الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 296الرجوع إلى "الثقافة"

سعد . . و " سعوده "

Share

كانت الوطنية في الجيل الماضي فكرة . وكان المعبر عنها سعد !

وكانت صفات الرجولة الحقة رسالة ، وكان القائم على تيليفها هو سعد أيضا ! وظل سعد ملء الأفواه والأسماع في كل من مصر وإنجلترا جيلا كاملا . له الأثر الأول في تكوين الروابط التي تربط الدولتين ، وله الكلمة العليا في كل ما ينشأ بينهما من صلات . . ثم أن لهذه الحركة أن تسكن ، وله الشعلة المتقدة أن تخبو . وقيل ذات يوم إن سعدا قد مات ! ولكن الناس نظروا حولهم ، فإذا " سعود " كثيرة قد تعاونت على رفع الراية وقيادة الجند . وبقى سعد حبا في أبنائه الذين خلفهم من بعده ، والذين

ترجو أن يزدادوا علي مر الأيام !

واليوم نذكر الساعة التي ذهب فيها هذا الراحل العظيم فتراء وقد أصبح أثبت قدما ، وألمع نجما ، وأعز نفرا ، مما كان قبل أن يذهب . فقد ( انتهى ) هو ولما يستكمل استقلال بلاده ، وذهب ولما يستقر دستور وطنه . ولكن الذي ذهب من سعد لم يكن إلا هذا الجسد الفاني ، أما الروح الخالد فهو الذي أتم كل ما بقي من رسالته .

ولن يستطيع الإنسان أن يحيط بكل نواحي هذا الروح الكبير في يوم ذكراه فان من الناس مثلا الطويل ، ومنهم العريض ، ومنهم العميق . ولكن سعدا كان في الناس الرجل الطويل العريض العميق . وسوف تسمع في هذه الأيام ذكريات الذاكرين عن سعد العظيم بآماله العالية ، وسعد العظيم بأفاقه العريضة ، وسعد العظيم بنفسه العميقة . . ولذلك يحلو لنا أن ندع هذه الأحاديث لأصحابها ، وتناول نحن سعدا من ناحية أخرى ، نري أن صورة العظيم لا تكمل إلا باستيفائها . نريد أن نتكلم عن سعد - الإنسان العادي - لا عن سعد الزعيم المتفرد ، ولا عن سعد الخطيب المصفع ، ولا عن سعد الخصم الجبار ؛ فإن قصر الحديث على هذه الناحية وحدها من نواحيه المتعددة خليق أن يضرب بينه وبين الناس حجابا يحول دون انتفاعهم بقدرته ، والنسج على متواله في الحياة . وإني لأذكر أن كاتبا من كتابنا النابهين كتب عن شخصية سعد ، فقال ما معناه : إن الإنسان لينظر إلي سعد فيحس أنه علي مقربة من رجل ممتاز في جسمه ، كما هو ممتاز في عقله . وإن طلعته لتذكر الناظر إليه بطلعة الأسد . وإنه ليس بين الوجوء الأدمية ما هو أشبه بالأسد في قسماته ومهابته من وجه سعد زغلول . .

أذكر أني قرأت هذا الوصف في كتاب كنت أرجو ان ألتمس فيه لنفسي عونا على الوصول إلي شئ من أسباب

العظمة التي سلكت سعدا في سجل العظماء . فإن الإنسان ليقرأ سير العظماء ، ويبتغي أن يقع فيها على سرهم لعله أن يصيب حظا مثل حظهم . ولكني قمت إلي المرآة بعد قراءة هذا الوصف أنفحص قسمات وجهي ، فلم أر فيها شيئا يشبه الأسد من قريب ولا من بعيد ، ورأيتني فردا كغيري من الأدميين الكثيرين ؛ فارتددت وفي نفسى شئ من خيبة الأمل على أن الطبيعة سلبتني أول مقومات العظمة التى حبث بها زعيمنا الخالد .

وأنا اليوم لا أريد أن أدفع اليأس في قلب قارئ جديد بالتحدث عن عظمة سعد ولذلك اخترت أن أتحدث عنه ، لا يوصف كونه أمة في فرد ، ولا يوصف كونه الجبار العنيد ، ولا على أنه الشجاع الأعزل الذي وقف في وجه الدولة المسلحة ، ولا على أي اعتبار أخر من الاعتبارات التي جرت الآفلام علي انتحائها ، وهي تكتب عن سعد . ولكني أريد أن أكتب عنه باعتباره إنسانا له نواحي ضعفه أحيانا ، وله من الصفات الكثيرة ما يشاركه فيه كل إنسان آخر . ولست أرمي من وراء ذلك إلا أن أقرب شخصيته إلى المعجبين به ، المحتذين مثاله ، الراغبين في أن ينضموا إلى جملة أبنائه ؟ وإلا إعادة الثقة إلي نفس كل من تحدثه نفسه بأن يتشبه بسعد !

وأول ما أري أن أتوه به من صفات سعد في هذا المقام ، رقة شعوره إلي الحد الذي يكاد ينكره الناس على الرجل العادي . فلقد كان - رحمه الله - من رفاهة الحس ، بحيث تنحدر دموعة إذا رأي شخصا يبكي في حضرته . ولذلك كان يطلب إلي من حوله أن يعفوه من مشاهدة الباكين قائلا :

- لا تجعلوا أحدا يبكي أمامي ، فإني لا أطيق البكاء ،

وإذا مت ، فخذوا تاركم مني ولا تبكوني !

والمقربون من سعد يعلمون أنه حين ذهبت إليه أم المصريين في جبل طارق لم يذهب هو لاستقبالها على المرسى ، بل بقي في حجرة الاستقبال حتى دخلت عليه ، وذلك خشية أن تجيش نفسه للقاء قرياته بعد ذلك الفراق الطويل ، ومخافة أن يغلبه الانفعال فتدمع عيناه على مشهد من الحاضرين .

ونقطة أخري أري أنها أفعل في النفوس من كل ما يثيره الكاتبون عن عظمة سعد وقوته وصلابته وجبروته : ذلك أنه كان مصابا بالربو ، وأنه مع تقدمه في السن جاءه تصلب الشرايين ، كما جاء ضغط الدم ، وفوق كل ذلك كان - رحمه الله - مصابا بالسكر ، ومصابا بالزلال . . فهذه أدواء كثيرة تكفل العمل المتواصل لمستوصف صغير بأطبائه وممرضاته ومعامله . عاش بها سعد كلها ، ولم يحل شئ منها دون أن يسير الرجل في طريقه الذي اختطه لنفسه ، ودون أن يبلغ منه غابته . فلا عذر بعد هذا الحديث - على الأقل - لأولئك الذين يتخذون من الصيام ، وما يشبه الصيام من صنوف الحرمان الجسدية ، ذريعة يتذرعون بها إلى القعود والبقاء مع المتخلفين ، الذين إذا ذكر العمل وجفت قلوبهم ، كما تجف لذكر الله قلوب المؤمنين .

ولقد كان خصوم سعد يعرفون عنه أنه الشيخ المريض الذي يحمل أعباء كل هذه الأدواء ، وكانوا يرجون الفرج لأنفسهم عن هذا الطريق ؛ ولذلك لم يكن يصعقهم شئ أكثر من أن يترصدوا له ويتناوثون وهو في نوبات مرضه ، فما أن يصل إليه شئ من أذاهم حتى تثور نفسه ، ويغلي دمه ، وبتطهر جسده من كل ما كان يشكوه ؟ فإذا هو البنيان المنين ، والركن الحصين الرصين ، وإذا هو العاصفة

تقتلع ما كانوا ينصبون ، والعصا التي تلقف ما بأفكون !

وامل أقسى ما شهده سعد في أيامه الأخيرة ، تلك الأيام التي كان فيها اللورد جورج لويد يرعى شئون دولته في مصر . فقد أفطر سعدا بوابل من أزماته ، لا يكاد الرجل يحل مشكلة منها حتى برميه بأخرى ، يريد أن يربكه وأن يحطم ما بقي من قوته ، ولكنه لم يملك أخيرا إلا أن صاح فيمن حوله قائلا :

- إن صحة سعد باشا تتقدم على الأزمات !

وبلغ هذا القول سعدا فكان تعليقه عليه - رحمه الله - :

- ربنا يطول عمر اللورد !

والنكتة البارعة في هذا الدعاء الكبس أنه يرجو من . وراء طول عمر اللورد أن  (يتعاطى ) من أزمانه المصطنعة ما يعالج به أمراضه ، وما يستعين به على تحسين صحته !

وما دام الحديث قد جرنا إلى روح الدعاية عند سعد ، فإنا ننتهز هذه الفرصة لنقول إن عظمة سعد لم تكن كلها في جده ، بل كان كثير منها في فكاهته أيضا . وكاتب هذه السطور ممن يؤمنون بالفكاهة في الحديث إيمانه بالملح في الطعام . فهي ضرورة من ضرورات الحياة ، وإنها لتحل من مشاكل هذه الدنيا ما يستعصي علاجه على كل جد . بل إن الحد المطلق ليعبق سير الحياة ، ويلقي ظلا تقبلا على موكبها ، ويجعل زحمتها كلا علي النفوس لا تطيقه ولا تستطيع العمل تحت نبره . وكم من أزمة مستحكمة استوخمت عواقبها لم تتبدد غيومها إلا بفضل كلمة فكهة ! وكم من مأزق حرج لم يكن له من مخرج  إلا في دعاية مرحة !

حدث أن جماعة من الأزهريين قصدوا إليه يطلبون وساطته في إرسال بعثة منهم إلى أوربا ، أسوة بطلاب المدارس العالية ، وكان رفض هذا الطلب فيه تخيب لأمال الآزهربين ، وإقرار عليهم بأنهم ليسوا مثل زملائهم من

الطلاب ؛ كما أن في الاستجابة إليه توريطا لعمل ما لم يكن من المناسب عمله في ذلك الوقت . ولم يطل تفكير سعد في كيفية الخروج من هذا المأزق ، فبش في وجوههم وأجابهم مداعيا :

- وإلي أين تريدون أن ترسل بعوتكم ؟ إلي الفاتيكان ؟ !

وعلى هذا النسق الفكه كان سعد يتخطي أيضا ما يعترض طريقه من أحداث عابسات . فما أظن أحدا من القراء قد نسي تلك الملابسات الصارمة التي نقل فيها سعد مع جماعة من أصحابه إلى مالطة . وحدث بعد وصولهم إلي تلك الجزيرة التي لم يكن يعلم أحد بوجودهم فيها ، أن جلس جماعة ممن كانوا معه يتناجون بشكواهم ، ويذكرون بالحسرة ما يعانيه ذروهم من القلق عليهم ، وعلى الأخص ما تكابده زوجاتهم من جراء هذا الاعتقال المباغت . قصير عليهم سعد حتى أفرغوا ما عندهم ، واستيقن أنهم فرجوا بهذه الشكاة بعض ما كان يرهق نفوسهم من الألم . ثم نظر إليهم قائلا :

- هل أدلكم على شيء تفعلونه فتربحون أزواجكم وتستريحون ، ويجعل غيابكم عنهن أحسن من حضوركم ؟ اكتبوا إليهن أن نساء مالطة من أجمل نساء العالمين ، وأنكم تزوجتم بها وسكنتم إلي الإقامة فيها ؛ فإن أحدا أن يتمنى لكم بعد ذلك إلا دوام الاقتراب وطول الغياب !

رحم الله الزعيم رحمة واسعة ، وأكثر في صحابته من أمثاله " سمودا " كثيرة ، لهم من حسن التدبير ، وفطانة التفكير ، ما يؤهلهم لأن يخطوا بمصر في طريق المجد خطوات جديدة ، تجدد لها ماضيها ، وتعيدها إلى مكانتها الأولى بين الأمم .

اشترك في نشرتنا البريدية