الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 418الرجوع إلى "الثقافة"

زهد أبى العتاهية, اتجاهاته ومصادره

Share

يسوم أبو العتاهية نفسه ورعا تصدقه فينهاها النقص عن ذاك الورع ويقصد إلى خصال الخير فلا يزال يجد له من نفسه ضدا معاندا يثبطه عنها إذا ما نواها ويكره لقاء الحمام ولكنه يدرك أن لا بد لحى من لقاء الحمام ويعجب للدنيا فيها خلقها الله عليه فمادحها صادق وعائبها والمرء ما دام فيها لا ينفك من حاجة يطلبها  وكلنا يكثر الذمة لها وكل بحبها مفتون فما منا إلا معنى مبتلى بعطائها وسلبها وبعدها وقربها وبغضها وحبها فإن لم يعن المرء فيها بقناعة ضاقت عليه برحبها

وإذا فالقناعة بالكفاف هى الغنى والفقر عين الفقر فى جمع المال ومن لم يكن بالكفاف مقتنعا لم تكفه الأرض كلها ذهب فالحرص لوم ومثله الطمع وما اجتمع الحرص قط والورع وليس الحريص بزائد فى رزقه  فالله يقسمه له ويسببه وما طاب عيش حريص قط ولا فارقه تعس ولا نصب وإذا المرء لم يقنع بعيش تقنع بالمذلة والصغار وفى الصبر والقنوع غنى الدهر وحرص الحريص فقر مقيم وأنت أغنى العباد ما كان لك كن وما كان لك معاش يسير فأي شيء تبغى إذا كان لك ظل وقوت حل وثوب ستير

كل هذا يقرره أبو العتاهية فى قوة وبساطة وإقناع  ولكنه يقرر معه أن البغى والحرص والهوى فتن لم ينج منها عجم ولا عرب والناس ليسوا إلا للكثير المال ولمسلط ما دام فى سلطانه

يعظمون أخا الدنيا فإن وثبت

          عليه يوما بما لا يشتهى وثبوا

لا يجلبون لحى در لقحته

     حتى يكون لهم صفو الذى حلبوا

وإذا قل مال المرء قل صديقه وضاقت به عما يريد طريقه وقصر طرف العين عنه كلالة وأسرع فيما   لا يحب شقيقه وذم إليه خدنه طعم عوده وقد كان يستحليه حين يذوقه

المال إذا ليس شيئا يشتأ ويبغض لذاته وهو إذا جاء من حله كان قواما للعرض والوجه واللسان والفقر ذل عليه باب مفتاحه العجز والتوانى وليس سؤال الناس مكروها لذاته ولكن لما فيه من الذلة والصغار وبذل الوجوه إلى الرجال فإذا ابتليت ببذل وجهك سائلا فابذله للمتكرم المفضال فإن الشريف إذا حباك بوعده أعطاكه تماما بغير مطال وأبو العتاهية لم يستنكف أن يسأل أمثال هؤلاء أيام كان الرجال كراما فى النائبات تعطى أكفهم الجزيل ولا يضيع لديهم الذمام ولكن الحياة تأخرت به إلى زمن هلك الأرامل فيه والأيتام وتحامى سراته المكرمات حتى كأن المكرمات حرام وقنع العاقل فيه برغيف خبز يابس يأكله فى زاوية وكوز ماء بارد يشربه من صافية وغرفة ضيقة تخلو فيها نفسه أو مسجد بمعزل عن الورى يدرس فيه دفترا مستندا بسارية  معتبرا بمن مضى من القرون الخالية ومن الجائز أن يكون ذلك هو الزمن الذى غلت فيه الأسعار وشحت الحاجيات أيام الرشيد حتى اضطر أبو العتاهية أن يوجه إلى الخليفة فيه فصيحته المشهورة

من مبلغ عنى الإما      م نصائحا متواليه

إنى أرى الأسعار أسعار الرعية غالية

وأرى المكاسب نزرة   وأرى الضرورة فاشيه

وأرى غموم الدهر را     ئحة تمر وغاديه

وأرى المراضع فيه عن   أولادها متجافيه

وأري اليتامى والأرا       مل فى البيوت الخاليه

من بين راج لم يزل        يسمو إليك وراجيه

يا ابن الخلائف لا فقدت    ولا عدمت العافية

إن الأصول الطبيبا      ت لها فروع زاكيه

القيت أخبارا إليك من الرعية شافيه

فشاعرنا كما نرى مما سبق يبدو على سجيته فى موقفه من المال والجاه وفى وساطته بين الرعية والراعى وقد كان الناس يعرفون هذا فيه فيشكون إليه أحوالهم وخيبة آمالهم وتلك ظواهر يجب أن تفطن لها حين نبحث زهد أبى العتاهية فهو زهد ليس فيه شطحات ولكنه زهد قريب من واقع الحياة اليومية لا يمنع صاحبه أن يعيش وأن يجمع المال وأن يضمن به أحيانا وأن يحرص على المشاركة فيه متى أمكنت وربما سار أبو العتاهية فى مسلكه العملى مع هذا الحرص شوطا بعيدا روى صاحب الأغانى أن عامل الرشيد وافاه بمال عظيم من بقايا الخراج من ناحية الموصل فأمر الرشيد بصرف المال أجمع إلى بعض جواريه فاستعظم الناس ذلك وتحدثوا به قال راوى الخبر فرأيت أبا العتاهية وقد أخذه شبه الجنون فقلت له مالك ويحك فقال سبحان الله أيدفع هذا المال الجليل إلى امرأة ولا يتعلق كفى بشيء منه ثم دخل إلى الرشيد بعد أيام فأنشده:

الله هون عندك الدنيا وبغضها إليكا

فأبيت إلا أن تصغر   كل شي فى يديكا

ما هانت الدنيا على    أحد كما هانت عليكا

فأمر له الرشيد بعشرين ألف درهم وزاد عليها

الفضل بن الربيع من عنده خمسة آلاف وقد لفت هذا الحرص على المال معاصرى أبى العتاهية وعجبوا له يزهد الناس ولا يزهد وزادوا فاتخذوا من هذا الخلف بين القول والعمل مادة للتندر والتشنيع بل لاتهام الشاعر بالمراآة والزندقة ولكن أبا العتاهية لم يجد فى ذلك حرجا وقد

ظل يطلب العطايا ويقبلها حتى فى أواخر حياته وكان لا ينفك يتهم الناس بالبخل حتى ليقول

فاضرب بطرفك حيث شئـ   ت فلن ترى إلا بخيلا

فإذا راجعه فى ذلك مخارق وقال له أفرطت يا أبا إسحاق كان رده عليه فديتك فأكذبنى بجواد واحد هذا القرب من واقع الحياة والصدق فى تصوير النفس وحالتها بين الرغبة والزهد أو ثنائية موقفها إذا صح هذا التعبير ظاهرة لها جمالها وأهميتها فى تفكير أبى العتاهية وهى تكاد تكون مطردة فى بقية عناصر زهدياته وتعاليمه فهو يذم فساد الزمان وغدر الإخوان ولكنه ينكر عليك أن تطلب صاحبا لا عيب فيه فأى الناس ليس له عيوب والناس إلا القليل منهم قد أصبحوا ذئابا ولكنه ينصح لك أن تسامحهم وتفشى معروفك فيهم وتعاملهم برأى رقيق وتلقهم بوجه طليق وهو مع زهده فى الحياة يحب من الإخوان كل مؤات وفى بغض الطرف عن عثرات صاحبه ويرافقه فى كل خير يريده ويحفظه حيا وبعد مماته

وقد يكون من طبائع الأشياء أن يرحب الزاهد بالشيب ويتناسي ما كان له أيام الشباب من كبوات وصبوات ولكن أبا العتاهية يبكى على الشباب بدمع عينه ويأسف عليه إذ نعاه المشيب والرأس الخضيب ويتمنى أن لو عاد الشباب يوما ليخبره بما فعل المشيب ويذكر فى حسرة والتباع تلك الأيام الأولى التى كان فيها غض الإهاب ناضر الشباب

كبرنا أيها الأتراب حتى   كأنا لم نكن حينا شبابا

وكنا كالغصون إذا تثنت  من الريحان موقعة رطابا

فزعت إلى خضاب الشيب منى  وإن نصوله فضح الخضابا

مضى عنى الشباب بغير ودى  فعند الله أحتسب الشبابا

وما من غاية إلا المنايا   لمن خلقت شبيبته وشابا

وهكذا يبدو لنا أبو العتاهية إنسانا بما تستلزمه الإنسانية من مظاهر النقص والكمال ويروقنا منه صدقه مع نفسه ومع إنسانيته ويعجبنا منزعه الشعبى الذى اختاره فى تهذيب الناس وتذكيرهم والسمو بآدابهم وأخلاقهم العملية وهو فى هذا الأدب التعليمى أخلاق مسلم خالص يستمد منهجه وإلهامه من مصادر الإسلام وشعائره وسيرة صالحيه فيسبح بحمد من على العرش استوى الخفى الظاهر المقدر المدبر علام الغيوب جاعل الليل سكنا خير معبود وخير مسئول باسط الرزق لن يشاء من عباده من لا يكدى سائله ولا يخيب راجيه وشاعرنا الواعظ يحض على إقامة الصلاة لوقتها بطهورها ويقرر أن الزكاة قرينة الصلوات ويدعو إلى رعاية الجوار وخفض الجناح والرغبة بالنفس عن ردئ اللذات وإلى التزام الخير ومجانبة الشر ورحمة الخلق وعدم فرح المرء بما يظفر به

وصبره إذا نكب وتعاهده لإخوانه وأخذه من اليقين ما يجلو به الظنون وتمسكه بأهداب الفضل والحق ورضاه للناس ما يرضاه لنفسه وطلبه العز فى التقوى واعتصامه بخالقه من فتن الهوى وأن يكون ممن يتقى الفواحش سمعه كان به عن كل فاحشة وقرا وأن يكون سليم دواعى النفس لا باسطا يدا ولامانعا خيرا ولا قائلا هجرا وأن يجاهد هواه ويروض نفسه على التقى والزهد حتى يصح أن يقال فيه

لنعم فتى التقوى فتى ضامر الحشى

      خميص من الدنيا نقى المسالك

فتى ملك اللذات لا يعتبدنه

             وما كل ذى لب لهن بمالك

اشترك في نشرتنا البريدية