كان بمدينة بور سعيد رجل اسمه (سفروت الحاوي) يتردد على المقاهي فيعرض ألعابه السيماوية وحيله السحرية على الجالسين لقاء ما يجودون به عليه، وكان سفروت هذا لبقا فكه الحديث سريع الخاطر قلما يخلو له أسبوع من حيلة جديدة، وبذلك اكتسب رزقا حسده عليه بنو مهنته.
وأهالي بورسعيد كما يعلم القراء اشتهروا بأنه قلما وجد لسان فى شرق الأرض أو غربها لم يلموا منه ببعض مفردات. ولكن سفروت هذا فاق أهل بلده فى ذلك فقد وهبه الله هبة اللغات فكان يتفاهم فى لغتين، ويشرح حيله ويطلب أجره فى تسع لغات.
كان سفروت رجلا طويل القامة نحيلا أسمر اللون، زينت له أمه أذنه اليمنى بحلقة فضية لأنه عاش لها بعد خمسة ماتوا فى طفولتهم. وكان يسر فى جلباب من السكرونة عليه معطف طويل محشو الجيوب وينادي بصوت طلق قوي: (أنا سفروت الحاوي، أنا الحاوي سفروت، اطلع البيضة من الكتكوت، جلا جلا جلا جلا جلا ويترجم ذلك أو شبهه إلى ألسن مختلفة بينما (يفنط) أوراق اللعب بين يديه بمهارة نادرة.
وأغنى الله سفروت الحاوي جزاء استقامته وذكائه واقتصاده فجلب من ألمانيا لعبا سماوية ثمينة واتخذ له صبية وسيمة الوجه جذابة القد اسمها بهية , وانتشرت شهرته بين أصحاب المقاهى والملاهى فى بورسعيد فاستأجروه لإحياء ليال خاصة أدرت عليه و عليهم الربح الكثير .
وزاد طموح سفروت فبدل ثوبه الوطنى ببدلة سوداء على مثال أبناء حرفته الغربيين , وأرسل شعر رأسه طويلا قائما . واتخذ لنفسه لقب " بروفيسير " ثم انتقل إلى القاهرة يشتغل بها فى موسم السواح , و يتركها إلى الاسكندرية وغيرها من المصايف فى موسم الحر .
كان سفروت كعادة الحواة يبدأ ألعابه بالمألوف من الحيل . مثل كسر البيض ووضعه فى إناء أمام النظارة , هم اخراجه صحيحا من آذانهم , ويتدرج من ذلك إلي الصعب العجيب مثل أكل
الخرق البالية وقصائص الورق , واخراجها من فمه ، أعلاما للدول المختلفة وهكذا حتى ينتهى الى أصعب ألعابه و هى لعبة صندوق الاخفاء الألمانى العجيب الذي اشتراه بمبلغ كبير .
وأمر هذا الصندوق يظهر غريبا للمتفرجين , وبيانه أن سفروتا يأتى ببهية فيقيدها بالسلاسل والأغلال و يضعها فى صندوق أمام المتفرجين , كان قد طلب اليهم فحصه قبل ذلك .
ويوصد الحاوى الصندوق بالأقفال ويربطه بالحبال ويقف عليه , فيكفهر وجهه , ويقف شعر رأسه , ويتمتم ويتلو تعاويذ سليمان على الجن الحمراء أن يحضروا , فتحضر الجن الحمراء ، ويأمرهم سفروت أن يحولوا جسم بهية إلى المادة الهيولية . عندئذ يتصاعد من الصندوق بحارا حمرا فينزل الحاوي عنه ويفتحه فلا ترى أثرا للفتاة فيه .
ويقفل سفروت الصندوق ثانية , ويقف عليه فيكفهر وجهه . ويقف شعر رأسه , ويدعو سليمان فتحضر الجن ثانية , فيأمرهم أن يسترجعوا جسم بهية , وينزل الدخان الاحمر من سقف المسرح ويفتح الحاوى الصندوق فاذا ببهية في أصفادها كما كانت .
حدث ذات مرة فى موسم (رأس البر) أن تعاقد مدير فندق كبير مع (البروفيسير سفروت) على إحياء سبع ليال لتسلية المصيفين مقابل أجر طيبا فأمر الحاوي أن يبني له مسرح خاص فى ردهة الفندق الكبيرة، وبدأ لياليه كالعادة، حتى كانت الليلة الثالثة ففي هذه الليلة بعد أن انتهى من لعبة الصندوق وبينما كان يجمع أدواته من المتفرجين ويعطيهم ما كان قد استعاره منهم أثناء الحفلة أعترضه رجل قصير القامة، بدين الجسم، يلمع العرق على وجهه الأسمر الأصفر، رجل من أقباط الصعيد فى زعبوط أسود وعمامة سوداء يخاله الناظر من تجار الكسبة أو العجوة.
تقدم الرجل من سفروت خجلا مترددا فقال: (نكتة اللعبة دي!. . . نكتة تمام يا أخينا) . فوافق سفروت على قول الرجل ببرود وأدب مصطنع، ثم مضى إلى غيره، ذلك أن الناس كثيرا ما كانوا يأتون إليه بعد الحفلات يخبرونه أنهم يعلمون سر ألعابه أو أن ما فعله قد رأوه منذ سنوات أو ليلحوا عليه كي يعلمهم السر فى حيلة أعجبتهم إلى غير ذلك من سخف كثيرا ما سايرهم فيه أو صرفهم عنه بسحرية غير جارحة، إذ لم يكن من الكياسة أن يجفو لهم فى القول وعليهم مدار رزقه.
وتبع القبطى الحاوي وهو يردد فى شىء من الذهول : نكتة
جوي والله عبارة الصندوق دى ...! نكتة جوى جوى " فقال سفروت مستهزئا ! اذا كان اعجبك فلم لا تشترى لك واحدا يامعلم !؟ فلم يدرك الصعيدى ان الحاوى يهزأ به اذ كان يفكر في أمر ملك عليه انتباهه .
انتهى سفروت وخرج كعادته يتمشى على شاطئ البحر ليريح نفسه من عناء العمل وليستنشق هواء الليل قبل أن يذهب إلى فراشه فإذا بالقبطي يقتفي أثره ويبادر بحديث الصندوق. _ لا تؤاخذني يا حضرة. . . . أنا عاوز أكلمك، أنت أولا أسمك إيه؟ _ خدامك سفروت _ عاشت الأسامي يا سي سفروت. . . . تعرف ياسي سفروت عبارة الصندوج دي مش نكته جوى جوي برده! - إياك أنت تكون اهتديت لسرها بنباهتك من ساعة ما سبتك؟ _ لألأ! مش غرضي. وأدرك سفروت من لهجة محدثه أنه يحاول أن يكتسب صداقته؛ وكانت الليلة مقمرة، فلما نظر رأى عيني القبطي تلمعان بانفعال غريب فحدثته نفسه (ماذا يريد هذا الرجل مني؟) ولكن محدثه قطع عليه تفكيره. - بجه مش تفتكر أن تخيبة المرة اللي معاك دي يخصر اللعبة بعض شيء؟ - برده يا خواجه لك حق، لكن يعني أمال حخبي مين؟ - ليه ماتخبيش واحد من المتفرجين؟ أهو ده يكون نكته تمام. وأندهش سفروت من هذا الاقتراح الشاذ وأجاب ساخرا - يبقى نكتة أوي إذا كان واحد يرضى يوالس معايه! طبعا إذا كنت أنت متطوع يبقى كويس. دا حتى ما يبقاش فيه فائدة للصندوق. الزعبوط بتاعك ده كفاية أوي، الزعبوط ده يخبي دستة. ثم ضحك مقهقها. - ما تآخذنيش يامعلم! أنا راجل أحب الهزار.
ولكن الرجل الغريب الأطوار تجاهل وقاحة الحاوي أو هو لم يسمعه فقد نظر حوله كمن يريد ان يستوثق من عيون رقيب , ثم ادني فمه من أذن محدثه هامسا . اسمع ! أنا راضى , انا أتفق وياك . وتلفت حوله فى انفعال عصى ووضع يده في عبه واخرج منها محفظة نقوده فاخذ ورقة ذات خمسة جنيهات وهو يهمس .
- ما تفتكرشي يا سي سفروت أني مجنون، يمكن أطواري تظهر غريبة لك شوية، لكن أنا مش مجنون. أنا عاوز أتعلم اللعبة دي، وآدي خمسة جنيه علشان تعلمهالي ونعملها بكرة سوى قدام الناس وساور الحاوي الشك فى سلامة عقل الرجل، ولكن المال أغراه فبينما هو يقلب الأمر على وجوهه إذا صوت إمرأة يرتفع فى وحشة الليل حوله. - بولص!! بولص! ونظر سفروت فإذا المرأة طويلة هزيلة فى حبرة سوداء مقبلة عليهما. وارتبك الرجل القبطي ارتباكا واضحا وظهر عليه الخوف، فقال مسرعا: - اسمع! دي مراتي أنا لازم أروح. أنا لازم أروح حالا. أنت اتفقت ولا لأ؟ فأخذ الحاوي الورقة من يد الرجل قائلا: - مادمت أنت عاوز كده مافيش بأس. - يمكن تقابلني بكره الساعة تسعة الصبح علشان تعلمني؟
فرضي سفروت وانصرف الرجل إلى زوجته مسرعا كأنما هو يحرص أن لا تكشف عن صفة محدثه. وفي اليوم التالي فى الساعة المحدودة قابل الحاوي بولص وعلمه كيف يهبط قاع الصندوق مع الجزء الذى تحته من خشب المسرح بالضغط على زر خفي بأحد جوانبه، وكيف يفك أغلاله ويربطها بعد ذلك وكيف يرفع القاع إلى ما كان عليه.
وكان بولص برغم بدانته , و غرابة أطواره ، وزعبوطه , ذكيا سريع الفهم تعلم فى وقت قصير وأتقن اللعبة اتقان صبية الحاوي .
وكانت الحفلة في المساء وقام سفروت بألعابه كعادته الا انه كان كلما نظر الى بولص رأى عينيه شاخصتين نحوه كأنما يربطهما بالحاوى خيط , فشعر بوساوس مقلقة وتوترت اعصابه وترك بهية تقوم بدوو لا تحتاج فيه اليه فانسرق الى البار وشرب بغضا من الوسكى ثم رجع يعاود ألعابه .
وأني دور الصندوق ولسفروت من حدة الذهن وجرأة الخز ما ألهمه هذه الديباجة : أعمل أمام حضرتكم الليلة أيها السيدات والسادة ، ما لم يعمله حاو فى العالم أجمع لا قبلي ولا بعدى ،
فارضاء لزبائنا الكرام اتصلت قبل الحفلة بخادمى من الجن الاحمر المدعو جنجلوت .... لا تضحكوا أيها السيدات . نعم , خادمى جنجلوت الخفيف الذى سخره لى سليمان . وبعد الجهد الجهيد انها السيدات والسادة رضى جنجلوت أن يأخذ أحد حضرات المتفرجين هذه الليلة فيحوله الى المادة الهيولية ويصطحب روحه في نزهة سماوية .
من منكم أيها السيدات والسادة يحب أن يخاطر هذه المخاطرة؟ من عنده الشجاعة والإقدام؟. . . ألو ألو. . . الا أونا الا دوه. . . دقيقتين فسحة بين الكواكب يا سيدتي الو؟. . . حضرتك؟ لا؟ طيب تعالي أنت يا ست يا أم برقع، لأ؟ طيب بلاش لأ يا سعادة البيه، انت ثقيل شويه على جنجلوت أنت يا أفندي يا صغير؟ بقي ما فيش حد يجبر بخاطر جنجلوت الجني الخفيف الضريف؟ ألو الو ألا أونا الا دوه . . . ما فيش فى الصالة واحد شجاع.
وظل المتفرجون بين ذلك يضحكون ولكن سرعان ما اعتراهم الصمت والدهشة اذ راوا احدهم سرتق المسرح فعلا , وفى هذا السكون ارتفع صوت المرأة ذات الخبرة السوداء كما ارتفع فى وحشة الليلة الماضية - بولص !!! بولص بولص !!! ارجع هنا . صوت وحشى جهورى تفضح نبراته قسوة قلبها وأنانيتها . وتبينت أغلبية أهل الفندق بولص تاجر البصل الصعيدى المتيسر والرجل الصامت المنعزل مع زوجته القبيحة , دائما فى ( البقية على صفحة ٤٢)
شرفة الفندق الغربي. وتهامسوا فيما بينهم يرقبون بدهشة ما يحدث، وهابت نفوسهم إذ رأوا شبه جنون فى عيني الرجل ورأوا العرق يتصبب غزيرا من وجه الأسمر الأصفر. ولكن سرعان ما وجدت أنظار الخلعاء ما يثير الضحك فى هيئة الرجل التعس، فنادى أحدهم ما تخافيش يا ستي ده المعلم بولص يخوف العفاريت ونادى آخر. - حاسب يابولص لا الجن يركبك
