الفصل العاشر
لم يهدأ عبد الرحمن بقية يومه ذاك ، فقد خرج من دار ابن سهيل فقصد المسجد ، فصلى الظهر ورجع إلى بيته لينام القيلولة كعادته يستعين بها على القيام ليلا للصلاة وللتهجد ؛ فاضطجع على فراشه ، وتقلب من جنب إلى جنب ، وستر وجهه بطرف ردائه يحجب عن عينيه الضوء لعلهما تغفوان ، ولكنهما ظلتا حيتين فلقتين ما تكادان تفلتان من سيطرة الاغماض حتى يرتفع جفناهما ، فاذا هما مفتوحتان ، فكأن جفنيهما قد شدا بخيوط وثيقة إلى قلبه الخافق المضطرب ، وفكره الهائم فى أودية الأحلام .
فكر عبد الرحمن فيما حدث له صبيحة يومه ، وفى موقفه من سلامة ، فحمد الله على أن نجا من فتنة الشيطان وكيده ، ولولا عصمة الله له ولطفه به لوقع في الاثم ، فما كان بينه وبين أن يزل إلا أن يلين قلبه قليلا فتطغى عليه شهوته فإذا هو من الهالكين .
وتمثلت له سلامة وهى تقول له وقد احمر وجهها وفترت عيناها : يا عبد الرحمن إنى أحبك .
فيقول لها هو : وأنا والله يا سلامة أحبك . فتقول له : وأشتهى أن أضع فمى على فمك . فيقول لها هو : وأنا أيضا أشتهى ذاك . فئاب عبد الرحمن إلى نفسه ، وجعل يكرر هذه الكلمة : " وانا أيضا أشتهى ذلك " , ويقول : ويل لى ! أشتهيت أن أضع فمى على فمها ؟ أشتهيت الحرام ؟ أشتهيت الفجور والأثم ؟ أهذا أنت يا عبد الرحمن ؟ أو قد بلغ الشيطان منك هذا المبلغ ، حتى تقول لجارية لا حق لك فيها إنك تشتهى أن تضع فمك على فمها ؟ ماذا تركت للشيطان بعد هذا ؟ وماذا تخشى من الاثم والفسوق بعده ؟
سبحان الله ! كيف وقع هذا منه ولم ينفطر قلبه ندما على ما فرط فى جنب الله ، ولم تبك عيناه دما ؟ لقد كان حسبه أن يمر ما دون هذا بخاطره ليقشعر جسمه من خوف الله ، ويخجل من الوقوف أمامه للصلاة ، فكيف به وقد نطق به بلسانه ، وذهب عقب ذلك إلى المسجد الحرام ليمثل أمام ربه عند بيته المحرم ، كأن لم يأت أمرا إذا ؟
ورجع عبد الرحمن إلى ماضيه ، فحن إلى تلك الأيام الصافية إذ كان فيها خالى البال راضى النفس مستريح الفكر ، ينام مطمئنا ، ويقوم من نومه مطمئنا ، ويقضى نهاره فى المسجد يذكر الله أو يتلو القرآن أو يشهد مجالس العلم ، معرضا عن الدنيا ، صادفا عن باطلها وغرورها ، سالبا همومها ، مبتعدا عن مدارج الفتن ومسالك الغواية ، تاركا بعض ما يحمل له من الطيبات خشية أن يقع فيما لا يحل له ، يجالس العلماء والصالحين ، ولا يعرف أرباب النعمة والثراء ولا محبى اللهو والغناء ؛ وما كان يعرف من العود إلا اسمه ، ومن الغناء إلا أنه لهو يشغل عن ذكر الله ، ومن الشعر إلا أنه لغو من القول لا يليق بالمتقين !
فما عدا مما بدا ؟ وما باله اليوم يقعد على الزرابى الوثيرة ويطأ على الطنافس الثمينة ، وينادم ابن سهيل على الغناء والشعر ، ويجلس عنده إلى قينة جميلة فاتنة ، يرى محاسنها ، ويستمع لحديثها ، ويستمتع بغنائها وتطريبها ، حتى سلبت لبه وشغفته حبا ، فأبدلته بأنسه هما ، وبفراغه شغلا ، وبالسلامة خطرا وفتنة ؟ ياليته كان استمع لنصح صاحبه الشيخ أبى الوفاء وعمل برأيه ، فقد كان أعرف منه بمكامن الخطر ومراتع الغى ، ومداخل الشيطان ومخارجه ، إذ نصحه أن لا يعرض تقواه للتجارب متكلا على صمودها لهجمات الهوى ، وثباتها فى معارك الفتون ، لعلمه أن النفس أمارة بالسوء ، وأن ملاك التقوى الابتعاد عن مواطن الشر والفرار من أماكن الريبة ، وأن من حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه .
ولكنه خالف هذا الشيخ الصالح الذى اجتهد بكل ما أوتى من قوة أن يصرفه عن هذا السبيل المحفوف بالخطر ، لا يبتغى بذلك إلا الخير له ، فلم يصغ إليه ، وآثر جانب الهوى على جانب التقوى ، متعللا بأنه يجد من دينه وفقهه ما يعصمه عن ارتكاب الزلة ، وينأى به عن الريبة ، ومن رأيه وحسن تصرفه ما يصلح من أمره ، ويخرج به
من ورطته ، ويجعل من ذلك الحب العارض سببا إلى الزواج الثابث ؛ كان الزواج لا يحسن إلا بالقينات ، أو كأن القينات أصلح لذلك من الحرائر ، أو كأن الزوجة لا تكمل إلا إذا احسنت منادمة الرجال ، وحذقت فنون الغناء ، وأجادت الضرب على المعازف ! أجل لقد ظلم هو أبا الوفاء إذ جزاه على نصحه القطيعة والهجران ، وهو يعلم حبه له وأنسه به ، وافتقاره إليه فى حاله تلك من العجز والكبر والمرض ، مهما انتحل لنفسه فى ذلك من المعاذير ، وتكلف تبرير موقفه منه بأنه إنما فعل ذلك ليريح الشيخ من جدال لا غناء فيه ، ويكفيه مشقة الالحاح عليه بالكف عما لا يستطيع الكف عنه .
وانتقل فكر عبد الرحمن إلى سلامة ، وتمثلها مرة أخرى ، وهى تدنو منه وتراوده عن نفسه فى أول خلوة جمعتهما فى غيبة مولاها الكريم ، الذى أحسن إليها ، وأنزلها من نفسه منزلة المحب المكرم ، فثار ثائره عليها ، وأخذ يسائل نفسه : هل تصلح جارية كهذه تخون مولاها الذى أحسن إليها هذا الاحسان كله ، أن تكون زوجة له ، يأتمنها على شرفه فى مشهده ومغيبه ؟ نعم إنه لم يزل بها ، ولم يجبها إلى ما دعته إليه ، فسلم بذلك عرضها ، ونجت من الأثم الكبير ؛ ولكن ما فضلها فى هذا ؟ إنها قد دعته ، ولو أجابها لزلت ، فكأنها بهذا قد زلت . أم يغفر لها هذا لأنها ارتكبته معه هو ولم تأته مع غيره ، وهو من دينه وتقواه فى منعة من الاثم وعصمة من المنكر ! كلا . إن هذا لا يغير من سلوكها شيئا ، ولا يجعل من منكرها معروفا . فحسبه أنه أجنبى عنها ، وأنها دعت هذا الأجنبى إلى ما لا يحل لها أن تدعوه إليه ، وحسبه أنها جارية لرجل ، وأنها خانت ذلك الرجل . ويل له ! أفى سبيل هذه الجارية باع راحته وطمأنينته ، وعرض نفسه للتهم والأقاويل ، وقطع أسباب الصلة بينه وبين أصحابه الصالحين ؟ ( يتبع )
