الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 143الرجوع إلى "الثقافة"

سلامة القس

Share
[ كان عبد الرحمن بن عبد الله بن أبى عمار شابا تقيا طاهرا عفيفا . وفى يوم من الأيام رأى فى المنام أنه دخل  الجنة ، وأوشك أن يخرج منها إجابة لاغراء امرأة ذات صوت جميل ، ولقد قص عبد الرحمن هذا الحلم الذى أفزعه على صديقه أبى الوفاء ، فهدأ من روعه . وإنه انصرف إلى داره إذ سمع صوتا جميلا يغنى شعرا هو صوت سلامة جارية ابن سهيل التى اشتراها من أبى الوفاء ، فتبين مصدر الصوت فإذا دار ابن سهيل . وفيما هو يمر بالدار بعد ذلك بأيام سمع نفس الصوت ثانيا ، ولمحه ابن سهيل فنزل إليه ودعاه وأكرم وفادته ، وأمر جاريته بالغناء فغنت ، ثم دعاها أن تدخل على عبد الرحمن ، فما رآها عبد الرحمن حتى راعه جمالها ، وأحبها ، ونقل بعض الناس نبأ ذلك إلى أبى الوفاء  فآلمه ذلك . ولكن عبد الرحمن كشف له عن دخيلة نفسه . ولقد عرف ابن سهيل أمر هذا الحب ، فحاول أن يهب  سلامة لعبد الرحمن ولكنه رفض ذلك . وبينما ابن سهيل وعبد الرحمن وسلامة يتسامرون ذات يوم بدار الأول ،  إذ أقبل رسول يطلب ابن سهيل لملاقاة دائنيه لدى القاضى ، فاستأذن من عبد الرحمن وسلامة ، ولما انصرف عنهما أخذا يتحدثان عن حاله وأنه وشيك الافلاس ، وعرض عبد الرحمن على سلامة أن يبيع مالا له ليشتريها ثم يتزوجها ويشتغل  بالتجارة ، وأنشد عبد الرحمن شعرا أعجب سلامة فأعطته العود وقامت فجأة إلى داخل الدار ] .

الفصل العاشر

لم يهدأ عبد الرحمن بقية يومه ذاك ، فقد خرج من دار ابن سهيل فقصد المسجد ، فصلى الظهر ورجع إلى بيته لينام القيلولة كعادته يستعين بها على القيام ليلا للصلاة  وللتهجد ؛ فاضطجع على فراشه ، وتقلب من جنب إلى  جنب ، وستر وجهه بطرف ردائه يحجب عن عينيه الضوء  لعلهما تغفوان ، ولكنهما ظلتا حيتين فلقتين ما تكادان  تفلتان من سيطرة الاغماض حتى يرتفع جفناهما ، فاذا  هما مفتوحتان ، فكأن جفنيهما قد شدا بخيوط وثيقة إلى  قلبه الخافق المضطرب ، وفكره الهائم فى أودية الأحلام .

فكر عبد الرحمن فيما حدث له صبيحة يومه ، وفى موقفه من سلامة ، فحمد الله على أن نجا من فتنة الشيطان    وكيده ، ولولا عصمة الله له ولطفه به لوقع في الاثم ، فما  كان بينه وبين أن يزل إلا أن يلين قلبه قليلا فتطغى عليه  شهوته فإذا هو من الهالكين .

وتمثلت له سلامة وهى تقول له وقد احمر وجهها وفترت عيناها : يا عبد الرحمن إنى أحبك .

فيقول لها هو : وأنا والله يا سلامة أحبك . فتقول له : وأشتهى أن أضع فمى على فمك . فيقول لها هو : وأنا أيضا أشتهى ذاك . فئاب عبد الرحمن إلى نفسه ، وجعل يكرر هذه الكلمة : " وانا أيضا أشتهى ذلك " , ويقول : ويل لى ! أشتهيت أن أضع فمى على فمها ؟ أشتهيت الحرام ؟ أشتهيت الفجور والأثم ؟ أهذا أنت يا عبد الرحمن ؟ أو قد بلغ الشيطان منك هذا المبلغ ، حتى تقول لجارية لا حق لك فيها إنك تشتهى أن تضع فمك على فمها ؟ ماذا تركت للشيطان بعد هذا ؟ وماذا تخشى من الاثم والفسوق بعده ؟

سبحان الله ! كيف وقع هذا منه ولم ينفطر قلبه ندما على ما فرط فى جنب الله ، ولم تبك عيناه دما ؟ لقد كان  حسبه أن يمر ما دون هذا بخاطره ليقشعر جسمه من  خوف الله ، ويخجل من الوقوف أمامه للصلاة ،  فكيف به  وقد نطق به بلسانه ، وذهب عقب ذلك إلى المسجد الحرام  ليمثل أمام ربه عند بيته المحرم ، كأن لم يأت أمرا إذا ؟

ورجع عبد الرحمن إلى ماضيه ، فحن إلى تلك الأيام الصافية إذ كان فيها خالى البال راضى النفس مستريح الفكر ، ينام مطمئنا ، ويقوم من نومه مطمئنا ، ويقضى نهاره فى المسجد يذكر الله أو يتلو القرآن أو يشهد مجالس العلم ، معرضا عن الدنيا ، صادفا عن باطلها وغرورها ،  سالبا همومها ، مبتعدا عن مدارج الفتن ومسالك الغواية ، تاركا بعض ما يحمل له من الطيبات خشية أن يقع  فيما لا يحل له ، يجالس العلماء والصالحين ، ولا يعرف أرباب  النعمة والثراء ولا محبى اللهو والغناء ؛ وما كان يعرف من  العود إلا اسمه ، ومن الغناء إلا أنه لهو يشغل عن ذكر  الله ، ومن الشعر إلا أنه لغو من القول لا يليق بالمتقين !

فما عدا مما بدا ؟ وما باله اليوم يقعد على الزرابى الوثيرة ويطأ على الطنافس الثمينة ، وينادم ابن سهيل على  الغناء والشعر ، ويجلس عنده إلى قينة جميلة فاتنة ، يرى محاسنها ، ويستمع لحديثها ، ويستمتع بغنائها وتطريبها ،  حتى سلبت لبه وشغفته حبا ، فأبدلته بأنسه هما ، وبفراغه  شغلا ، وبالسلامة خطرا وفتنة ؟ ياليته كان استمع لنصح  صاحبه الشيخ أبى الوفاء وعمل برأيه ، فقد كان أعرف  منه بمكامن الخطر ومراتع الغى ، ومداخل الشيطان  ومخارجه ، إذ نصحه أن لا يعرض تقواه للتجارب متكلا  على صمودها لهجمات الهوى ، وثباتها فى معارك الفتون ،  لعلمه أن النفس أمارة بالسوء ، وأن ملاك التقوى الابتعاد  عن مواطن الشر والفرار من أماكن الريبة ، وأن من حام  حول الحمى يوشك أن يقع فيه .

ولكنه خالف هذا الشيخ الصالح الذى اجتهد بكل ما أوتى من قوة أن يصرفه عن هذا السبيل المحفوف بالخطر ، لا يبتغى بذلك إلا الخير له ، فلم يصغ إليه ، وآثر  جانب الهوى على جانب التقوى ، متعللا بأنه يجد من دينه  وفقهه ما يعصمه عن ارتكاب الزلة ، وينأى به عن الريبة ،  ومن رأيه وحسن تصرفه ما يصلح من أمره ، ويخرج به

من ورطته ، ويجعل من ذلك الحب العارض سببا إلى الزواج الثابث ؛ كان الزواج لا يحسن إلا بالقينات ، أو كأن  القينات أصلح لذلك من الحرائر ، أو كأن الزوجة لا تكمل  إلا إذا احسنت منادمة الرجال ، وحذقت فنون الغناء ،  وأجادت الضرب على المعازف ! أجل لقد ظلم هو أبا الوفاء  إذ جزاه على نصحه القطيعة والهجران ، وهو يعلم حبه له  وأنسه به ، وافتقاره إليه فى حاله تلك من العجز والكبر  والمرض ، مهما انتحل لنفسه فى ذلك من المعاذير ، وتكلف  تبرير موقفه منه بأنه إنما فعل ذلك ليريح الشيخ من جدال  لا غناء فيه ، ويكفيه مشقة الالحاح عليه بالكف عما  لا يستطيع الكف عنه .

وانتقل فكر عبد الرحمن إلى سلامة ، وتمثلها مرة أخرى ، وهى تدنو منه وتراوده عن نفسه فى أول خلوة جمعتهما فى غيبة مولاها الكريم ، الذى أحسن إليها ، وأنزلها من نفسه منزلة المحب المكرم ، فثار ثائره عليها ، وأخذ يسائل نفسه : هل تصلح جارية كهذه تخون مولاها الذى أحسن إليها هذا الاحسان كله ، أن تكون زوجة له ، يأتمنها على شرفه فى مشهده ومغيبه ؟ نعم إنه لم يزل بها ، ولم يجبها إلى ما دعته إليه ، فسلم بذلك عرضها ، ونجت من الأثم الكبير ؛ ولكن ما فضلها فى هذا ؟ إنها قد دعته ، ولو أجابها لزلت ، فكأنها بهذا قد زلت . أم يغفر لها هذا لأنها ارتكبته معه هو ولم تأته مع غيره ، وهو من دينه وتقواه فى منعة من الاثم وعصمة من المنكر ! كلا . إن هذا لا يغير من سلوكها شيئا ، ولا يجعل من منكرها معروفا . فحسبه أنه أجنبى عنها ، وأنها دعت هذا  الأجنبى إلى ما لا يحل لها أن تدعوه إليه ، وحسبه أنها  جارية لرجل ، وأنها خانت ذلك الرجل . ويل له ! أفى سبيل  هذه الجارية باع راحته وطمأنينته ، وعرض نفسه للتهم  والأقاويل ، وقطع أسباب الصلة بينه وبين أصحابه الصالحين ؟ ( يتبع )

اشترك في نشرتنا البريدية