]كان عبد الرحمن بن عبد الله بن أبى عمار شابا تقيا طاهرا عفيفا . وفى يوم من الأيام رأى فى المنام أنه دخل الجنة ، وأوشك أن يخرج منها إجابة لاغراء امرأة ذات صوت جميل ، ولقد قص عبد الرحمن هذا الحلم الذى أنزعه على صديقه أبى الوفاء ، فهدأ من روعه . وإنه لمنصرف إلى داره إذ سمح صوتا جميلا يغنى شعرا هو صوت سلامة جارية ابن سهيل التى اشتراها من أبى الوفاء ، فتبين مصدر الصوت فإذا به دار ابن سهيل ، وفيما هو يمر بالدار بعد ذلك بأيام سمع نفس الصوت ثانيا ، ولمحه ابن سهيل فنزل إليه ودعاء ملحا فى زيارته . وبعد رفض وتمنع دخل عبد الرحمن إلى الدار وأكرم ابن سهيل وفادته وأملر جاريته بالغناء فغنت ، ثم دعاها أن تدخل على عبد الرحمن فما رآها عبد الرحمن حتى راعه جمالها ، وأحبها ، ونقل بعض الناس نبأ ذلك إلى أبى الوفاء فآلمه ذلك وأحزنه . ولكن عبد الرحمن كشف له عن دخيلة نفسه ، وأنه يحب هذه الجارية أصدق الحب ، وأنها تبادله عاطقته . وقد عرف ابن سهيل أمر هذا الحب ، فحاول أن يهب سلامة لعبد الرحمن ، ولكنه رفض ذلك ومضى يشتغل بالتجارة ، وقد عزم على أمر أخفاء عن الناس . وبينما ابن سهيل وعبد الرحمن وسلامة يتسامرون ذات يوم بدار الأول ، إذ أقبل رسول يطلب ابن سهيل لملاقاة غائبته لدى القاضى ، فاستأذن من عبد الرحمن وسلامة ، وتركهما يتطارحان الهوى [ .
فقامت سلامة ودنت منه ، وأخذت بيده قائلة :
- إذا فما يمنعك ؟ فوالله إن الوضع لخال . فذهل عبد الرحمن ، وخيل إليه أنه يرى طيفا فى حلم ، وبقى صامنا يدير طرفه فى أنحاء المشربة !
فقالت سلامة : ليس عندنا من أحد غيرى وغيرك ! فانتفض عبد الرحمن فجأة ، ونظر إليها نظرة هائلة وقال : - أنسيت الله يإسلامة ؟
فاضطربت سلامة ، ورفعت يدها عن يده ، وكأن نارا لدعتها ، فتراجعت إلى الوراء وعيناها الزائغتان لا تفارقانه ، كأنما ترى أمامها هولا تتقيه .
واستمر عبد الرحمن يقول : - لا يا حبيبتى لا . . . إنى أحبك يا سلامة ، وإنى قرات قول الله عز وجل : " الأخلاء ، يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتفين " ، وأنا أكره أن نصير الخلة التى بيننا عداوة يوم القيامة ،
وغامت عيناه بالدموع ، وعادت سلامة إلى مقعدها ، ومالت بوجهها على المتكأ وطفقت تبكى ، ثم رفعت
رأسها وقالت والدموع تتساقط على خديها : - معذرة يا عبد الرحمن ، عسى أن لا تكون ساخطا على .
فقال عبد الرحمن بصوت يخنقه البكاء : - كلا والله يا حبيبتى ، أنا راض عنك . . . ولكن اصبرى حتى يجعل الله لنا مرجا . فصمت سلامة هنيهة ثم قالت : - وكيف المخرج يا عبد الرحمن ؟ فقال لها : لا أدرى والله يا سلامة! فعادت إلى صمتها ثم قالت :
- ولكنى أدرى يا عبد الرحمن . . . ألا تستوهينى من مولاى ابن سهيل ، فانه والله ليحبك ، وإنه لكريم ، وما أحسبه يضن بى عليك . قال عبد الرحمن :
- صدقت يا سلامة . لقد فعل ابن سهبل ذلك . . . لقد عرض على منذ أيام أن يهبك لى . فبادرته سلامة قائلة :
- أحقا فعل ذلك يا ابن أبى عمار ؟ فقال لها : - إى والله ، لقد فعل . .. ولكنى لم أقبل . فقالت بلهجة العاتب : - ولماذا لم تقبل ؟ - لأنى لم أشأ أن أرزأ هذا الرجل الكريم فى ماله ، فقد بلغنى أنه فى ضيق ، وأن قد ركبته ديون كبيرة .
- وكيف علمت ذلك يا عبد الرحمن ؟ - سمعت الناس يتحدثون بذلك يا سلامة : فنتهدت سلامة وقالت : - أجل ، هذا حق . . . مسكين مولاى ، لقد جنى جوده وإسرافه عليه !
فقال عبد الرحمن - أشهد إنه لجواد كريم . . . حتى فى أيامه هذه الحرجة لم يشأ إلا أن يفتح بابه لضيوفه وزواره .
قالت سلامة - ولاخوانه الشعراء العابثين ، المغنيين اللاجئين ، ينفق عليهم بغير حساب . فسكت عبد الرحمن مليا ثم قال : - أجل ، كنت ألوم هؤلاء القوم وأحمل عليهم بقسوة حتى انتقم الله لهم منى ، فجعلنى مثلهم أو قريبا منهم . - كلا ، لست مثلهم يا ابن أبى عمار . . إنك لا تعبث عبثهم ولا تأخذ إخذهم .
- أستغفر الله يا سلامة . . . بل لعلهم أحسن حالا منى . . . إنهم لم يجالسوا عطاء بن أبى رباح ، ولم يتفقهوا فى الدين مثلى ، ولعلهم لو فعلوا ما وقعوا فيما وقعت فيه . ثم أخذ يقول :
قد كنت أعذل فى السفاهة أهلها
فاعجب لما تأتى به الأيام
فاليوم أعذرهم وأعلم أنما
سبل الغواية والهدى أقسام
وسكتت سلامة برهة ، كأنها تجيل فكرها فى أمور شتى ، ثم قالت : - قد علمت يا عبد الرحمن ما وقع فيه مولاى من الضيق ، وانه لا محالة بائعى ، وأخشى أن لا أراك بعد ذلك ولا ترانى .
فقال عبد الرحمن : - لقد حدثتنى نفس أن أبيع مالا لى بالوادى ، ورثته عن أبى ، فأشتريك بثمنه فأعتقك فأتزوجك . . . أترضين بهذا يا سلامة ؟ فأجابت قائلة :
كيف لا أرضى بهذا يا عبد الرحمن وأنا راضية بما دونه ؟ بحسى أن أكون جاريتك أقوم بخدمتك ، وأعمل على راحتك . . . . ولكن إذا بعت مالك فمن أين تعيش ؟
فابتسم عبد الرحمن وقال : - سأخرج إل السوق وأشتغل سمسارا ، وقد جربت ذلك يا سلامة فنجحت فيه فضحكت سلامة وقالت : - والمسجد يا عبد الرحمن ؟ قال لها :
- للمسجد وقت ، وللسوق وقت ، ولك أنت ياسلامة وقت . . . ولست بأفضل من أبى بكر الصديق وعمر بن الخطاب ، وقد كان أولهما تاجرا وثانيهما دلالا . . . وإنهما لأفضل من أبى هريرة وسائر أهل الضفة الذين لزموا المسجد ولم يشتغلوا بالكسب .
ارتاحت نفس سلامة لهذا القول ، وكأنما أرادت أن تستزيد منه ، فقالت :
- عجبا يا عبد الرحمن ، من أين جاءك هذا الرأى ؟ أما سمعت بهذا من قبل ؟ فقال لها : - بلى ، قد سمعت به من قبل ، ولكننى لم أفقهه ، فلم أعمل به . . . وإنما فقهته بعد إذ عرفتك يا سلامة وفكرت فيك .
فقالت سلامة فى دلال وقد ملكها الزهو : - إذا فلا حق لك أن تلمزنى بأنى بأنبي صرفتك عن الخير . فنظر إليها عبد الرحمن فى وداعة وصفاء ، وقال لها فى تؤدة وهدوء :
-إنى والله لأحار . . وإنى والله لا أدرى أشغلتنى يا سلامة عن الخير أم هديتنى إليه ؟ ولله فى وفيك إرادة هو بالغها . . . إنى ما كنت أفكر فى الزواج ، حتى عرفتك ففكرت فيه . وقد تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقال : " النكاح سنتى ، فمن رغب عن سنتى فليس منى" ؛ وإنى كنت أتلو القرآن واقرأ فيه آيات السماوات والأرض والنجوم ، فما أهتز لها كما أهتز لآيات الوعد والوعيد ، حتى عرفتك با سلامة ، فصرت أخرج فى السحر ى فى العراء ، لأتمتع بجمال النجوم ، وأنظر فى ملكوت الله ! وإنى كنت أرى المسجان فأيقظهم وأقسو عليهم ، وأقول لنفسى : كيف يترك الله هؤلاء ؟ حتى عرفتك فصرت أرثى لحالهم وأعطف عليهم ، واستغفر الله لهم ، وأعلم أن لله حكمة فيهم كما قال فى كتابه : " ولو شاء الله لهدى الناس جميعا " .
وكانت سلامة ساكتة تستمع إليه فى خشوع ، كأنها تصغى القارئ يرتل آيات الله . وسكت عبد الرحمن قليلا ، ثم تشهد وقال :
- ولكن الناس يقولون ويقولون . . . يقولون فسق الفتى وشغفته جارية ابن سهيل حبا . فقالت سلامة :
- دعهم يقولوا ما يشاؤون ، فوالله يا ابن أبى عمار إنك لطاهر الذيل ، شديد المخافة لله . فقال عبد الرحمن بصوت حزين : - أجل يا سلامة ، وهذا سر شقائى !
وصمت عبد الرحمن برهة طويلة ، ثم أخذ حرك شفتيه كأنه بعد حديثا ، فقالت له سلامة ! - ماذا تجمجم يا عبد الرحمن ؟ قال : إنها أبيات هجمت على خاطرى . قالت : أسمعنيها . فوضع يده على جبينه ، كأنه يستعين بذلك على استرجاع شىء نسيه ، وأنشأ يقول :
هواك يقارع التقوي بقلبى فأشهد فيه حربهما سجالا
وهل فى الأرض أشقى من محب
يذوب هوى ولا يرجو نوالا ؟
ألا يا ليت ربى إذ هدانى إلى تقواه جنبنى الضلالا!
وإلا فليرحنى من صلاحى فانى قد لقيت به النكالا!
ستاتينى المنية حين تأتى وتسلمنى إلى ربى تعالى
وما فى القلب يا سلام رجوى
سواك وأن تكونى لى حلالا !
عطربت سلامة وهبت قائلة : - قيدها . . . سآتيك بالدواء والقلم . وناولته العود الذى فى يدها قائلة : امسك هذا . وخرجت من المشربة منطلقة فى خفة الغزال ، فشيعها عبد الرحمن ببصره وهو يقول : - تبارك الله أحسن الخالقين . وأخذ ينظر إلى العود ويقلبه فى يده ويقول : - ويل لك يا مزمار الشيطان ! لربما تهدى إلى عبادة الرحمن ! (يتبع )
