الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 268الرجوع إلى "الثقافة"

زعماء الاصلاح الاسلامى في القرن التاسع عشر :، ٥ - جمال الدين الأفغانى

Share

ماتت جريدة العروة الوثقى ( ولكن لم يمت أثرها ، فقد احيت روح كثير من المتنورين في العالم الشرقي ، وايقظتهم من سباتهم ، وبصرتهم بسوء حالهم مع الاحتلال ، وعلمتهم كيف يكتبون ويخطبون ويدعون إلى الشعور بالقومية الذي سمي بعد بالاستقلال ؛ فإن قلنا إنها كانت أول شرارة في الشرق لإلهاب الشعور بالكراهية للحكم الأجنبي لم تبعد ، فقد كتبت في الجامعة الإسلامية والرابطة الشرقية والمسالة المصرية والسودانية والهندية ، وعالجتها كلها في حماسة وتهييج بالغين ، ونظرت إلى كل ذلك في ضوء السياسة الدولية العامة ، والتفتت إلى الشعوب تحركها وتثير شعورها ، وإلى الحكومات المختلفة تبين لها أضرارها من احتلال الشرق ؛ وهكذا وهكذا.

لم تتأثر بالدعوة وقتذاك الشعوب ولا الحكومات الأجنبية ولا المحلية ، وإنما تأثرت بها طبقة قليلة من المستنيرين في الأقطار الشرقية المختلفة تأثرا كان نواة المحركات الوطنية بعد ، ولست أزعم أنها كانت النواة الوحيدة ، ولكن كانت النواة الأولى.

على كل حال عطلت الجريدة وانفرط عقد القائمين بأمرها فالشيخ محمد عبده وميرزا باقر يعودان  إلى بيروت ، والسيد جمال الدين إلي فارس بناء على دعوة من الشاه ناصر الدين . للقاء الشاه والعلماء والأمراء في حفاوة ، ولكن سرعان ما ديث الغيرة إلى نفس الشاه وأحس خطره فتنكر له ، فاستأذن السيد في الرحيل ورحل إلي سان بطرسبرج عاصمة روسيا ، واقام نحو ثلاث سنين من سنة ١٨٨٦ - سنة ١٨٨٩

لماذا انجه إلي روسيا وماذا يحصل في هذه الدة ؟ إن معلوماتنا عنه في هذه الفترة قليلة ، واكبر الظن أنه شغل فيها بشيئين : ١ - حال المسلمين الروسيين وعددهم نحو ثلاثين مليونا وكانوا يعاملون في عهد القياصرة معاملة ظالمة جائرة ، فلعله حاول باتصاله برجال الحكم إذ ذاك ان يلطف من ظلمهم ويخف من جورهم . وقد عرف عنه انه سعى عند القيصر في طبع الصحف وبعض الكتب الدينية لمسلمي الروس فأذن له في ذلك . ٢ - ما كان لروسيا من أثر كبير في سياسة الشرق ومناهضها للسياسة الإنجليزية في آسيا ، وضغطها الشديد على الدولة العثمانية ، والعمل على إنسانها ، وتقطيع اوصالها ؛ ومع هذا التنافس والمخاصمة على الشرق بين إنجلترا وروسيا فإن كثيرا من السياسين يرون أن هذه النافسة أفادت إنجلترا

وفرنسا وإبطاليا أكثر مما أفادت روسيا . فلولا ضغط الروس على الدولة العثمانية ما سهل على فرنسا الاستيلاء على الجزائر وتونس ، ولا على إيطاليا الاستيلاء علي طرابلس ، ولا على انجلترا الاستيلاء علي مصر.

على كل حال انغمس" السيد " أثناء إقامته في روسيا في السياسة الدولية وحرض روسيا علي سياسة انجلنزا ، ونشرفي الجرائد الروسية مقالات في السياسة الأفغانية ، والفارسية ، والعثمانية ، والروسية ، ونقد السياسة الإنجليزية ، وقابل القيصر فسأله عن آرائه في الشرق ، ثم سأله عن سبب خلافه مع الشاه فقال إنه الحكومة الشورية ، ادعو إليها ولايراها .

قال القيصر : الحق مع الشاه ؛ فكيف يرضي ملك أن يتحكم فيه فلاحو مملكته . قال السيد : اعتقد يا جلالة القبصر انه خير الملك ان تكون ملايين رعينه اصدقاءه ، من ان يكونوا أعداءه يترقبون له الفرص . فلم يعجب القيصر هذا الحديث ، وقام : علامة الإذن له بالإنصراف.

ثم سافر إلي أوروبا علي نية أن يزور معرض باريس سنة ١٨٨٩ ، وفي أثناء سفره من روسيا إلي باريس نزل بمونيخ في المانيا ، وتقابل مع شاه الفرس ناصر الدين فعرض عليه العودة معه إلي فارس ، واعتذر إليه عما كان ، ووعده ان يمهد له طرق الإصلاح الذي يقترحه ، فرفض السيد أولا وقبل أخيرا .

ها هو" السيد " في طهران ، يلتف حوله جمهور من العلماء والعظماء ، ويتاور فيه ما في نفوس الخيرين من ميل إلي الإصلاح ، فيسمي هو ومن التف حوله إلي وضع المشروعات في إصلاح الإدارة ، وإقامة العدل ، وتقنين القوانين ؛ وفوق ذلك تنظيم الحكم النيابي للبلاد . والحركة تشتد وتمتد ، والشاه يظهر الاستعداد لقبول هذه المطالب ، والنفوس العاملة تفرح لقرب النصر ، والامل في الخير ، ولكن سرعان ما اكفهر الجو وأنذر بالصواعق ؛ فقد وسوس الصدر الأعظم للشاه ان الحكم النيابي يسلبه سلطانه ، والنظام الإداري والقانوني القترح أعلي من مستوى

الناس ، ومحو ذلك من مقالات السوء التي سمعنا مثلها في مصر ايام إقامة "السيد " فيها ، وفي تركيا ايام مدحت . وفي كل مكان وزمان يدور فيهما النزاع بين دعاة الإصلاح ودعاة الرجعية.

فنجهم الشاه له وأحس " السيد " الخطر منه فخرج إلي مقام ( عبد العظيم )احد احفاد الائمه - على بعد نحو عشرين كيلو من طهران - والفرس يعدون مقامه حرما من دخله كان آمنا. اتخذه (السيد) مركزا لدعايته وخطبه وتهييج الراي العام لطلب الإصلاح ، وبعض العلماء والوزراء والضباط يحجون إليه ليسمعوا خطبه ، ويصمتوا إلي آرائه ، ويعودون وقد شحنوا قوة كهربائية بقدر تحملهم للشحنة وكلهم ثائر هائح بريد الإسلاح . وأقام على ذلك أشهراً والبلاد يزداد غليانها ، ومركز الشاه والحاشية يزداد خطرأ ، والمنشورات تذاع ، والكتب الغفل من الإمضاء تصل إلي الشاه بالعدل أو العزل ، وبالحكم النيابي أو تولية غيره

فما راع ، السيد " إلا خمسمائة جندي مسلحون بهجمون عليه غير حافلين بمحرم الشيخ عبد العظيم ولا يمرض السيد مرضا شديدا وكما يصف هو : سحبوني علي التاج إلي دار الحكومة بهوان وصغار وفضيحة لا يمكن ان يتصور دونها في الشناعة . . ثم حملني زبانية الشاه _وأنا مريض - على يرذون ، مسلسلا ، في فصل الشتاء وتراكم التلوج والرياح الزمهريرية ، وساقني جحفلة من الفرسان إلي خانقين ( ومنها سافر إلي البصرة ) يعاني ألم المرض الذي اشتد عليه من هذا الحادث وكاد يودي به لولا لطف الله

فلو رأيته ثم لرأيت رجلا أكات منه حمى الحمية حمي المرض ، وقد تجمع دمه في راسه يجتقن ، وفي وجهه بلهب ، وفي عينه تقذف بالشرر ، كيف يهان هذا الهوان وهو الرفيع النسب ، العزيز الحسب ، الرفيع الجاء ، العالي المنزلة في دينه وشرفه وعقله ، ورغبته في الخير ، كيف

برجوء الشاه ان يأتي بلده وبعده ان ينفذ إصلاحه ، ويعلي علمه ، ثم يعامله معاملة العبد يطرد ، والذليل يصفع ، والحقير يهان .

لقد آلي أن ينتقم منه شر انتقام ، وإلا تهدأ نفسه حتى ينزله عن عرشه ، وقد ير فيها اقسم . فأحد يكتب إلي علماء الدين المسموعي الكلمة سيهجهم على الشاه ، ولا يتورع ان يصفه بأقبح الصفات ، ويبين ضرره على الامة ، ويثير عاطفتهم الدينية ، ليشقبوا عليه حتى يخلع . وكان الشاه قد تعاقد مع شركة إنجليزية على احتكارها " التنباك " فانتهز الفرصة وأبان الضرر على الأمة من هذا الاحتكار ، وأهاب برجال الدين ان يذودوا عن وطنهم ، فاستمعوا إليه ، وهاجوا علي الشاه ، وهيجوا عليه ، حتى اضطر إلي فسخ العقد ، ودفع نصف مليون ليرة تعويضا للشركة ، فكانت هذه أول خطوات الانتقام .

ثم لما عادت إليه عافيته سافر إلي لوندرة ، وحاضر النبلاء والكبراء في مصائب الشاه على فارس ، وساهم في إخراج مجلة شهرية اسمها " ضياء الخاضين تصدر بالعربية والإنجليزية ، كان يكتب فيها مقالات بإمضاء " السيد الحسيني" بفضح فيها حكومة الشاه ، وسوء الإدارة ، وانتشار الرشوة ، وتعذيب الأهالي ، ويحرض فيها العلماء على عمل صغير ، وهو ان يصدروا فتوي بعدم التعاون مع الشاه ، فإذا هو طريد ، ويختار من الألفاظ والجمل في مدح العلماء وقوتهم اعتقها واقواها ، وفي ذم الحكومة والشاه أهجاها وأقساها.

وهذه زلة كبيرة من السيد جمال الدين دعاه إليها حدثه وحبه للانتقام ؛ إذ كيف اجاز لنفسه التشهير بحكومة شرقية إسلامية في بلاد اجنبية تتخذ من اقواله حجة للتدخل الذي طالما حاربه في " العروة الوثقي " وكيف استباح ان يفضح هذه العيوب ، ويغسل هذه الأثواب القذرة على مشهد من كل الناس .

لقد كان مدحت باشا في موقف كهذا انبل من السيد

وأكرم ، إذ نفاه " عبد الحميد " واخذه رجاله من دست الوزارة إلى السفينة ، لا مال ولأ ثياب ولا اهل ومع هذا فما وضع دجله في أوربا حتى اخذ بسعي في دفع الشرعن امته ، ويتكلم الكلام الكثير في فضل الاتراك على أوروبا ، ولا ينطق بكلمة في ذم عبد الحميد الذي عامله معاملة الشاه لجمال الدين . الحق أيها غلطة من غلطات " السيد " دعا إليها حدة مزاجه

لقد وجاء سفير فارس أن يكف عن الطعن في الشاه وعرض عليه المال الكثير ، فقال : لا ، حتى يلقي الشاه منيته . تجمع عند السلطان عبد الحميد من الأسباب ما حمله على ان يدعو " السيد " إلي الآستانة ، فهو يخشى ان ينضم إلي حزب تركيا الفتاة ، فيكون قوة كبري إلي قوتهم ، خصوصا وقد كان السيد اجتمع في باريس ببعض رجال هذه الجمعية ، وأطلعوه على خطتهم في إصلاح الدولة العثمانية فراقه مذهبهم ، وشجعهم على عملهم ، وسمي جمعيتهم " الجمعية الصالحة " وبلغ السلطان ذلك عنه ثم إن الشاء وسط السلطان في كما اذي جمال الدين عنه ، فرجاء السلطان عبد الحميد أن يزور الآستانة فأبي ، ثم سلط عليه حيله ومكايده ، ووعده ومناه ، واطمعه وامله حتى قبل ، وما إن وضع رجله حتى كان في قفص من ذهب أحكم بابه . لند وعده السلطان ان له حرية الخروج من الآستانة إذا شاء ، ولكن كان كل ذلك خدعة .

أمر السلطان عبد الحميد باستقباله استقبالا حسنا ، وأجري عليه ٧٥ ليرة شهريا ، وانزله بيتا طريفا في نيشان طاش ، بالتقرب من بلدز ، وجعل تحت امره عربة وخدما وحشما ، بعضهم للخدمة والتجسس ، واحاطه بكل انواع الرعاية المادية .

لقد خيل إليه انه بمعونة السلطان يستطيع ان يوسع دائرة اصلاحه ، فيضع خطته لجامعة إسلامية ، يؤلف بها بين فارس والأفغان وتركيا وولاياتها بنوع من الاتحاد أو الحلف ، ثم رسم منهج إصلاح الإدارة في الدولة العثمانية

وإصلاح التعليم ، وفاته ان جو الآستانة في عهد عبد الحميد لا يصلح أن تنمو فيه بذرة صالحة ، وكان له في مدحت واشباهه العظة البالغة ، واندزار الآستانة الشيخ محمد عبده بعد وفاة السيد وفي عهد عبد الحميد ، فقال فيها : " إنه لم ير بيئة في العالم ولم يكن يعقل وجود بيئة كالأستانة في سوء تأثيرها في العقل والفكر والقلب ، وإن ذهنه فيها كان ممسوحا كانه لم يكن فيه شئ من العلوم والآراء ، ولهذا كان احرار الترك معذورين في شرودهمها ، وتوطين انفسهم على كل ما يمكن ان يلقاه الإنسان من ضروب البلاء والمحن "

قابله السلطان في يلدز ، فرأى منه شخصية غريبة جريئة في القول والحركة جراة ثم يشهدها من احد قبل يطلب منه السلطان ان يترك مهاجمة الشاه فيقول " السيد ": إني لأجلك قد عفوت عنه ، فيرتاع السلطان لمثل هذا القول - والسيد في حضرته يلعب بحبات السبحة ، فإذا لفت نظره رئيس المابين إلى ذلك بعد خروجه قال له : " إن السلطان بلعب بمستقبل الملايين من الأمة ، افلا يحن لجمال الدين ان يلعب بسبحته كما يشاء " فيفزع رئيس المابين ويهرب من سماعه هذه الكلمة خشية ان يكون قد سمعها احد .

لقد تحدث إلي السلطان كذلك في الحكم الشوري للدولة العثمانية ، يخدعه السلطان بتظاهره يحسن الاستعداد له ، وفرح السيد بهذا التظاهر ، واتفق معه على العمل لتكوين الجامعة الإسلامية ، وعرض عليه السلطان منصب شيخ الإسلام - فأبي إلا إذا عدل النظام من أساسه أولا ، وكرر مقابلته للسلطان والحديث إليه ، وكون أخيرا فكرة عن السلطان عبد الحميد بأنه ذكى واسع الاطلاع على السياسة الأوربية وألاعيبها ، واسع الحيلة في العمل على ضرب بعض الدول ببعض ، ولكنه جبان يفسد عليه جبنه ذكاءه ومعرفته .

كانت المدة الأولى من إقامته في الآستانة محفوفة

يعطف السلطان عليه ولو ظاهرا - يزوره السيد ويشير عليه بالإصلاح قال له مرة : " خذ يحزم جدك السلطان " محمود" وأقص الخائنين من خاصتك الذين يكتمون منك حقائق ما يجري في الولايات ، وخفف الحجاب عنك ، واظهر للملأ ظهورا يقطع من الخائنين الظهور ، واعتقد ان نعم الحارس الآجل " فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون "

ولكن ذهب كل ذلك مع الريح ، ووجد له في الآستانة خصم لدود ، هو ابو الهدي الصيادي الذي اتفن من الحيل والدهاء ، والدسائس والمؤامرات والغلية على عقل السلطان ما لا ينفع معه إخلاص جمال الدين وصراحته ونصحه ، ففسدت حياة السيد ، وفسد ما بينه وبين السلطان ، وضاع كل امل له في التعاون معه على الإصلاح، واصبح يقول في مجالس خاصته : " إن هذ السلطان سل في رثة الدولة ؟ واقتصرت قيمة السيد مدة إقامته في الآستانة - وهي أربع سنين وأشهر - على ما كان يلقيه على زواره وسماره من أحاديث وآراء ، إلي دسيسة بين حين وآخر تحاك حوله ، ويصرف الزمن في نقضها.

وكل تراثنا منه في هذه الفترة بعض من احاديثه اللطيفة وارائه الطريفة  (١)، وتحريكه عقول سامعيه إلي التفكير الحر في الإصلاح وفي الشؤون الإجتماعية .

في هذه الفترة كانت تظهر من أحاديثه آثار الأسف والحزن ، إذ يستعرض ماضيه فيري ما كان منه من جهاد طويل في تحريك الشعوب الإسلامية ثم لم ينبض لها عرق ، وفي رجال عقد عليهم الأمل ثم غدروا ، وفي شاء خان ، وفي جريدة عطلت ، وفي سلطان لا أمل فيه ، وفي بيئة خانقة ماذا في يده بعد حياة طويلة قضاها في الكفاح وفي النفي ، وفي الحبس ، وفي الطرد ، وفي التفكير والتحرير ، وفي

إيقاظ العقول النائمة والنفوس الحائرة ؟ لا شئ إلا انه أسد في حديقة الحيوانات ، بنشد حرية نفسه فلا يجدها ، بعد أن كان ينشد حربة الأمم الإسلامية كلها ويأمل أن يجدها .

بزوره شكيب أرسلان ، ويبور الحديث حول ما روي من ان العرب عبروا  المحبط الاطلانطيقي قديما ، وكشفوا أمريكا ، فيقول السيد : " إن المسلمين اصبحوا كلما قال لهم الإنسان كونوا بني آدم أجابوه إن آباءنا كانوا كذا وكذا ، وعاشوا في خيال ما فعل أباؤهم ، غير مفكرين بأن ما كان عليه آباؤهم من الرفعة لا ينفي ما هم عليه من الخمول والضمة .

إن الشرقيين كلما أرادوا الاعتذار عما هم فيه من الخمول الحاضر قالوا : أفلا ترون كيف كان آباؤنا ؟ نعم قد كان آباؤكم رجالا ، ولكنكم انتم أولاء كما انتم ، فلا يليق بكم أن تتذكروا مفاخر ابائكم إلا أن تفعلوا فعلهم " ،" إن المسلمين قد سقطت هممهم ، ونامت عزائمهم ، ومات خواطرهم ، وقام شئ واحد فيهم هي شهوانهم " ؛ ( هذا محمود سامي البارودي عاهدني ثم نكت معي وهو أفضل من عرفت من المسلمين ) .

ولكن أحيانا تنقشع عنه سحابة اليأس ، ويعود إلي املة في الشرق والسلمين ، ويعود إلى ذكر الداء والدواء ، والأمل في العلاج ، ككل النفوس البشرية ، نتردد بين الحزن والسرور واليأس والأمل ، و كالطبيعة تترد بين الصحو والغيم والإرعاد والإبراق ثم الإشراق

فها هو في رفقة من صحبه يحللون أدواء الشرق ويستوصفونه العلاج ، فيقول : إن الدواء هو ما يسير عليه الغربيون من العزة والجري علي قول الشاعر العربي . " عش عزيزا أو مت وانت كريم " فإذا كان هذا بعيد المنال ، فلابد من تربية جبل جديد تربية دينية صحيحة ، يتولى امرها اناس يأخذون على انفسهم عهدا الا يقرعوا بابا لسلطان ، ولا يضعضعهم الحدثان ، ولا يثني

عزمهم الوعيد ، ولا بغرهم الوعد بالنصب ، ولا تلهيهم التجارة ولا الكسب ، بل يرون في المتاعب ، وتحمل الكاره لتجاة الوطن من الاستعباد غاية المغم وفي عكسه المغرم .

قيل له : وهل هذا في الإمكان . قال : " إن الأزمة تلد الهمة ، ولا يتسع الأمر إلا إذا ضاق ، ولا يظهر فضل الفجر إلا بعد الظلام الحالك- وعلى ما أرى قد اوشك فجر الشرق ان ينبثق فقد ادلهمت فيه طلبات الخطوب وليس بعد هذا الضيق إلا الفرج ، سنة الله في خلقه" .

ثم استطرد في هذا المجلس إلي بيان الخطر مما تستعمله بعض الأمم الأجنبية في الشرق من إضعاف اللغة القومية ، وقتل التعليم القومى ، والتنفير من آداب الأمم الشرقية لتحل محلها لغتها وآدابها مع أنه لا جامعة لقوم لا لسان لهم ولا لسان لقوم لا آداب لهم ، ولا عز لقوم لا تاريخ لهم ، ولا تاريخ لهم إذا لم يقم منهم من يحيي آثار رجال تاريخها فتعمل عملهم وتنسج على منوالهم" وكانت محاضرانه في مجالسه تدور حول موضوعات عامة تخلقها المناسبة . كلها تري إلي الإصلاح في العقيدة وفي الاجتماع وفي اللغة (١) .وبين حين وآخر تثار حفيفة السلطان عليه بما بديره أبو الهدى الصيادي وصحبه فيزور الآستانة - مثلا - الخديوي عباس ويريد مقابلة جمال الدين . ولا يكون هذا إلا بإذن ، فيرفض السلطان ويأمر جمال الدين ألا يقابله فقال لرسول الخديوي :" إني كضيف للسلطان اسير لمضيفي في منزله ولكني أذهب كل يوم إلي "الكافدخانه" الثغره فإن شاء أن يحضر الخدوي إلي هناك فليفعل . فذهب الخديوي وقابلة على انفراد فأطري الخديوي السيد وأبدي له إيجابه به وحياه تحية لطيفة ، وهذا كل ما كان فأطار الجواسيس إشاعات في الجو ، وملأوا التقارير بأن

جمال الدين قد تعاقد مع الخديوي عباس على تأسيس دولة " عباسية " ووضعوا بيتين نسبوهما إلي جمال الدين هما :

شاد الخلافة في بني عباس                عباس لكن تمته السفاح

ولأنت خير مملك ستشيدها                فالبشر يا عباس يا صفاح

وقامت الدنيا وقعدت ، واستدعي السلطان جمال الدين وسأله فقال إن الأمر بسيط فقد كتبت التقارير إنا كنا وحدنا وليس معنا ثالث ، فمن سمع هذا القول ؛ وهل إذا كان هذا الخير صحيحا اقوله أنا أو يقوله عباس ؛ ثم اقسم ان شيئا من ذلك لم يحدث وانه في حياته لم ينظم شعرا وانتهي الأمر ، ولو في الظاهر - بعد حلية طويلة وضحة مغتملة

وحدث ان الشاه ناصر الدين - الذي كان بينه وبين السيد الخصومة التي عرفنا - قد قتل وكان القاتل احد تلاميذ جمال الدين ، وممن كانوا يزورونه في الآستانة ، وروي انه عند ما أطلق طلقته قال : " خدها من يد جمال الدين " ، وروي عن جمال الدين أنه لما بلغه ذلك قال كلمات تدل على الإعجاب بالقاتل فذلك كله ارعب السلطان عبد الحميد وخاف منه على حياته ، فضيق عليه في مقابلانه ومنع زيارته إلا بإذن فغضب جمال الدين وعزم على الرحيل من الاستانة ووعد بإعطائه التصريح بذلك من المفوضية الإنجليزية ، ولكن السلطان خاف منه في الخارج كما خافه في الداخل ، وهو تحت سمعه وبصره اهون ، فاسترضاه ورجاه في البقاء واستعان باثارة إنائه العار من الالتجا، إلي دولة اجنبية فعدل ، ثم حلت المشكلة نفسها بمرضه بالسرطان في فمه ثم وفانه ، وشاعت الإشاعات المختلفة حول موته من إهمال مقصود في معالجته والاتفاق مع طبيب السلطان للتخلص منه .

وأما ما كان فقد مات وشيعت جنازته كأقل الناس - ثم يسرفيها إلا افراد معدودون غلبتهم الجرأةوالوفاء ، ودفن كما يدفن عامة الناس ، ومنعت الجرائد في الولاية العثمانية من تأبينه .

لقد فسدت الآستانة سنة ١٩٣٨ بعد وفانه بإحدي وثلاثين سنة فرأيت واجباً أن أزور قبر هذا الرجل العظيم

واستعيد عنده ذكري عظمته وسلسلة اعماله ، فسألت عنه الكثير فلم يعرفه ، ورايت رجلا افغانيا بعمل خازنا لمكتبة الشهيد علي ، فوصف مكانه لي فذهبت مع صديقي العبادي مصر يوم الأحد ٨ بوليه إلي " ماجقه " أو " متشكة " فوجدت في ربوة علي مدخل البوسفور مقيرة قد انتثرت فيها المدافن ، ودلنا شيخ المقبرة على مدفن السيد ، فعلمنا ان قبره كان قد تشتت ولم يمن به احد ، وكادت تضيع معالمه ولم يفكر فيه احد من أهل الشرق الذي افني فيهم حياته ، إنما ذكره مستشرق  أمريكى حضر إلي الآستانة سنة ١٩٢٦ وذهب عن قبره حتى وجده . فبني عليه تركيبة جميلة من الرخام ، واحاطها بسور من حديد ، وكتب على احد وجوه التركيبة اسم السيد وتاريخ ولادته ووفاته ، وفي وجه آخر كتابة تركية ترجمت لنا كما يأتي : " أنشأ هذا المزار الصديق الحميم للمسلمين في انحاء العالم الخير الامريكاني المستر شارلس كرين سنة ١٩٢٦ " .

وقفنا على غيره وقلنا - هنا رقد محيي النفوس ومحرر العقول ، ومحرك القلوب ، وباعث الشعوب ، ومزلزل العروش ، ومن كانت السلاطين تغار من عظمته ، وتخشى من لسانه وسطوته ، والدول ذات الجنود والبنود تخاف من حركته ، والممالك الواسعة الحرية تضيق نفسا بحربته .

هنا حمد من كان يشعل النار حيث كان ، في الافغان ، في مصر ، في فارس في باريس في لندرة في الآستانة .

هنا باذر بذور الثورة العرابية ، ومؤجج النفوس للثورة الفارسية ، ومحرك العالم الإسلامي كله لمناهضة الحكومات الأجنبية ، والمطالبة بالإصلاحات الاجتماعية . هنا من حارب اسماعيل ونوفيقا في مصر ، وناصر الدين في فارس ، وإنجلترا في باريس ، وحارب الجهل والامية والذلة في الشرق ، والجاسوسية والنفاق في الآستانة ، ولم ينتصر عليه شئ إلا الموت .

لقد أجللناه وأعظمناه ، والتهبت نفوسنا لذكراه ، فكيف كان محضره ومرآه ، رحمه الله .

اشترك في نشرتنا البريدية