الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 560الرجوع إلى "الرسالة"

(سلامة القس)

Share

مَهاة من مَهَى مكة، ذات عينين خلقتا للحب، وفم  برأه الله للغزل، وصوت رقَّقه للغناء، وقلب صغير إلا أنه  فتيٌّ قويٌ زاخر، لأنه استطاع أن ينجو من إبليس، وأن  يقاسم على مرضاة الله!

نشأت سلامة في كنف رجل تقي ورع محافظ، فكانت  ترعى له البُهمْ في بطائح مكة تذهب بها خماصاً وتعود بها بطاناً،  ثم تحلب وتطهى وتخدم، فإذا أوت إلى فراشها أخذت ترجع  بصوتها المختبئ ملء صدرها وحلقها وطي لسانها، وتجد في ذلك  الترجيع وهذا التسجيع لذة وراحة. . . حتى إذا زارت مكة  جميلة المغنية، ونزلت في بيت ابن سهيل القريب من دار سلامة،  وأخذت تملأ الدنيا كلها في هذا البلد الآمن غناءً، وتذيب  قلوب أهله شدواً، كان قلب سلامة أول ناهل على ظمأ،  وكان سمعها أول مستجيب على طول اصطبار، وكان لسانها أول  مردد لألحان البلبل الغريد. وسمعها سيدها تجدف بهذا الغناء  فنهاها عنه، ووكل إلى زوجته أمر مراقبتها، وإغرائها بترتيل  القرآن؛ فأطاعت سلامة، لكنها كانت تطبق على آي الذكر  الحكيم أصوات جميلة وألحانها، فلما سمعها مولاها جن جنونه  واشتد في أمرها؛ وكانت سلامة ترعى البهم يوماً، فتركها  تتخير من رطب الكلأ ما تشاء، وجلست هي تملأ الهواء  بما ملأ صدرها من غناء، فما تنبهت إلا على صوت رقيق حلو  ذي رنين يكمل لها اللحن ويضبط لها النغم، وإذا صاحب  الصوت راع صغير يبتسم لها فتبتسم، وإذا هما يتعاهدان على أن  يكون أحدهما معلماً والثانية متعلملة. . . بأجر زهيد. . . قبلة لقاء  كل لحن!!

ويضيق بها سيدها لأنها لم ترعو عن هذا الغناء  فيبيعها ابن سهيل صاحب القصر الذي نفذ منه إلى سمعها  وقلبها غناء جميلة، والذي كان ندى الشعراء والمغنين في  مكة، يغشاه ابن ربيعة والأحوص والغريض والعرجي  ومعبد وكثيرون غيرهم. . . ويسلم ابن سهيل سلامة إلى زعماء  الغناء فتثقف عنهم أحانه، وتصبح فتنة الفتن وريحانة القلوب. . .  وإلى هنا لا تكون المأساة قد بدأت بعد! لأنها لا تبدأ إلا منذ  هذه المصادفة التي تبدأ العاصفة في حياة قديس!

لقد كان في مكة تقي من أتقياء المسلمين وأشدهم ورعا،  وكان يدعى عبد الرحمن بن عمار، وكان يدعوه قومه القس،  لصفاء نفسه وانصرافه عن الدنيا وإكبابه على الصلاة، ولزومه  المسجد، وزهده في مباهج الحياة، واحترازه من شراك الشيطان.  وكان عبد الرحمن يوماً ماراً بقصر ابن سهيل في طريقه إلى  المسجد، فما شدهه إلا أن سمع شدواً ينسكب في روحه وينساب  في دمه، ثم يستقر في قلبه ليكتب في صفحته مأساة هذا الحب  الخالد والهوى الحلال والعشق المسكين

أبطأ عبد الرحمن في سيره. . . لكنه عاد فاستعاذ بالله؛  وقبل أن يسرع إلى المسجد سمع منادياً يناديه. . . فإذا هو  ابن سهيل يدعوه إلى جلسة في قصره يشرفه بها. . . وكان  ابن سهيل قد رأى عبد الرحمن إذ وقف ساهما مسبوهاً منصتاً  للغناء، فسره أن يسحر صوت سلامة أتقى أتقياء مكة وأصفى  أصفيائها، فأقسم ليأتمرن بهذه النفس التي تجردت من الدنيا،  ليرى كيف يكون عبد الرحيم بين تقواها وبين مفاتن سلامة. . .  وتأبى عبد الرحمن أول الأمر؛ ثم وعد أن يزور ابن سهيل وأن  يستمع إلى سلامة من وراء حجاب. وقد أجابه الرجل إلى هذا  الشرط، ثم رآه مرة وقد نفذ سحر الغناء إلى أغوار نفسه وأخذ  يعصف بها عصفاً شديداً، فسأله إن كان يسمح بدعوة سلامة  لتجلس إليهما وتغنى في حضرتهما من دون ما حجاب. . . وقبل  أن يجيب عبد الرحمن دعا ابن سهيل جاريته فأقبلت. . . ولم تقبل  لتغنى فحسب بل أقبلت لتغزو من نفس عبد الرحمن ما لم يغزه  غناؤها. . . لقد كانت جمالاً منوِّرا وحسناً مزهرا وبهجةً سارية،  فما هي إلا نظرة واستقرت من قلبه في قرار مكين!

ومضت الأيام. . . ولم يبال عبد الرحمن بما شرع أهل مكة  يلوكونه عنه ويحيكونه عن هيامه بسلامة. . . وخلا بها مرة  في قصر مولاها فصرح الحب، وباح الغرام، وقالت له وقال لها،  ثم كانت سلامة أجرأ منه فتشهت أن تضع فمها على فمه. . . لكن  الله القدير آثر لهما العفة، واختار لغرامهما الطهر، فصرف  الشيطان عن نفس عبد الرحمن حفظاً لعرض صديقه، وإبقاء على  الخيط الذي يربطه بأسباب السماء، وكان حسبه أن يترفق  بصاحبته، وأن يفئ بسورتها إلى الله. . . ساقيا هذا الهوى  الملح، والغرام المسرف بعض ما أسعدت عيناه من دموع. . .  ثم عاهدها على أن يعمل كما يعمل الناس، حتى إذا اكتمل له  ثمنها دفعه إلى ابن سهيل ثم أعتقها، ثم تكون له بعد هذا زوجة!

وكان ابن سهيل رفيقاً بعبد الرحمن حين لحظ ما كان يعصف به  من رياح هذا الحب. . . فلم يلبث أن عرض عليه سلامة هدية  خالصة. . . إلا أن عبد الرحمن أبى، وزاده إباء أن ابن سهيل  كان إذ ذاك في عسرة من أحواله المالية، فإذا اشتراها عبد الرحمن  ببعض المال كان أصلح لابن سهيل وأوفق لظرفه الخاص،  ثم كان ذلك أكرم لهوى عبد الرحمن وأصون لحبه. . . ولم  يبال، وقد فكر هذا التفكير أن يبيع بعض عقاره ليشتري  سلامة. . . فلما فعل، وذهب بالمال إلى ابن سهيل، كان السيف  قد سبق. . . فقد باع القاضي جميع ما يملك ابن سهيل، وسلامة  في كل ما يملك. . . لقد اشتراها ابن رمانة تاجر الجواري بالمدينة،  ولقد دفع فيها غالياً

وكانت صدمةً أي صدمة لعبد الرحمن! لقد ضاقت به  الدنيا. . . وبكى أحر البكاء وأعنفه، وكانت دموعه تمتح من  أعماق قلبه لا من أغوار عينيه. . . لكنه احتمل. . . وانتوى  أن يعمل أضعاف ما عمل ليرضى شهوة المالك الجديد الذي اشترى  سلامة تجارة رابحة وصيداً ليس مثله صيد!

ثم مضت الأيام كما مضت من قبل. . . أو أشد مما مضت  من قبل، وربح عبد الرحمن مالاً جماً، وكان هذه المرة يعمل مع  ابن سهيل؛ فلما بارك الله لهما، شدا رحلهما إلى المدينة بعد  أن تجهزا. . . من أجل سلامة. . . وكان قلب عبد الرحمن يحدثه  عند كل ثنّية، وكانت مشاعره تهيج عند كل مقام. . . لأن  سلامة مرت من قبل بتلك الثنية أو قامت بهذا المقام. . . ثم  نزلا ضيفين عند أحد الأصدقاء بالمدينة، قبل أن يتوجها إلى دار

ابن رمانة. . . وعلما من صديقهما أنباء سلامة ففرحا واطمأنا  وكان الرجل قد ذكر لهما أشياء وأخفى عنهما أشياء. . . ثم وجها  إلى ابن رمانة، وحضرا مجلس غناء شدت فيه سلامة، وأغمى  على عبد الرحمن عند بيت من قصيدة له كانت تغنيها، وكانا قد  تلاحظا وتعارفا قبل الإغماء. فتولت سلامة العناية به حتى عاد  إليه صوابه، فما سلّما حتى استخرطا في بكاء شديد

وخلا الرجلان بابن رمانة وعرضا عليه ما قدما من أجله  فأوشك التاجر الذي لا يعرف إلا عواطف المال ولغة المكسب  أن يبكى من التأثر، ثم ألقى إليهما بالنبأ الفاجع: (لقد اشتراها  رسل الخليفة بعشرين ألفاً، فهي منذ اليوم ملك يزيد بن  عبد الملك. . . وغداً يذهبون بها إلى دمشق!)

وإذا كانت الدنيا قد أصبحت ظلمات بعضها فوق بعض  في عين عبد الرحمن حين اشترى ابن رمانة سلامة، فيا ترى؟  ماذا تكون حاله الآن!. . .

وترفق ابن رمانة فأذن للعاشقين بخلوة، تعاهدا فيها بالصبر  والصلاة. الصبر إلى يوم الدين إذ يلتقيان. . . في جنات عرضها  السموات والأرض أعدت للمتقين. . . والصلاة التي تهدى إلى  هذه الجنات بإذن الله

هذه أيها القارئ قصة سلامة القس التي أنشأها الأخ  الصديق الأستاذ علي أحمد باكثير، والتي كان قد نشرها من  قبل فصولاً في إحدى المجلات، والتي تنشرها له اليوم (لجنة  النشر للجامعيين) ضمن ما تنشره من كتب قيمة، فتملأ بها  في عالم القصة المصرية فراغاً كبيراً، إن لم يكن فراغاً مخيفاً  والأستاذ باكثير أديب حضرمي كسبته مصر التي نشأ فيها  وتخرج في الجامعة المصرية، فهو يدين لمصر بتعلمه، كما يدين  لها بهذا الأدب الناضج المتشعب، المتعدد النواحي، فهو شاعر  رقيق الشعر جيد المعاني ثائر على التقاليد، وقد كنت على أن  أتكلم عن طريقته في الشعر المرسل لولا أشياء صرفتني عن ذلك  إلى حين. وباكثير شاعر مسرحي أيضاً، وله درامتان بالشعر  المرسل هما إخناتون ونفرتيتي ثم إبراهيم باشا بطل مصر الخالد  وتصور الأولى صفحة ناصعة من تاريخ مصر الروحي القديم، كما  تصور الثانية صفحة ناصعة من تاريخ مصر الحديث في سبيل  العروبة التي ننادي اليوم بوحدتها، وكان باكثير في المقدمة من  دعاتها بدرامته هذه. . . ولولا أن اختار باكثير لهاتين الدرامتان

طريقة من الشعر المرسل لا يستقيم ميزانها ولا يجمل في السمع وقعها لكان لها شأن أى شأن ، فهما في القمة من الفن المسرحي موضوعاً وحركة وتوزيعاً ، وروحه فيهما هي هذه الروح التي  أملت تلك القصة العجيبة الجيدة ، سلامة القس ، التي تمتاز  بقوة تماسكها وجمال موضوعها وتناسق عاطفتها ، ومسحتها  الشعرية الغامرة ... وإن كنت لا أوافق الأستاذ على نهايتها  على هذا النحو الصوفى ... وقد ذكرت كلمة من قال : أين هذا  الموسيقي الذى لم يكمل لحنه ، عند ما فرغت من قراءتها ؛  فالقصة لم تنته بعد ، لأن العاشقين لا يزالال حين يرزقان،  ولعل الصديق العزيز يضع لنا الجزء الثاني منها بأن يخلق لنا من  عنده ما كان من أمر سلامة في قصر يزيد ، وما كان من أمر  عبد الرحمن في مكة ، وسواء انتهى أمرهما إلى مأساة أو غيرها ،  فالذى نطلبه هو ألا يدعنا ! يكاتب على هذا النحو من التشوف  والألم الذي لم يقربنا إلى قراء

ووصيتي أن يثرأ الأستاذ باب الاعتكاف في كتب الفقه ، وأن يتقبل تهنئات الأدب المصرى الحديث وشكر قرائه المعجبين

اشترك في نشرتنا البريدية