يسوم أبو العتاهية نفسه ورعا تصدقه فينهاها النقص عن ذاك الورع ويقصد إلى خصال الخير فلا يزال يجد له من نفسه ضدا معاندا يثبطه عنها إذا ما نواها ويكره لقاء الحمام ولكنه يدرك أن لا بد لحى من لقاء الحمام ويعجب للدنيا فيها خلقها الله عليه فمادحها صادق وعائبها والمرء ما دام فيها لا ينفك من حاجة يطلبها وكلنا يكثر الذمة لها وكل بحبها مفتون فما منا إلا معنى مبتلى بعطائها وسلبها وبعدها وقربها وبغضها وحبها فإن لم يعن المرء فيها بقناعة ضاقت عليه برحبها
وإذا فالقناعة بالكفاف هى الغنى والفقر عين الفقر فى جمع المال ومن لم يكن بالكفاف مقتنعا لم تكفه الأرض كلها ذهب فالحرص لوم ومثله الطمع وما اجتمع الحرص قط والورع وليس الحريص بزائد فى رزقه فالله يقسمه له ويسببه وما طاب عيش حريص قط ولا فارقه تعس ولا نصب وإذا المرء لم يقنع بعيش تقنع بالمذلة والصغار وفى الصبر والقنوع غنى الدهر وحرص الحريص فقر مقيم وأنت أغنى العباد ما كان لك كن وما كان لك معاش يسير فأي شيء تبغى إذا كان لك ظل وقوت حل وثوب ستير
كل هذا يقرره أبو العتاهية فى قوة وبساطة وإقناع ولكنه يقرر معه أن البغى والحرص والهوى فتن لم ينج منها عجم ولا عرب والناس ليسوا إلا للكثير المال ولمسلط ما دام فى سلطانه
يعظمون أخا الدنيا فإن وثبت
عليه يوما بما لا يشتهى وثبوا
لا يجلبون لحى در لقحته
حتى يكون لهم صفو الذى حلبوا
وإذا قل مال المرء قل صديقه وضاقت به عما يريد طريقه وقصر طرف العين عنه كلالة وأسرع فيما لا يحب شقيقه وذم إليه خدنه طعم عوده وقد كان يستحليه حين يذوقه
المال إذا ليس شيئا يشتأ ويبغض لذاته وهو إذا جاء من حله كان قواما للعرض والوجه واللسان والفقر ذل عليه باب مفتاحه العجز والتوانى وليس سؤال الناس مكروها لذاته ولكن لما فيه من الذلة والصغار وبذل الوجوه إلى الرجال فإذا ابتليت ببذل وجهك سائلا فابذله للمتكرم المفضال فإن الشريف إذا حباك بوعده أعطاكه تماما بغير مطال وأبو العتاهية لم يستنكف أن يسأل أمثال هؤلاء أيام كان الرجال كراما فى النائبات تعطى أكفهم الجزيل ولا يضيع لديهم الذمام ولكن الحياة تأخرت به إلى زمن هلك الأرامل فيه والأيتام وتحامى سراته المكرمات حتى كأن المكرمات حرام وقنع العاقل فيه برغيف خبز يابس يأكله فى زاوية وكوز ماء بارد يشربه من صافية وغرفة ضيقة تخلو فيها نفسه أو مسجد بمعزل عن الورى يدرس فيه دفترا مستندا بسارية معتبرا بمن مضى من القرون الخالية ومن الجائز أن يكون ذلك هو الزمن الذى غلت فيه الأسعار وشحت الحاجيات أيام الرشيد حتى اضطر أبو العتاهية أن يوجه إلى الخليفة فيه فصيحته المشهورة
من مبلغ عنى الإما م نصائحا متواليه
إنى أرى الأسعار أسعار الرعية غالية
وأرى المكاسب نزرة وأرى الضرورة فاشيه
وأرى غموم الدهر را ئحة تمر وغاديه
وأرى المراضع فيه عن أولادها متجافيه
وأري اليتامى والأرا مل فى البيوت الخاليه
من بين راج لم يزل يسمو إليك وراجيه
يا ابن الخلائف لا فقدت ولا عدمت العافية
إن الأصول الطبيبا ت لها فروع زاكيه
القيت أخبارا إليك من الرعية شافيه
فشاعرنا كما نرى مما سبق يبدو على سجيته فى موقفه من المال والجاه وفى وساطته بين الرعية والراعى وقد كان الناس يعرفون هذا فيه فيشكون إليه أحوالهم وخيبة آمالهم وتلك ظواهر يجب أن تفطن لها حين نبحث زهد أبى العتاهية فهو زهد ليس فيه شطحات ولكنه زهد قريب من واقع الحياة اليومية لا يمنع صاحبه أن يعيش وأن يجمع المال وأن يضمن به أحيانا وأن يحرص على المشاركة فيه متى أمكنت وربما سار أبو العتاهية فى مسلكه العملى مع هذا الحرص شوطا بعيدا روى صاحب الأغانى أن عامل الرشيد وافاه بمال عظيم من بقايا الخراج من ناحية الموصل فأمر الرشيد بصرف المال أجمع إلى بعض جواريه فاستعظم الناس ذلك وتحدثوا به قال راوى الخبر فرأيت أبا العتاهية وقد أخذه شبه الجنون فقلت له مالك ويحك فقال سبحان الله أيدفع هذا المال الجليل إلى امرأة ولا يتعلق كفى بشيء منه ثم دخل إلى الرشيد بعد أيام فأنشده:
الله هون عندك الدنيا وبغضها إليكا
فأبيت إلا أن تصغر كل شي فى يديكا
ما هانت الدنيا على أحد كما هانت عليكا
فأمر له الرشيد بعشرين ألف درهم وزاد عليها
الفضل بن الربيع من عنده خمسة آلاف وقد لفت هذا الحرص على المال معاصرى أبى العتاهية وعجبوا له يزهد الناس ولا يزهد وزادوا فاتخذوا من هذا الخلف بين القول والعمل مادة للتندر والتشنيع بل لاتهام الشاعر بالمراآة والزندقة ولكن أبا العتاهية لم يجد فى ذلك حرجا وقد
ظل يطلب العطايا ويقبلها حتى فى أواخر حياته وكان لا ينفك يتهم الناس بالبخل حتى ليقول
فاضرب بطرفك حيث شئـ ت فلن ترى إلا بخيلا
فإذا راجعه فى ذلك مخارق وقال له أفرطت يا أبا إسحاق كان رده عليه فديتك فأكذبنى بجواد واحد هذا القرب من واقع الحياة والصدق فى تصوير النفس وحالتها بين الرغبة والزهد أو ثنائية موقفها إذا صح هذا التعبير ظاهرة لها جمالها وأهميتها فى تفكير أبى العتاهية وهى تكاد تكون مطردة فى بقية عناصر زهدياته وتعاليمه فهو يذم فساد الزمان وغدر الإخوان ولكنه ينكر عليك أن تطلب صاحبا لا عيب فيه فأى الناس ليس له عيوب والناس إلا القليل منهم قد أصبحوا ذئابا ولكنه ينصح لك أن تسامحهم وتفشى معروفك فيهم وتعاملهم برأى رقيق وتلقهم بوجه طليق وهو مع زهده فى الحياة يحب من الإخوان كل مؤات وفى بغض الطرف عن عثرات صاحبه ويرافقه فى كل خير يريده ويحفظه حيا وبعد مماته
وقد يكون من طبائع الأشياء أن يرحب الزاهد بالشيب ويتناسي ما كان له أيام الشباب من كبوات وصبوات ولكن أبا العتاهية يبكى على الشباب بدمع عينه ويأسف عليه إذ نعاه المشيب والرأس الخضيب ويتمنى أن لو عاد الشباب يوما ليخبره بما فعل المشيب ويذكر فى حسرة والتباع تلك الأيام الأولى التى كان فيها غض الإهاب ناضر الشباب
كبرنا أيها الأتراب حتى كأنا لم نكن حينا شبابا
وكنا كالغصون إذا تثنت من الريحان موقعة رطابا
فزعت إلى خضاب الشيب منى وإن نصوله فضح الخضابا
مضى عنى الشباب بغير ودى فعند الله أحتسب الشبابا
وما من غاية إلا المنايا لمن خلقت شبيبته وشابا
وهكذا يبدو لنا أبو العتاهية إنسانا بما تستلزمه الإنسانية من مظاهر النقص والكمال ويروقنا منه صدقه مع نفسه ومع إنسانيته ويعجبنا منزعه الشعبى الذى اختاره فى تهذيب الناس وتذكيرهم والسمو بآدابهم وأخلاقهم العملية وهو فى هذا الأدب التعليمى أخلاق مسلم خالص يستمد منهجه وإلهامه من مصادر الإسلام وشعائره وسيرة صالحيه فيسبح بحمد من على العرش استوى الخفى الظاهر المقدر المدبر علام الغيوب جاعل الليل سكنا خير معبود وخير مسئول باسط الرزق لن يشاء من عباده من لا يكدى سائله ولا يخيب راجيه وشاعرنا الواعظ يحض على إقامة الصلاة لوقتها بطهورها ويقرر أن الزكاة قرينة الصلوات ويدعو إلى رعاية الجوار وخفض الجناح والرغبة بالنفس عن ردئ اللذات وإلى التزام الخير ومجانبة الشر ورحمة الخلق وعدم فرح المرء بما يظفر به
وصبره إذا نكب وتعاهده لإخوانه وأخذه من اليقين ما يجلو به الظنون وتمسكه بأهداب الفضل والحق ورضاه للناس ما يرضاه لنفسه وطلبه العز فى التقوى واعتصامه بخالقه من فتن الهوى وأن يكون ممن يتقى الفواحش سمعه كان به عن كل فاحشة وقرا وأن يكون سليم دواعى النفس لا باسطا يدا ولامانعا خيرا ولا قائلا هجرا وأن يجاهد هواه ويروض نفسه على التقى والزهد حتى يصح أن يقال فيه
لنعم فتى التقوى فتى ضامر الحشى
خميص من الدنيا نقى المسالك
فتى ملك اللذات لا يعتبدنه
وما كل ذى لب لهن بمالك
