وأي شيء ألذ من امتلاء المعدة بعد الصيام ؟ إن الإنسان يستطيع أن يدرك قيمة الطعام إلا إذا ذاق الحرمان والجوع يوما طويلا من أيام رمضان في هذا الصيف الذي يمتد يومه من بعيد منتصف الليل إلى قبيل منتصف الليل الذي يليه . فالحق أن الطعام يلوح للصائم بعد الجوع الطويل كأنه لذة اللذات ومقصد الحياة . ولقد أتعب الناس أنفسهم حينا من الزمان في البحث عن مقصد الحياة وحاول الشبعان منهم أن يوهم نفسه بأن للحياة قصدا غير الاكل فألف الحكمة المعروفة وهي أن الإنسان إنما يأكل ليعيش ، ومعنى هذا أن الإنسان يأكل لأن الأكل وسيلة لحفظ الحياة حتى تتهيأ له الفرصة لبلوغ غايته من الحياة . ولكن ما هذه الغاية التى يأكل ليعيش من أجلها ؟ إنه لم يستطع أن يبينها إلي الآن مع كل ما قام به الفلاسفة من فنون البحث وكل مازعمه المفكرون من غايات الإنسانية . فليس هناك إلا حقيقة واحدة مؤكدة يعرفها الجميع ولا يستطيع أحد إنكارها وهي أن الإنسان يعيش ويأكل ويتلذذ بالأكل إذا كان جائعا
والجوعان من بني الإنسان يري أن الحياة إنما هي الطعام وأن الإنسان إنما خلق لكي يعمل في سبيل الحصول على ما يأكل . ولو سألنا المحرومين من ملايين البشر عن قصد الحياة لما ترددوا جميعا في أن يقولوا في صراحة إن قصد الحياة هو ان يأكل الناس شأنهم في ذلك شأن كل المخلوقات وأما سائر مجهودات البشر في هذه الحياة فانما هي وسائل للحصول على الطعام ، وامثال الطعام مما هو ضروري لحفظ الحياة .
ومهما يكن من امر هذه الفلسفة وما فيها من اختلاف الآراء بين أهل الشبع وأهل الجوع فإني أزعم أنني بعد صيام اليوم الطويل يحلو لي ان أجلس لأتأمل هذه الحياة وما فيها .
وعند ذلك استلقي علي مقعد وأدخن سيجارة وأنظر إلي السماء لعلي أجد فيها جوابا لما يثور في نفسي من الأسئلة . وقد بدا لى وأنا أتأمل النجوم اللامعة أن للصيام حكمة لم يهتد الناس بعد إلي إدراكها . فان الإنسان إذا صام وعرف معني الحرمان من الطعام امكنه ان يدرك ما للطعام من خطورة في هذه الحياة ، واستطاع أن يعرف أنه هو المحرك الأول لكل الأمم وكل مجهودات البشر . فالأمة التي تنسي خطورة الطعام وتذهب في جهلها إلى ان الطعام امر ثانوي إنما تضل ضلالا بعيدا . والأمم الإسلامية التي تعرف الحرمان في أيام الصوم هي اجدر الامم بأن تعرف قيمة الطعام ، وتجعل أول همها ان توفر الطعام لكل أفرادها .
ومن البديهي ان المقصود بالطعام ليس مجرد الخبز والإدام ، بل هو كل يلزم لحفظ الحياة والترفيه فيها بالقدر الذي يجعلها جديرة ببني الانسان .
وأغلب ظني أن ساسة مصر وساسة البلاد الإسلامية يصومون رمضان ، وأغلب ظني كذلك أنهم يجلسون بعد الإفطار كما اجلس ليدخنوا سيجارة وينظروا إلى السماء ، ثم يذهبون في التأمل صامتين في طلب الهداية إلي جليل المعاني . فاذا كان الآمر كذلك فاني على يقين من انهم سوف يهتدون إلى معرفة قيمة الطعام وضرورته للناس ، وسوف يجعلون أول همهم في كفاحهم السياسي واول غاية لهم في برامجهم الحزبية ان يوفروا الطعام لكل من في البلاد من الملايين ، فان هذا سوف يبدو لهم بغير شك اجدر بعنايتهم من كل المسائل الأخرى التى يحسبونها خطأ هي المسائل الكبرى
جلست كما قدمت ادخن سيجارة وأتأمل نجوم السماء وأفكر في مصاير البشر فاذا بي اري في الجو خطوطا لامعة من الأشعة تتحرك رشيقة وتمتد في ظرف ثم تتحول في وداعة كأنها سهام من الضوء تتلاعب في ارجاء السماء حتى إذا اتي بعضها من الشرق وبعضها من الغرب وبعضها من قبل الشمال وبعضها من قبل الجنوب تلاقت عند نقطة
واحدة كأنها تتعانق في الملأ الأعلى . وإذا بي أري عند نقطة اجتماعها صورة متلألئة لطائرة رشيقة كأنها الفراشة البيضاء التي ترف فوق بساتين الربيع . هذه هي مناورات الأشعة الكاشفة يتمرن بها الجنود على اصطياد الطائرات وما أجملها من مناورات !
حقا أن الحرب قد وضعت أوزارها في الخافقين وحقا أن هذه الأشعة الكاشفة لم تغن في الحرب فتيلا ، وحقا أن إرسالها إلى أرجاء السماء يأخذ من الجهد والمال شيئا كثيرا يضيع هباء منثورا ، وحقا ان هذا الجهد وهذا المال كان يستطيع ان يصرف في سبيل توفير بعض الاكل لمن يحتاجون إليه . ولكنى في الحق لا احب ان تغيب عنى هذه الأشعة اللامعة في مثل هذه الليلة بعد الإفطار
إنه لمنظر رائق ! لو طلب إلي أن أدفع خمسة قروش أو عشرة في سبيل التمتع به لجادت نفسي بالقروش ولدفعتها إلى من يوفر لي منظرها وانا شاكر سعيد . وإني اقترح على وزارة الحرب المصرية ان تطلب من الناس ضريبة على مشاهدة هذا المنظر الرائع ، واغلب ظبي أن ذلك سيدر عليها مبلغا طائلا من المال يعوض على الخزانة ما يضيع منها في سبيل القيام بهذا العرض البديع ، لان اهل الشبع سوف يدفعون الضريبة فى ارتياح حتى لا تضيع عليهم فرصة مشاهدة هذه الأضواء الرشيقة التي تتلاعب في السماء . وهذا المال يمكن ان يعود على أهل الجوع فيوفر لهم بعض الطعام .
على أنني رجعت إلي نفسي فسألتها عن مآل هذه الأضواء الكاشفة وعن قيمة هذه الطائرات التي تشبه فراشات الربيع ، ثم استطردت فسألتها عن قيمة هذه الجيوش الجرارة التي تدب على الأرض او تسبح في الماء او تغوص في أعماقه بعد كشف القنبلة الذرية . فهل تطمع دولة من الدول بعد اليوم في ان تقف للدفاع أو الهجوم في ميدان من ميادين القتال ؟ ولكني مع ذلك اقنعت نفسي بعد جهد بأن هذه الجيوش سوف تبقى مع عدم الحاجة إليها ومع أنها قد أصبحت بعد اليوم لا تغني عن الأمم
شيئا . فالجيوش لا تخلو من أن تكون رموزا للماضى وهي في أوقات السلام تؤلف المواكب الرائعة التي تسير في الطرق وفي طليعتها الموسيقات والطبول وفي مقدمتها المشاة والخيول . وملابس الجنود لامعة براقة وملابس الضباط جميلة خلابة ، والجيوش في بلاد مثل بلادنا تؤدي وظيفة اجتماعية هامة ، فان وظائف الضباط تفسح المجال أمام طائفة من شبابنا الاعزاء ، فإذا ما قضوا في الكلية الحربية عامين أو ثلاثة وعرفوا كيف يحسنون لبس الثياب الرسمية وحمل السلاح والقيام بالحركات المنظمة وجدوا أمامهم سبيل الحياة مفتوحا ودرجات الرقي متاحة لا تكلف عناء ، وأما الجنود فانهم يداوون من الأمراض ويجدون الطعام والشراب والملبس ويتعودون طيب العادات في الحياة . فالجيوش وإن صارت بعد القنبلة الذرية لا فائدة لها لا تزال مقيدة لأغراض أخرى . ولست أدري ماذا تصنع الأمم الأخرى بعد اليوم في جيوشها هل تحتفظ بها أم تستغني عنها ؟ وأغلب الظن أنها سوف تحتفظ بها كذلك مع علمها بأنها قد أصبحت لا تجديها نفعا لأن الإنسان من طبعه المحافظة على مألوفه وإن تغيرت الظروف وأصبحت لا تستلزم بقاء ذلك المألوف . ولنضرب لذلك مثلا مما حدث في الماضي فقد كان المألوف في العصور الوسطى أن تقيم المدن حولها حصونا قوية وأسوار منيعة لكى ترد عن نفسها عادية المتوحشين أو تحمي نفسها من هجمات الأعداء من جيرانها ، ثم اخترع البارود وأصبح في الإمكان أن تنسف هذه الأسوار حتى تدك قواعدها وصارت القلاع والحصون لا تستطيع رد الأعداء عن مدنها ، ومع ذلك فقد بقيت الحصون والقلاع إلي أوائل القرن العشرين ، مع أنها كانت لا تستطيع الثبات أمام المدافع القوية إلا قليلا .
فأغلب الظن أن الجيوش سوف تبقى في كل الامم مع ان القنبلة الذرية قد أصبحت حقيقة واقعة ، وهي كما يعرف الجميع لا تقف في سبيلها الجيوش ولا تقوي على مقاومتها
الأساطيل ، لأنها تقتلع المدن بجملتها ولا تدع فيها صريخا ابن يومين . ولا بأس على مصر ان تحتفظ بجيشها واشعتها الكاشفة شأنها في ذلك شأن سائر الدول . ولا حيلة في الطبع الإنساني الذي يحمل الناس قسرا على التمسك بالمألوف . ولقد سنح لي خاطر وانا انظر إلى النجوم اللامعة فسألت نفسي عن مصير الدول بعد اليوم وسألتها : هل المستقبل خير من هذا الحاضر أم أن الليالي حبالي بالعجائب والمفاجآت ؟ فوجدت الجو يظلم حولي وشعرت كأن نور النجوم يتضاءل في عيني . ومن ذا الذي يستطيع أن يتكهن بالغيب وعلمه لا يزال مغيبا عن البشر ؟ فإن الأمم صاحبة القنابل الذرية سوف ترفع اصبعها محذرة من يحاول الخروج عن الطريق الذي تراه الطريق السوي ، فإذا وجدت من الدول من لا يطيع أمرها أرسلت نذيرها قنبلة واحدة صغيرة تعيد العقول إلي أغمادها .
ولو أراد الله بالبشر خيرا لأتاح للأمم صاحبة القنابل الذرية طائفة من الفلاسفة يحكمونها حتى يصدروا في اعمالهم عن العدل والحكمة ، وحتى يحسنوا استعمال ما وهب الله لهم من قوة الذرة في سبيل مصلحة الإنسانية .
ولكن مهما يكن من الأمر فان هذه الجيوش التي تراها اليوم سوف لا يكون لها قيمة في الحروب ، ومن المصلحة أن تنظر الدول منذ الآن في تدبير أمرها . وليس من المعقول ان تبقى الأمم على جيوشها وتنفق عليها الملايين من خزائن أموالها على أنها لا تجديها شيئا ولا تدفع عنها يوم الفزع شرا . وأغلب الظن انها سوف تعيد النظر في أمرها بعد حين رغم طبع المحافظة ، فإنها إذا هي ابقت على جيوشها وجدت بعد قليل انها نوع من الإسراف ، فالمال الذي يصرف عليها احق بأن يصرف في توفير القوت للمحرومين من البشر وهم يعدون بمئات الملايين في هذا العالم المسكين . ولو أخذ الفلاسفة أزمة الأحكام في أيديهم في الدول
الكبرى وجعلت قوة الذرة في ايديهم وحدهم لكانوا في العالم بمثابة البطارقة الأول أيام كان الشيوخ يأمرون فلا يخرج عن أمرهم أحد من أفراد القبيلة .
ولكن ماذا يصير إليه امر الناس في انحاء الأرض ، هل يصبحون عبيدا لا يستطيعون المخالفة ؟
إن أغلب الظن أن الناس سوف يصبحون أحرارا إلى حد لم يحلموا به من قبل ، فقد كان الظغيان على حرية الأفراد لا يأتي إلا من قبل الطغاة في الأمم وهم الذين كانوا يكبلون الحرية بالقيود لكي يبنوا لأنفسهم مجدا زائفا ويدفعوا بالملايين من شعوبهم إلى الحروب لكي يصرفوهم عن مناهضة طغيانهم . فاذا أمكن للعالم أن يتخلص من الحروب ومن هؤلاء الطغاة كان من المتيسر له ان يطمئن في حياته وان يعرف معنى الحرية الصحيحة . ولو صح هذا لما كان للناس هم غير السعي في طلب الرزق وتوفير ما يلزم للانسان من ضروريات الحياة . عند ذلك تبلغ الإنسانية مرتبة السعادة لأنها تعود إلى الحقيقة الخالدة التي لا يستطيع أحد أن يجادل فيها وهي أن الانسان يعيش ليأكل أليس كذلك ؟
لا يؤاخذني القاريء الكريم إذا كان يخالفني في هذا الرأي ، فأنما هي سبحات صائم حمله الصيام على ان يبالغ في تقدير قيمة الطعام .
محمد فريد أبو حديد

