ، فرسم خطة توثيق الصلات وتحديد العلاقات بينهما ، وكانت علاقات غامضة غير محدودة ، فسمى سعيا متواصلا ، وخاطب الباب العالى فى هذا الشأن وشرح له وجهة نظره ، فأجيب إلى طلبه . وطلب الباب العالى إرسال مندوب إلى استانبول للمفاوضة فى هذا الأمر ، فوقع الاختيار على خير الدين نفسه ، فسافر وفاوض ونجح فى استصدار فرمان يحدد هذه العلاقة ، ويقرر أن تونس إبالة عثمانية ولواليها الحق فى تولية المناصب الشرعية والعسكرية والملكية والمالية لمن يكون أهلا لها ، وفى العزل عنها بمقتضى قوانين العدل وفى إجراء المعاملات المعتادة مع الدول الأجنبية ، ما عدا الأمور السياسية التى تمس حقوق الدولة العثمانية ، كأصول السياسة والحرب وتغيير الحدود ، كما تتضمن إقرار الوراثة فى العائلة المالكة ، مع المحافظة على الخطبة للسلطان وضرب السكة باسمه ، وإجراء الأمور الداخلية فى البلاد على قوانين الشرع ومراعاة قواعد العدل التى يقتضيها الوقت والحال ، والتى تؤمن الناس فى النفس والعرض والمال . وقد صدر هذا الفرمان سنة ١٢٨٨ ، واستقبله الأهالى بالسرور .
وأخذ الباب العالى على عاتقه السعى فى موافقة الدول عليه ، ولكن مشاكله واضطراب أموره الداخلية والخارحية حالا دون إتمامه ، وأبت فرانسا الموافقة عليه لأنه يعوقها عما تنويه لتونس .
هذه خطة خير الدين . إصلاح فى الداخل فى كل ناحية من نواحى الحياة الاجتماعية ، وإصلاح فى الخارج يربط البلاد بالدولة العثمانية ربطا وثيقا يناهض به أطماع فرنسا وإيطاليا . ولكن عودنا التاريخ ألا يأتى مصلح بمثل ما أتى خير الدين إلا أوذى . (يتبع)
