الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 445الرجوع إلى "الثقافة"

سعد االله الجابرى

Share

" دمشق هي التي حفظت الإسلام وصانت العروبة ، يخفق قلبها لكل ما هو عربي ، وتضطرب إذا لحق الأذي اخا عربيا ، أو أسئ إلي قطر من الأقطار العربية ، وفيها وجد الناطقون بالضاد على الدوام ملجأ لهم ، بل إن كل قضية عربية عامة تولد في دمشق ومن الشام تنتشر إلي سائر الأصقاع : ذلك ما يلهمه جوها ويدفع إليه مركزها التاريخي " .

بهذا الإيمان خاطب فقيد العروية سعد الله بك الحابري (رئيس حكومة الشام وعميد الوفد السوري ) زملاءه واركان الحكومات وهم على مائدة " مشاورات الوحدة العربية " في الإسكندرية عام ١٩٤٣

ولعلنا لا نبعد كثيرا عن الواقع إذا عددنا هذه المزية من العوامل الفعالة في إخفاق المستعمرين الفرنسيين في القضاء علي الروح القومي المضطرم في ديار أمية ، مع ما عرفوا  من عناد وبطش ، ورغما عما بذلوه من مساع وأموال ذهبت كلها عبثا ، وصمدت الشام في كفاحها التحريري ، وعاون وطنيتها الظرف الدولي فأقصيت عنها فرنسة وجلا عنها آخر جندي فرنسي ، فقد الشب السوري بأمنته القومية .

وبديهي اننا إذا ذكرنا المكان قصدنا من فيه ، فالشام تعنى أهلها ، وهذه المزبة التي يخلعها عليها قد ركرزت في طبيعة رجالها وفيهم نخبة اخيار يعدون أعلام العروبة في هذا العصر ، وقدوة صالحة في الجهاد الوطني ، وسعد الله الجابري من هؤلاء الرجال .

لم يشهر سعد الله نبالة بيته الذي ولد فيه في حلب ولا ذاع صيته لسراوة اسرته ، ولكنه عرف بين لدانه من أول نشأته بالإباء وقوة الشكيمة ، وذاع عنه بين اقرانه في الدراسة بالآستاتة عاصمة الملك العثماني تعصبه لمرقه العربي

ودله بشاميته الشماء ؛ وما اسرع ما لف هذا الشعور القوي الشباب المميز بنفسه في حلقة عربية كانت اجتماعاتها سرية بادي الرأي ، لما أوحي إليها الفائد عزيز على باشا المصري بتعاليم الحرية العربية ، فضم هذه الفتية النجيبة في ( حزب المهد ) ثم طفقت تعلن مبادئها وتطالب بحقوق امنها في الحياة والمجد في ( المنتدي الأدنى ) هناك .

فلما آب الفتي إلي موطنه سار على هذا النهج ، وطفق يغالب الترك المتحكمين وينشد الاستقلال لبلاده مع إخوانه العاملين في الحقل القوي ، وهذا المذهب السياسي حبيبه إلي بني قومه ، فحل من أفئدتهم محلا رفيعا ، فلما تنادي السوريون لإبقاء من مثل البلاد في المؤتمر العام المنعقد في دمشق الذي يتكلم باسم سورية وبعض قواعد المملكة العربية الجديدة . كان سعد الله احد الذين اختارتهم حلب لتمثيلها . فدخل البرلمان العربي الأول ينقد حمية ويجتذب الأنظار . إذ هو أصغر الأعضاء سنا في هذه الندوة ، حتى إذا تغلب جبروت الاستعمار المسلح على إرادة الشعب الأعزل وهد بنيان عرشه المستحدث حنق الجابري على الغاصب حنقنا شديدا . وحفظ العهد والتزم سبيل الجهاد ،

ولم يرض أن ينحي إزاء المواصف العاتية ، فكان دعامة من دعائم الحركة الوطنية في الشبياء ، اتكل عليه الزعيم إبراهيم عنانو في بلاده ومكافحته للسياسة الفرنسية ، وعد ساعده الايمن . وبايعته الآمة بخلافته في مركز الزعامة ، بعد أن احتسبت عمادها راضيا مرضيا ، بل قد اختارت الكتلة الوطنية الجابري رئيسا لها تقديرا لمنزلته في ساحة النضال . حتى إذا تزحزح الفرنسيون عن موقفهم وسلموا بطلب البلد واستعدوا للمفاوضة في وضع قاعدة لصلاتهم بالسوريين في معاهدة ، كان سعد الله عضوا في الوفد الذي شخص إلى باريس عام ١٩٣٦ ثم عقد معاهدة ما لبث المستعمرون ان حنثوا بمعهدهم فيها وتراجعوا عنها ، فتجدد الكفاح الوطني وعاد المناضلون إلى قواعدهم أشد إيمانا

وأصفي إخلاصا ، وكما ان السجون والمعتقلات والمنافي لم تلن صلابتهم فلم توهن المناصب نفوسهم ولا امالهم إلي الراحة والهدوء .

واعقبت هذه الأحداث مركبا صعبا ركبه الفرنسيون اضطر معه زعماء الحركة الوطنية إلي أن يلجأوا إلي الأقطار العربية المجاورة يطلمون حكوماتها على حقيقة الحالة في موطنهم ويستنفرون شعوبها على المناصرة ، وكان الجابري من هؤلاء ، فقصد إلي الملكة العربية السعودية حيث لقي من العاهل الكبير حسن الوقادة ، وقضي في الرياض زمنا ثم عرج على بغداد مع صحبه المجاهدين جميل بك مردم ولطفي بك الحفار ، وفي العراق عرف هؤلاء الأقطاب كيف يحمي العرين ويصون السواد الوديعة القومية ، وقد بسطت لهم عاصمة فيصل ذراعيها ، وأكبر العاملون تاريخ كفاحهم وأحلوهم في موضع الصدارة من البيت القوي . فكانوا ارباب المنازل مختلطين بقادة الرأي وأقطاب السياسة ووزراء الدولة ، يشاركون في معالجة المسائل ويتداولون في الفضية العربية الكبرى ، ويستأنس بأفكارهم حتى في شئون العراق الخاصة ، وكانت الصفات المتممة لسعد الله الجابري عند من لم يخالطه من قبل ، هذه الصراحة في القول ،

والصلابة في العقيدة ، والذوق السليم في كل شئ ، سمته يعلق على حوار بين رئيس الوزارة الحاكم بأمرء - ونائب صحافي جريء فيما كتب في الجريدة عن الرئيس ، وجاء تعليقه على غير هوى رئيس الوزراء ، ولكنها صراحة الجابري وقوة نفسه في التمسك بالحق يجب أن تتجلي في كل موقف .

ويقتضينا التاريخ أن نسجل هنا أن سعد الله لم يساير إخوانه رجال العراق عند ما حدث الانقلاب العسكري السابع في ربيع ١٩٤١ ، بل كان يصارحهم بفكرته وما يراء في الحاضر والمستقبل ، لا يهمه استحسان القابضين على زمام الأمور لارائه أو إنكارهم لها ، إنما تمسك بمبدأ واحد

هو جوهير سجيته عندما بشتبك العربي والأجنبي في القتال فهو بجانب أخيه العربي مهما كانت الحال .

ثم دار الفلك دورته وتبدل الظرف السياسي في سورية وتولت الجماعة الوطنية العاملة مقاليد الحكم فبرزت مواهب هذا السياسي الفحل وزيرا او رئيسا لمجلس النواب أورئيسا للحكومة . وكما ذاع أمره في ميدان العمل الشعبي ودفع  طغيان المنتدبين بالشدة والجراة والمواقف الصلدة حتى نمت ( بأسد الشمال ) لم تضعف إرادته ولا ارتجف جنانه لاضطهاد أو سجن أو نفي قاساء إحدي عشرة مرة ، فقد انتشر في مجتمعه سلوكه المستقيم الصليب في مركز المسئولية وفي كرمي الرئاسة للبرلمان فهو رجل دولة في الاضطلاع  بأعباء الحكم ، حريص على تنفيذ القانون ، ساهر على العدل والنظام ، مؤمن بأن الممالك تشيد على العدل والنظام ومعرفة صحيحة بحاجات الشعب ليحيا حياة كريمة ، وهو في البرلمان منافح شديد المراس قوي الحجة قاطع البرهان ، ويذكر له مجلس الأمة موقفين مشهودين بضفيان على في تاريخه جلالا : يوم وأد فتنة أراد إيقاظها بعض من لا خلاق لهم باسم الدين ، وكسبه الثقة عند ما تضافر المعارضون وأغلبية المؤيدين في الحملة على وزارته لموقفها من الاتفاق البريطاني - الفرنسي ، فخرج من المعركة ظافرا مشرق الحبين

أما مساهمته في المعركة الفاصلة مع الفرنسيين لتحرير سورية في ابار (مايو) ١٩٤٥ وهو رئيس البرلمان ، وما ابرزه من قوة الجنان ، وسلاح الطاممين يقصف دار النواب وقنابب المستعمر تقذف ( فندق أوريان بالأس ) حيث يقيم ، ونجاته بأعجوبة ، فما يتحدث . أهل الشام .

هذا هو المجاهد الذي قضى يوم ٢٠ حزيران ١٩٤٧ في بلده حلب غير متجاوز ٥٣ عاما صرف معظمها في منازلة العدوان الأجنبي والسعي لتحرير امته واستقلال بلاده ، فما نعاء الناعي إلي بني امه وإخوانه في

البلاد الشقيقة حتى أكبروا الخطب فيه وتدعوا شخصية لا يجود الزمان بنظائر لها إلا في النادر . وما أصدق قول فخامة شكري بك القوتلي رئيس الجمهورية السورية في تأبينه :

" لقد ألفتنا الدراسة وجمعتنا السياسة سبعا وثلاثين سنة ، فلم نلمس يوما فيك إلا الإخلاص المجرد والنضحية التي لا تطلب جزاء ولا شكرا . . وقد اقترن اسمك الطيب بكل قدر وبكل مأثرة من مآثر هذا المعهد الاستفلالي ، من وضع الأسس الأولى لصرح الاستقلال وإقامة أركان الجامعة العربية والمشاركة البارزة في استكمال سيادة الأمة بتحقيق الجلاء " .

ومما يؤثر من الفقيد أنه عاش زاهدا في الدنيا فلم يتزوج ، ومات فقيرا مع أنه ابن اسرة لها مكانتها في الوجاهة والثراء ، ولكنه ظل ندي اليد ينفق راتبه في إغانة الآخرين ويوزع رزقه على مرءوسيه الصغار ، ويجب ان تقارن ميتة هذا السياسي العربي عن غير تركة بالثروات الضخمة التى جمعها بعض الساسة العرب وأكثرهم ممن نشأوا في بيوت الخصاصة والفقر ، لنكبر هذه النفس المعروف عن الدنيا .

وقد ترك الجابري ( وصية ) وإذا تديرنا أنه لم يقض فجاءة ، بل عانى المرض اشهرا ، علمنا انه سطر هذه الوصية وهو يفكر في كل كلمة يخطها فيها ، علمنا ما يعني وهي نداء " يطلب فيه إلى الشعب السوري المحافظة على استقلال بلاده والتمسك بالنظام الجمهوري ، ورغبته في ان تدفن رفاته في المدينة المنورة " .

أما حضه بني قومه على ( التمسك بالنظام الجمهوري ) . فيذكرنا يخطابه في ( مشاورات الوحدة العربية ) في قصر أنطونيادس بالاسكندرية وفيه يقول : " في دمشق ولدت أول جمهورية عربية وترعرعت ،

ونود أن يحافظ على نظامها هذا ، لأنها تعتقد فيه الخير لها وللعرب لأنه عنصر سلام بين البلاد العربية ، وأريد ان كون اكثر صراحة فأقول : إن دمشق تحرص على الاحتفاظ بمكانتها التي استحقتها بطبيعتها وتاريخها وأنها لا ترضي عن نظامها الجمهوري بديلا " . ) لها بقية

اشترك في نشرتنا البريدية